كلمة ونظرة وتهميش ومحاولات للإحباط ثورة النساء على التحرّش النفسي!

التحرش الجنسي, التحرش النفسي, العنف ضد المرأة, حقوق المرأة, مرض نفسي

28 يوليو 2013

يخطئ من يظن أن التحرش الجنسي هو التحرش الوحيد الذي تتعرض له المرأة في مجتمعاتنا، فهناك نوع آخر من التحرّش لا يقل قسوة وخطورة، وهو التحرش النفسي الذي تعاني منه الفتاة منذ طفولتها عندما تطلق ضحكة صافية فتجد من يكتمها بعبارة «اخفضي صوتك عيب».
تلك هي البداية التي تتطور كلما كبرت الفتاة وانطلقت إلى المدرسة والجامعة والعمل والشارع، لتواجه العديد من أشكال التحرش بها نفسياً وتهميشها وتجاهلها وتعمّد وصفها بالنقص لمجرد كونها أنثى.
«لها» تخترق عالم التحرش النفسي بالمرأة، ترصد أشكاله وتحدياته وطرق مواجهته
.


خطوة تلو الأخرى تقطعها بقوة في محاولة للهروب من مراقبة الشارع لسيرها المضطرب، انتهت للتو من صفع باب المنزل بعد مشاجرة يومية اعتادتها صباحاً لخروجها المتكرر إلى العمل. الأعوام الأربعة الأخيرة من سنوات عمرها الـ24 أمضتها في العمل، وسط محاولات الإحباط المستمرة بعد تخرجها في كلية العلوم وعملها في إحدى الصيدليات التي قرر صاحبها عدم فتح باب العمل إلا للفتيات، ليس بدافع الكفاءة ولكن لكونهن لن يناقشن الراتب أو عدد ساعات العمل. هذا ما اكتشفته شيماء عمر قبل أن تبدأ عملها في الصيدلية التي تركتها بعد فترة اعتبرتها استغلالاً من مديرها في العمل لكونها فتاة ضعيفة لن تناقشه في التحكم فيها أو توبيخها المستمر أو عدم موافقته على رفع راتبها، وغيرها من المضايقات التي زادت شعورها بعدم الارتياح في مكان عملها.

«طالما شعرتُ بالتمييز في العمل، ونسب المجهود لكوني فتاة يظن البعض أن لديَّ طرقاً أخرى لإنجاز عملي بشكل أفضل». هكذا بدأت شيماء حديثها عن تجربتها مع ما وصفته بالإيذاء النفسي المتواصل من المحيطين بها في العمل والشارع، لكونها فتاة تحاول اختراق عالم الرجال في مجال تسويق الأدوية في إحدى الشركات الكبرى.
وتضيف: «العمل في مجال التسويق بالنسبة إلى الفتاة تلتصق به دائماً مجموعة من الاتهامات التي تظهر في العبارات المتطايرة والنظرات التي تحمل معاني أخرى من زملاء العمل الذين يؤمن معظمهم أن الفتاة لها طرق سحرية خاصة بها لتحقيق إنجازات عالية في العمل، فأنا أعاني دائماً من مواجهة الأحاديث الجانبية التي تصل إلى أذنيّ بوضوح عندما أحقق أرقاماً جيدة في بيع الأدوية، وهو ما ينسب دائماً لكوني فتاة «دلوعة» أستطيع تسيير أموري. وغالباً ما أشعر بالإحباط والضغط النفسي لإثبات كفاءتي في العمل بعيداً عن كوني فتاة كما يرى الجميع».

أما داخل منزلها فتتمنى شيماء نفض ما تواجهه في العمل من مضايقات يومية وكلمات عابرة تحاربها معظم ساعات اليوم، ولا يمهلها الأهل فرصة للراحة قليلاً قبل إثارة القضية اليومية في انتظار «العريس المرتقب»، مما بدفع بها للشعور بأن تأخر الزواج هو ذنبها وحدها، وعليها التصرف سريعاً حيال أمر العثور على عريس قبل أن يبدأ المجتمع النظر إليها «كعانس» أخرى.
قصة شيماء في مواجهة الضغوط النفسية في العمل ليست قصتها وحدها، فهي كغيرها من الفتيات اللواتي قررن العمل في مجتمع يرى في الفتاة كائناً أقل أهمية على حد تعبيرها. وهي ترى أن حياة فتاة في العشرينات لا تخلو من تحرش نفسي مستمر في كل مكان عليها التوجه إليه، وليس فقط التحرش الجسدي هو ما تخشاه شيماء وغيرها، فهي تعرف جيداً أن المجتمع لن يقبل بسهولة كونها فتاة وسط الرجال. 


