رواية جديدة للكاتبة السورية الكبيرة: غادة السمّان بوجهها المتمرّد في «يا دمشق وداعاً»

غادة السمان,دمشق,أعتق مدن العالم,الياسمين,يا دمشق وداعاً,فسيفساء التمرّد

مايا الحاج (بيروت) 07 مايو 2015

حين رحلت غادة السمان عن دمشق، المدينة الأحبّ إلى قلبها، أرادت أن تُغادر بالصورة الجميلة التي بنتها في مخيلتها عن أعتق مدن العالم. سكنت أماكن أخرى، وظلّت أزقة الشام القديمة عالقة في ذهنها، ورائحة الياسمين في أنفها. تتذكر حاراتها المتلاصقة، بيوتاتها الواسعة، أسواقها المكتظة. تستحضرها خيالاً، وكتابةً، فتصير أكثر رقة وعذوبة. بين الشام والسمّان علاقة مدّ وجذر، عشق وتمرّد، حضور وغياب. تلك علاقة ملتبسة تجمع بينهما، وهي إن دلّت فعلى شغف يختزن في صميمه كلّ التناقضات، من الولع إلى الثورة، ومن التماهي إلى الانفصال.
قد تتبدّى معاني هذه الصلة بين الكاتبة ومدينتها الأولى في أعمالها عامة، وبخاصة في «الرواية المستحيلة»، إلاّ أنّها تتضّح أكثر فأكثر في عملها الروائي الجديد «يا دمشق وداعاً» الصادر حديثاً عن منشورات غادة السمّان. وتعدّ هذه الرواية- وهي تحمل عنواناً فرعياً «فسيفساء التمرّد»- بمثابة الجزء الثاني من «الرواية المستحيلة» (فسيفساء دمشقية).
تنطلق الرواية من ذروة الحدث. قراران مصيريان تتخذهما البطلة، زين الخيّال، في يوم ميلادها الثامن عشر. الطلاق والإجهاض. قراران منفصلان متصلان. فهي تأبى أن تستمرّ في علاقة أخطأت حين بدأت بها، وبالتالي لن ترضى بأن تستقبل طفلاً يكون ثمرة هذا الخطأ. فالبطلة التي عانت يتم الأمّ في صغرها، ترفض لجنينها أن يعيش الفقد أيضاً بانفصال أبويه.
تدور أحداث الرواية بين الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ما يعني أنّ أفكاراً مثل الطلاق والإجهاض لم تكن مقبولة بعد، ولا سيما في بيئة محافظة كما هو حال المجتمع الدمشقي. لكنّ زين الخيال هي امرأة سابقة لزمانها، ومتمردة على واقعها، قررت أن تمضي في تحقيق ذاتها بما يرضيها، لا بما يُرضي مجتمعها، فاتخذت من عبارة «أنا صخرة في قاسيون» نشيداً تُحلّق به في أيّ فضاء أرادت. وفي هذه العبارة التي تتردد على لسان البطلة كلازمة على امتداد الرواية إشارة إلى التمازج بين الأرض وابنتها أو بالأحرى بين زين/ غادة ومدينتها/ دمشق. ومثلما عجزت الريح العاتية عن أن تهزّ صخور قاسيون، عجزت ظروف زين المحيطة (فقدان الأم، ثرثرة المجتمع وتقليديته، استبداد بعض المسؤولين فيه، ابتزاز الضابط ناهي لها...) عن إيقاف انطلاقتها الصارخة صوب الحرية.
تقصد زين عيادة الدكتور المناهلي وتتخلّص من جنين لا تريد له أن يعيش ضحية زواج فاشل بين أبويه، وتواجه زوجها- حبيبها السابق- وسيم وتطالبه بطلاق يردّ لها حريتها، ومن ثم تقف صلبة في وجه الملازم الفاسد ناهي رافضة تحقيق رغباته فيها، وإن كان الثمن هو مغادرة دمشق، إلى غير رجعة.
«يا دمشق وداعاً» هو عنوان الرواية، وقد يليق بأن يكون عنوان حياة غادة السمان التي غادرت يوماً دمشق (بعد قرار سجنها) ولم تعد إليها حتى عندما رحل والدها، الرجل الأغلى على قلبها. وهنا تتماهى قصة غادة السمّان مع زين الخيّال التي تقف عند المصنع، أي الحدود بين سورية ولبنان، فتودّع والدها من بعيد وتقول: «ها أنا أخيراً أبكي وأطلق سراح دموعي مصحوبة باللعنات على من حرمني من الانحناء أمام قبر أبي...». ولا يقف التماهي بين الكاتبة وبطلتها عند هذا الحدّ، بل يتعدّاه ليتضّح أكثر في إطار علاقة الشابة السورية زين بالكاتب الفلسطيني غزوان، وهي تعكس في جوهرها علاقة الكاتبة غادة السمان مع الروائي والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني. والمعلوم أنّ صاحبة «كوابيس بيروت» كانت قد أصدرت رسائل غسان كنفاني إليها قبل سنوات ولاقت انتقاداً من بعض الذين رفضوا للمناضل الكبير أن يظهر بصورة العاشق المتيّم.