ماريا باجيس في مهرجانات بيت الدين

ماريا باجيس, مهرجانات بيت الدين, لبنان

06 أغسطس 2013

«الراقصة هي اللحظة نفسها، تنظر إليها فتتحوّل إلى لانهائية في المكان، وذبذبات حركتها تُعيدنا إلى خفّتنا، إلى شفافيتنا».
استحضرتني هذه الكلمات التي كتبها الشاعر الفرنسي بول فاليري في «روح الرقص» وأنا أشاهد راقصة الفلامنكو الإسبانية الشهيرة ماريا باجيس.

في تلك الحفلة، كان الهدوء والصمت يُخيّمان على جمهور مهرجان بيت الدين في لبنان. العينان وحدهما مفتوحتان لتأمّل كلام الجسد. للحظات تُنسيك هذه الفنانة الإسبانية أنّها ترقص، وتأخذك نحو عوالم تختلط فيها الفنون.
ففي وصلة راقصة قدّمتها بفستان أحمر طويل، دخلت باجيس في مشهد درامي. كانت تُحرّك يديها وكأنها ترسم بهما لوحات وجداريات.
عطفاً على ذلك، أشعرت جمهورها بأنها تُقلّد بجسدها كلّ شيء.
فتتحوّل مرّة إلى نسر يستعدّ للطيران، وأخرى إلى سمكة تغوص في أعماق البحار. هكذا، أحسّ الحاضرون بأنّ الحفلة الراقصة تحولت إلى حفلات تتشابك فيها الفنون بجسد واحد.

الإختلاف كان واضحاً منذ البداية. أجواء تلك الحفلة لا تُشبه أي حفلة أخرى. فعلى غير عادة، الأضواء كانت خافتة تلك الليلة. الظلام وحده سيّد المكان. نتقدّم نحو المسرح متوجسّين من أن تكون الحفلة أُلغيت، أو أننا أخطأنا الموعد. جمهور هذه الليلة من نوعية خاصة.
إنهم من هواة المسرح والرقص، يُفضلّون التأمّل والتفاعل على الترفيه والتسلية. الهدوء يُخيّم على المدرجّات التي انسدل عليها ستار أسود دامس.
ووسط هذا الجوّ المُظلم، ينبثق من المسرح نور ضئيل يُرافق مجموعة من الشبّان والشابات. ومنه أيضاً، ينبثق صوت كأنّه طالعٌ من الصخر.
صوتٌ تعتقده لرجل عربي أصيل. يُغنّي الشاب لحناً حزيناً كأنّه الموّال الحزين على إيقاع الغيتار الذي يتحوّل بيد الموسيقي إلى آلة تُشبه العود في نغماتها.
إحساس الناس بهذا النوع من الغناء لم يبدُ مُفتعلاً، بل كان ناجماً عن التفاعل مع فنّ تحسّ بأنّه قرين لفننا وتراثنا العربي القديم.
فـ «الفلامنكو» من الفنون الإسبانية التي تأثرّت مباشرة بالأغنية الأندلسية الشرقية الموروثة، وهذا ما تشعر به في طريقة الغناء من الحنجرة، وفي أسلوب الرقص الذي يعتمد على خبطة الأقدام كما في رقصة الدبكة اللبنانية مثلاً.
بدا العرض في أوّله هادئاً إلى أن صخبت الموسيقى، فتحولّت أقدام الراقصين إلى آلات موسيقية تعلو وتخفت، فتُصدر أصواتاً تتحرّك معها القلوب. كان أعضاء الفرقة يرقصون وكأنّهم شخص واحد، من فرط دقّتهم وتناغم حركاتهم.
وبعدما انطفأت الأضواء على المسرح وتلاشى الراقصون في عتمته، برز جسدٌ بملابس سوداء ضيقة، يتحرّك وكأنّه ظلٌّ سحري.
«إنّها هي»، جملة سمعتها من أكثر من شخص كان يجلس إلى جانبي. فهذا الجسد الطيّع لا يُمكن إلاّ أن يكون لراقصة الفلامنكو الشهيرة وصاحبة الفرقة الإسبانية الأشهر، ماريّا باجيس.

قدّمت باجيس ثلاث وصلات فردية، وأخرى مع الفرقة التي كانت تظهر لتؤدّي أجمل رقصات الفلامنكو الإسبانية على مسرح القصر الشهابي الكبير.
أمّا الوصلات الغنائية فأدّاها ثلاثة فنانين (رجلان وامرأة) من الفرقة، فأدخلت الجمهور في جوّ من الفرح والدهشة بالتعرّف إلى ثقافة أخرى، هي ليست سوى امتداد لثقافتنا العربية القديمة.