صوته أعلى

عقارب ساعتها تقترب من الحادية عشرة والنصف مساءً، تأخر الوقت وعليها العودة مسرعة تجنباً لنظرات حارس العمارة في ساعته لقياس وقت رجوعها اليومي. ضغطت على البنزين مسرعة لقطع الشارع الخالي تقريباً من المارة وعقلها يبحث عن مبررات للعودة المتأخرة. صدمة مباغتة لجانب سيارتها الأيسر أفاقتها من شرودها وأنزلتها مهرولة لتدرك الموقف وحدها، كما اختارت الحياة بمفردها، والاعتماد على نفسها ومواجهة المجتمع. السيارة تحولت إلى قطعة من الخردة نتيجة لخطأ لم تقترفه. من السيارة التي صدمتها ترجّل شاب عرف مسبقاً كيف سينجو من دفع تكاليف الحادث لمجرد كونها فتاة بمفردها في وقت متأخر لن تستطيع رفع صوتها ضده أو مطالبته بتصليح السيارة. نظر إليها قبل أن يرفع صوته متهماً إياها بالغباء قائلاً: «ما بتعرفوش تسوقوا بتنزلوا من بيوتكن ليه؟»، بنظرات مذهولة لم تتمكن من الرد على صراخه المتواصل وفضلت تركه يذهب دون أن تنبس بكلمة.

القصة التي اختارت أميرة عصام عسل، ذات الثلاثة والعشرين عاماً، سردها كأحد المواقف التي شعرت خلالها بالرعب والتحرش النفسي الصارخ، لم تكن قصتها الأولى لمواجهة التحرشات النفسية من المجتمع في رحلة عملها كمسؤولة تسويق شابة في إحدى الشركات الكبرى تحسدها العيون على ما استطاعت الوصول إليه، ولا يخفي مَن حولها تساؤلاتهم حول طريقة وصولها إلى هذا المنصب الذي يرجعه معظم الناس إلى كونها فتاة ذات طلة مميزة تؤهلها لمهنة لا تعترف بكفاءتها بقدر اعترافها بمظهرها، وغيرها من المواقف التي تضطر لمواجهتها يومياً في العمل والشارع أثناء تجوالها بالسيارة.

تقول أميرة إنها اختارت الخروج ومواجهة الضغط النفسي يومياً من الجميع، سواء زملاء العمل أو من يأخذ حقها في الطريق لأنها «فتاة» في سيارة لم تبذل جهداً في الحصول عليها، كما يفضل سائقو التاكسي تذكيرها كلما فتحت شباك السيارة.
تضيف: «غالباً ما أشعر بمحاولات التقليل من شأني لمجرد نزولي إلى العمل وممارسة حقي في الحياة. وأكثر ما يضايقني هو نظرات حارس العمارة في ساعته عند عودتي من العمل، وتساؤلات سايس الكراج عن مشاويري المتكررة. لا أملك في مثل هذه المواقف سوى الصمت أو الرد بعصبية على كل من يحاول اقتحام حياتي بالأسئلة التي تزيد إحساسي بأن البنت مكانها المنزل، منعاً لرصد الشارع سلوكها أو طريقة حياتها ومظهرها. ولا يرتبط الأمر بكوني أسكن في مكان راقٍ أو أعمل بمهنة محترمة، فمهما كان الأمر تواجه الفتاة يومياً رصداً متعمداً لتحركاتها، وغالباً ما يتطور الأمر إلى التعابير الصريحة والكلام المرسل عما تفعله، خاصة إذا لمس من حولها ما بداخلها من طموح أو نجاح في العمل».


خلع الحذاء 

سنوات عمرها لم تتجاوز الستة عشر عاماً بعد، مظهرها البسيط وابتسامتها الواسعة تخفي خلفها فتاة خالية لا تحتوي سنوات حياتها المعدودة على تفاصيل تذكر. حملت حقيبتها وارتدت ملابس المدرسة الرمادية الفضفاضة وتوجهت إلى مدرستها بنشاط، قبل أن يقلب ما حدث نشاطها إلى إحباط ودهشة لما لم يتمكن عقلها من استيعابه بعد. على باب الفصل نظرت إليها المدرّسة باحتقار متفحصة هيئتها حتى وصلت إلى الحذاء الذي ظهر تحت ملابسها الواسعة، صرخت فيها دون مقدمات:

«ما هذا الحذاء الذي تنتعلينه!  اخلعيه قبل أن أمسح بكرامتك الأرض».

لم تتمالك دموعها أثناء دهشتها من موقف المدرّسة التي استدعت مديرة المدرسة، وأجبرتاها على خلع حذائها وإلقائه في الفناء، والتجول حافية القدمين بدموع الحرج ونظرات السخرية من بعض زميلاتها ونظرات الحسرة من البعض الآخر. لم يتجاوز رد مديرة المدرسة جملة «من حقي أعمل أكثر من هذا»، عندما توجهت والدة الفتاة إلى المدرسة للاستفسار عن الأمر.

