الكاتب وخبير الشمّ شاندلر بور: «عطور ديور تحف استثنائية تفجّر مشهد الحقبات التي تمثلها»

ليلى حمداوي (باريس) 09 نوفمبر 2014

لا شك في أن الوصيّ على فن الشمّ في متحف نيويورك للفنون والتصميم وناقد العطور السابق في «نيويورك تايمز» يملك أسلوباً فريداً. فهو يتحدث عن العطور بالتعابير نفسها التي يستخدمها الناقد الفني لتحليل لوحة فنية أو منحوتة. شاندلر بور مسؤول عن ثورة في عالم الروائح، وقد أفضت طريقته الجديدة إلى فن يملك خصائصه الفريدة التي تميّزه عن أشكال الفنون التقليدية الأخرى. حماسته معدية، ومترافقة مع معرفة واسعة وأسلوب فريد في الكتابة، مما جعله الخيار المثالي لتأليف كتاب في هذا المجال. إنه يأخذنا في رحلة استكشاف، ويغوص في العلاقة بين كريستيان ديور وعطوره.

الدمج بين نص بور والتعليقات والصور اللافتة يجعل من كتاب Dior The Perfumes أكثر من مذهل للمطالعة. فهذا الكتاب غني في تاريخه كما في حكايته، ويغوص في العالم المترف لديور، ويعزز معرفتنا بالفنّ الشمّي من خلال مجموعة من الصور والنصوص السهلة القراءة والمبهرة جمالياً على حدّ سواء.

«فينسان ليري» وفّر المعلومات والمعطيات التاريخية لبور لإعداد النص الرئيسي، فقد احتاج تحضير هذا الكتاب الثلاثي الاجزاء إلى جهود ثلاثة رجال. أما الشخص الثالث فهو «تيري وايفنباتش» الذي أضافت صوره الفوتوغرافية عنصراً فنياً إليه. واللافت أن بور لا يعتبر جهود الثلاثة بمثابة تعاون، وإنما يتحدث عن ثلاث طرق مختلفة جداً للنظر إلى الكتاب. وعلى رغم تماشي هذه الجوانب الفردية بعضها مع بعض، فإنها تنفصل وتتمايز أيضاً. وتضفي هذه الطريقة الكثير من العمق واللون على الكتاب، مما يعني أن كل شخص سيستفيد بطريقة مختلفة من التجربة.

أحبّ بور الفنّ منذ طفولته ويشعر بأن من البديهي جداً استخدام لغته الفنية الغنية في أمور حسية مثل العطور. «يبدو لي أن الطريقة الوحيدة لفهم العطر بمثابة عمل فني يتمثل في تطبيق النقد الفني، أي اللغة النقدية التي نستخدمها في تقويم لوحة فنية أو موسيقى أو منحوتة. نملك لغة غنية جداً، والواقعية على سبيل المثال موجودة في الأدب والرسم على حد سواء. في الفن الشمّي، يتوافر كل ذلك. مفهوم الواقعية لافت جداً. فالطلة الجديدة عام 1947 ارتكزت على مفهوم الواقعية. إنها مفهوم لشيء لا يملك رائحة. لكن كيف تجسّد فكرة الطلّة الجديدة في العطر؟ العطر مجرّد لكنه يعطيك صورة واضحة جداً. وتعتبر دار ديور استثنائية في هذا المجال لأنها تملك فناناً يفعل ذلك، وهذه هي فكرته».

رحلة بور إلى ديور

إن مقدمة شاندلر بور للعالم المذهل للفن الشمّي ساحرة من دون شك ويسردها بالكثير من الحماسة والدعابة التي تميل إلى السيطرة عموماً على حديثه. كان بور صحافياً سياسياً، عمل في مكتب جنوب شرقي آسيا لصحيفة أميركية، وكتب عن الأعمال والسياسة والاقتصاد. يتحدث اليابانية (إضافة إلى الانكليزية، والفرنسية، والاسبانية، والإيطالية والبرتغالية). في العام 1998، كان في رحلة من لندن إلى باريس لكتابة مقالة عن توني بلير لصحيفة U.S. News، إلا أن رحلة Eurostar أُجلت وراح بور يتحدث مع رجل وصفه لاحقاً بأنه «عبقري الروائح والعطور». ذلك الرجل كان عالماً في الفيزياء الأحيائية ويجري أبحاثاً حول الروائح، وكانت قصته مذهلة جداً إلى درجة أن بور أمضى الساعات الثلاث التالية وهو منخرط في الحديث معه ووقع فوراً في غرام عالم العطور المثير للفضول. أمضى بور الأعوام الأربعة التالية وهو يؤلف كتابه «امبراطور الروائح» The Emperor of Scent. «عندما يزداد وعيك للروائح وفهمك لها واعتيادك عليها، تشعر كما لو أنك كنت مصاباً بعمى الألوان وبات بإمكانك الآن رؤية العالم، وأنا مصرّ على استخدام كلمة رؤية، بعمق وحيوية أكبر مما يمكن تصوره. ولعلّ الشيء المذهل كان يقظة حاسة الشم عندي كشيء منظم ومترابط، ومكوّن رئيسي في حياتي الحسية».

كلمات عن الروائح

بعد الغوص في حياة صانعي العطور في باريس ونيويورك، نشر بور كتاباً آخر تحت عنوان «الرائحة المثالية» The Perfect Scent. وكتب أيضاً مقالة لـ «نيويورك تايمز» تحدث فيها عن مغامراته، فطلبت منه الصحيفة إثر ذلك أن يصبح ناقد الروائح لديها. وافق بور على ذلك ليصبح الناقد الفني في جريدة «نيويورك تايمز» حيث كتب عن الروائح في عمود «كلمات عن الروائح» الذي لاقى شعبية كبيرة، واستمر افتتان بور بالفن الشمي في النمو والازدياد.