قصة الفتاة التي أجبرتها المدرسة على خلع حذائها ليست الوحيدة الشاهدة على ما تواجهه الفتيات من العنف والتحرش النفسي داخل جدران المدارس، وهي الشهادات التي نشرتها مبادرة «ثورة البنات» على مواقع التوصل الاجتماعي لكشف ما تتعرض له فتيات المرحلتين الثانوية والإعدادية من إيذاء نفسي بشكل صارخ لا يمكن السكوت عنه.


حملة

«العنف والتحرش النفسي بالفتيات في المدارس» هي القضية التي أثارت جدلاً واسعاً بين الحركات المناهضة للعنف والتحرش ضد المرأة في الفترة الأخيرة، خاصة بعد حادثة طفلة الصف الثاني التي أوقفها المدرس في منتصف الفصل وأمر الفتيات بضربها على «قفاها» لعدم ارتدائها الحجاب، وهي الحادثة التي فتحت ملف «التحرش النفسي» ضد الفتيات في المدارس والجامعات، والشارع والعمل، كظاهرة لا تقل خطورة عن ظاهرة «التحرش الجنسي»، وكانت وراء انطلاق حملة «ثورة البنات» الشهر الماضي لرصد أشكال التحرش النفسي بشكل عام، وداخل مدارس الفتيات بشكل خاص. واستطاعت توثيق عشرات الشهادات خلال فترة قصيرة لم تتجاوز الشهر والنصف، وكان أبرز هذه الشهادات هو حادثة الطالبة التي أجبرتها المدرسة على خلع الحذاء في الفصل، وحادثة قص شعر الطالبات لعدم ارتدائهن الحجاب، وقص أظافرهن عنوة، إلى جانب مجموعة أخرى من الشهادات التي توثق حالات سب الطالبات وشد شعورهن، وغيرها من الانتهاكات التي رصدتها المبادرة في محاولة للتصدي لهذه الظاهرة وتشجيع الفتيات على التحدّث بحرية عما يعانينه.

يقول مايكل نزيه أحد أعضاء الحملة: «المبادرة بدأت بعد إحدى الشهادات الشجاعة للطالبة بسنت، من مدرسة الأورمان، بعد أن تعرضت لقص أظافرها قسراً مما أدى إلى كسر أصبعها وإصابتها بتمزق في الأوتار، الأمر الذي دفع ولي أمرها للتوجه إلى المدرسة ليفاجأ برد الفعل العنيف من إدارة المدرسة التي اتهمته بعدم القدرة على تربية ابنته».

يضيف نزيه: «الشهادة لم تتحدث عن حالة بسنت وحدها، بل وصلت شجاعة الطالبة لفضح عدد من الانتهاكات التي تتعرض لها الفتيات في المدرسة، الأمر الذي دفعنا لتدشين الحملة والتحرك لكشف أشكال التحرش النفسي للفتيات في المدارس. وكانت النتيجة مذهلة بعد أن تشجعت المزيد من الفتيات على فضح الطرق العنصرية في التعامل معهن داخل المدارس، وحتى الخاصة منها، بحجة أنهن فتيات لم تتم تربيتهن جيداً!». وعن رأيه في ظاهرة التحرش النفسي وتأثيرها على الفتيات من واقع عمله كعضو في الحملة، يقول نزيه: «التحرش النفسي ظاهرة تتعرض لها الفتاة في معظم مراحل حياتها، بأشكال مختلفة من التهميش والتقليل منها، ومن قدرتها على النجاح وشق طريقها بنفسها باعتبارها كائناً أضعف، على العكس تماماً مما أثبته الواقع من نجاح للفتيات في الحياة بمختلف مجالاتها، وقدرتهن الكاملة على ممارسة أي عمل يمكن أن يقوم به الرجل».أما عن حملة انتهاكات المدارس فيقول : «الحملة توجهت لرصد الانتهاكات التي تعانيها الفتيات في المدارس، وهدفنا هو تشجيع الفتيات على الكلام دون خوف، إلى جانب الوقفة الاحتجاجية التي نظمناها اعتراضاً على حوادث خلع الأحذية والضرب في الطابور وغيرها من الانتهاكات». وطالبت الحملة الأسر المصرية بسرعة التبليغ عن الانتهاكات البدنية والنفسية التي تتعرض لها بناتهم في المدارس.


رسالة 

«جمعية النهوض بالمرأة» كان لها دور في صد ظاهرة التحرش النفسي بالمرأة، ومحاولة تهميشها في الدستور والقانون بشكل عام، كما كان لها رد واضح على حالات التحرش النفسي التي تعيشها الطالبات في المدارس.
تقول رئيسة الجمعية الدكتورة إيمان بيبرس: «تنامي ظاهرة التحرش النفسي بعد الثورة بشكل خاص أمر متوقع، خاصة بعد أن تعمدت الدولة إهانة المرأة في الدستور والقانون، مما فتح المجال لإهانتها في الشارع والعمل، وتحول التحرش النفسي إلى سلوك مسموح وطبيعي».

وتضيف: «لفظ التحرش لا يقتصر على اللمس أو الانتهاك الجسدي، فهو يشمل كل ما يمكنه التهميش أو التقليل أو الإيذاء، سواء النفسي أو الجسدي. وأنا أرى أن المجتمع يحاول إيصال رسالة واضحة للمرأة، وهي أن مكانها ليس بيننا وأن مكانها الطبيعي هو المنزل فقط».
أما عن ظاهرة التحرش النفسي بالطالبات في المدارس، التي كان لجمعية النهوض بالمرأة مشاركة فاعلة في رصدها في الشهر الماضي، فتقول إيمان بيبرس: «لم أتوقع أن يصل الإيذاء النفسي للفتيات لحد التحرش بالأطفال في المرحلة الابتدائية والإعدادية، وإجبارهن على ارتداء الحجاب أو معاقبتهن بالضرب أو السب، وهو ما وصل إليه الأمر في عدد كبير من المدارس، التي قامت الجمعية برصدها في الفترة الماضية، ووصل عدد حالات التحرش النفسي إلى 48 حالة تحرش بالطالبات في المحافظات، وثلاث حالات هتك عرض بطالبات ابتدائي، إلى جانب حالتي تمييز ديني وعرقي، وهو ما لا يمكن السكوت عنه. وعلينا الضغط لتغيير القوانين، وإدماج التحرش النفسي ضمن تعريف التحرش كجريمة يعاقب عليها القانون».


ثقافة قديمة 

التحرش مرض نفسي واجتماعي كما أكدت الدكتورة هالة حماد، استشارية الطب النفسي للأطفال والمراهقين والعلاج الأسري. وقالت إن التحرش النفسي يمارسه المجتمع الشرقي عموماً على الفتيات منذ طفولتهن المبكرة، بتربيتهن على «العيب والغلط»، كما وصفت معاملة الأهل للفتاة على أنها موجودة في المنزل لخدمة أخيها أو والدها، ثم ذهابها للمدرسة ومطالبتها بزي معين وطريقة معينة في الحديث، وما يفرضه عليها المجتمع من قيود بمجرد وصولها الى مرحلة البلوغ، وغيرها من المراحل التي تمر بها الفتاة طوال حياتها، وتتسبب في شعورها بعدم الراحة في كل تصرفاتها، التي تشعر بأن المجتمع يتابعها بعيون ناقدة دائماً.

تضيف حماد: «التعامل مع الفتاة منذ صغرها بتمييز عن الصبية، الذين يعطيهم الأهل الحرية الكاملة على الرغم من احتمال تعرضه للخطر بالقدر نفسه، هو ما يزيد من شعور الفتاة بأنها منبوذة من المجتمع ويعزز لديها الشعور بالخوف من مواجهة الحياة بمفردها، إلى جانب ما تواجهه معظم الفتيات حالياً من إلقاء اللوم عليهن في تأخر سن الزواج، وهو أكبر أشكال الإيذاء النفسي التي تتسبب في قبول أول من يتقدم، لخوفها من معاملتها كعانس، وهذا هو أكبر الأخطاء الاجتماعية التي زادت معدلات الطلاق».

وعن الأضرار النفسية الناتجة عما تتعرض له الفتيات من تحرش نفسي طيلة حياتها، تقول: «الإحباط واليأس والخوف من مواجهة المجتمع أبرز المشكلات النفسية التي أضطر للتعامل معها يومياً في الحالات التي أراها، وغالباً ما وقعت هذه الحالات في شرك التحرش النفسي، سواء من الأهل أو الزملاء في العمل أو المدرسين في المدرسة، من خلال طرق التعامل مع الفتاة على أنها غير قادرة على النجاح، أو الإنجاز في حياتها من جانب، وغير قادرة على تحقيق التوازن بين حياتها الشخصية والمهنية أو الاجتماعية من جانب آخر. وأرى أن التحرش النفسي ثقافة قديمة اعتادها المجتمع ، خاصة في التعامل مع الفتيات، وهي الثقافة التي لم يثر عليها المجتمع حتى الآن، وأتوقع ثورة نسائية وشيكة لتصحيح الأوضاع».