كل عطر نوع من الفن

إن قدرة بور على وصف العطور بلغة فنية غنية تجعلها العطور تبدو أكثر حيوية وتعبيراً. ويسمح لنا ذلك برؤية العطر، بتخيل الصورة والتقاطها بالطريقة نفسها التي يعتمدها خبراء الشم وصانعو العطور المتمرسون. يحدد بور كل واحد من العطور على أنه نوع من الفن، ويعتبر Diorama أحد أعظم أعمال الفن التعبيري التجريدي. وعن Diorissimo يقول إنه الواقعية، فيما Dune الفن التمثيلي، كما لو أنه مشهد أمامك. «كل فن يمثل حقبته. لا بد من أن يتطوّر. كان العطر Poison تحفة استثنائية فجّرت المشهد الذي تمثله، اي الحقبة المادية والجاذبية الحسية بطريقة لم نشهدها من قبل. تخطى العطر كل الحدود آنذاك. لم يعكس فقط الحقبة، وإنما كان مهماً جداً إلى درجة أنه بدّل تلك الحقبة. كان تحفة فنية حقيقية. أعتقد أنه لا يزال هناك مكان لكل تلك العطور من الحقبات الماضية. كل الفنون تتغير، لكن كل الفنون تبقى مناسبة إذا كانت رائعة. الفن هو شكل الذكاء الأكثر قابلية للانتقال. فحين تضع المرأة Diorama، علماً أنه يجدر بكل امرأة تجربة ذلك العطر لأنه مذهل، فإنه يبدّلها، كل ما نضعه يبدّلنا. منحتُ Diorama خمس نجوم في صحيفة «نيويورك تايمز». إنه تعبير تجريدي. والمذهل في العطر أن رائحته تبدو كأنها صنعت للغد فيما العطر يعود إلى العام 1949».

التّحدي الكبير

لقد كان جمع التاريخ الغني لعطور Dior في كتاب واحد بمثابة تحدٍ كبير. فلا يمكن جمع كل العطور ولا بد من الانتقاء. لذا، اختار بور العطور التي أحبها، العطور التي أعجبته، وعطوراً أخرى لم يفكر فيها كثيراً. هذه الصراحة في جعل خبير شمّي يؤلف الكتاب، بدل اختيار فرد من فريق ديور، هي بلا شك طريقة جديدة وتضيف انفتاحاً جميلاً على العمل المنجز. في الأساس، لم يشأ بور تأليف الكتاب لأنه اعتقد أنه قد لا يكون قادراً على السيطرة التامة على الأمور. وبصفته شخصاً شغوفاً ومطلعاً على الفن الشمّي، لم يشأ «الانغماس» مع دار معينة.  لكن عندما أدرك أن دار ديور لا تسعى وراء جردة عذبة لعطورها، وأنها تحترم تاريخ بور في الانتقادات، وافق بسعادة على إنجاز المهمة.

غوص في الأرشيف

احتاج بور إلى 18 شهراً للقيام بالأبحاث وتأليف الكتاب، مستخدماً أرشيف ديور لتزويده المعلومات. وقد ذهل فعلاً بما اكتشفه عن كريستيان ديور نفسه. «لقد عاش حياة استثنائية بكل معنى الكلمة، وكانت حياته غريبة جداً. لقد ولد في عائلة صناعية ثرية خسرت كل شيء خلال مرحلة الانحطاط الكبير. عاش حياة الترف الإسراف، ثم انتقل إلى الفقر المدقع، ولم يصبح في النهاية رجلاً ثرياً فقط ،بل مشهوراً بدّل العالم».

«دار ديور استثنائية. أُسست عام 1947 ولا تزال موجودة حتى اليوم ولم تتوقف يوماً عن التطور والتقدم. لطالما أحبّ ديور جمع الأشياء النفيسة. أنا أتحدث عن السيد ديور عندما كان على قيد الحياة، وكذلك عن الدار لأنها لا تزال حتى اليوم رائدة في الفنون. وهي في هذه الحالة رائدة في فن العطور. المسؤولون في ديور روّاد، وقيّمون، وهواة جمع، ومهتمون بالفنون. كان ديور صاحب معرض فني. لم أكن على علم بذلك قبل أن أبدأ هذا الكتاب. عاش حياة استثنائية بكل معنى الكلمة. عرض أعمال دالي وبيكاسو. فنانون أرادوا بيع أعمالهم، أرادوا الإعلان عن أنفسهم. هذا هو الإطار. أنا أتحدث عن القارورة والعلبة. هذا جميل لأن ديور تملك مسؤولية تأطير هذه الأشياء. كل الأمور المادية التي نراها تمثل الأوقات المختلفة والطرق المختلفة التي أدّى فيها ديور دور القيّم على الفنون، وكانت هذه أعماله الفنية. نعرف أن العطر Poison هو تحفة فنية، ونعرف Diorama ، وDiorissimo ، و Eau Sauvage... إنها مجموعة جديدة. إنها جريئة. إنها خطوة إلى الأمام وسوف نرى رد الفعل. أعتقد أن بعضها استثنائي فعلاً، لكن هكذا يتعاون المعرض الفني مع الفنان لعرض أعماله الجديدة في السوق».

هذا الكتاب هو بمثابة مراجعة فريدة لدار ديور، إذ يستكشف العطور نفسها، إضافة إلى حياة السيد ديور: حبه لحديقته، الأزهار التي استلهم منها الأفكار والفن الذي جمعه وأعجب به. هذا الكتاب هو تحفة فنية حقيقية، والكلمات التي خطّها بور ترسم صورة حيوية ومفعمة مثل أكثر العطور سحراً وجاذبية.