قيل وقال

سلوك اجتماعي خاطئ يجتاح المساحة الشخصية وتدخل ضمنه لغة الجسد: عفواً ممنوع الاقتراب!

ميس حمّاد (جدة) 26 يوليو 2015

لماذا لا تُحترم المساحة الشخصية في العالم العربي؟ للوهلة الأولى قد يقف القارئ عند مصطلح «المساحة الشخصية» أو ما يعرف بالـ Personal Space، فهذا المصطلح غير متداول لفظياً في العالم العربي، إلا أنه ملموس من خلال المواقف التي تحدث بين أفراد المجتمع، أو ما قد يسببه البعض، عندما يقتربون للتربيت على أكتاف الآخرين أو لمسهم أو الاقتراب منهم، من مشاكل ومواجهات قد تؤدي إلى تشابك بالأيدي. ومن خلال بعض الدراسات في العلوم الاجتماعية، عُرِفت هذه المنطقة بالحيز المكاني أو الفضاء الشخصي، الذي يحيط بالشخص، وهي منطقة غير مرئية ونفسية، تؤثر فيها ثقافة الشخص وجنسه وعمره ومستواه الاقتصادية أوالاجتماعية وغير ذلك. تروي «لها» في هذا التحقيق قصصاً واقعية عن اختراق هذه المساحة من جانب الآخرين، آخذة بالرأي المختص حول الأسباب التي تقف وراء عدم احترام مساحة الآخرين، وسوء التفاهم الذي ينتج عن اللغط بين التودد والتطفّل.

في القسم النسائي لأحد المصارف في جدة، تنتظر أريج بخش (23 سنة) دورها حاملة الرقم 33 وما أن وصل رقمها، تقدمت سيدة أخرى وجلست بجوار الموظفة وبدأت إنهاء معاملتها غير مكترثة بوجود أريج أو حتى بنظر. فما كان من أريج إلا أن ربتت «باللمس» على كتف السيدة، وهمست بلطف: «عفواً منكِ، فهذا دوري»، فرمقتها السيدة بنظرة غريبة، وردت عليها: «تمهليّ قليلاً لأنهي معاملتي». على هذا الحادث علقت بخش قائلة: «لم يكن بإمكاني أن أتشاجر مع هذه السيدة، خصوصاً أنها مسنّة، لكنني استغربت من هذا التصرف غير اللائق منها الذي يدل على عدم احترام الآخرين، والتعدي على مساحتهم الشخصية، بكل وقاحة». انتظرت بخش إلى أن انتهت السيدة وخرجت من المصرف دون أن تلتفت إلى بخش أو تشكرها من باب الأدب (على حد قولها).

زياد: مجتمعاتنا العربية لا تعتبر حاجة الشخص إلى مساحة خاصة أمراً ضرورياً
ذكر أحمد زياد (24 سنة)، وهو موظف في القطاع الخاص، موقفاً حدث معه عندما ذهب إلى ملاقاة أصدقائه، وكان بينهم غرباء كبارٌ في السن، يقول: «أنا أحترم الأشخاص وفق فئاتهم العمرية، وأذكر موقفاً حدث معي عندما مررت بأصدقاء لي كانوا يجلسون في مطعم فذهبت لأسلّم عليهم، وما أن هممت بالمغادرة حتى قال لي مسنّ كان برفقة أصدقائي «اجلس معنا لنستمر بالضحك عليك»، فتجهم وجهي في لحظتها ورمقته بنظرة غريبة،. فتدارك ما قاله وعاد ليكرر أنه لا يقصد التهكم عليّ بل إن المغزى هو الاستمتاع مع الأصدقاء. لم أرد عليه وودعت أصدقائي وخرجت من المطعم وأنا أحاول استيعاب ما حدث، وكيف لم أرد عليه». ولفت أحمد إلى أن «روتين الحياة في المجتمعات العربية تفتح باباً من عدم احترام مساحة الآخرين أو احترام مشاعرهم، فلا يعتبر ذلك تودداً ولا تطاولاً، وأعتقد أن هذا الأمر يعود إلى أساليب التربية».

عمران : ما حدث معي جعلني أعيد النظر في علاقتي مع الآخرين
ومن جانب آخر، قالت ندى عمران (33 سنة) إن «هذا المصطلح غير متداول في العالم العربي والحادث الذي وقع معي، جعلني أعيد النظر في علاقتي مع الآخرين خصوصاً الغرباء. أنا سيدة متزوجة، ولدي ثلاثة أطفال أكبرهم يبلغ الثامنة وفي جوار منزلنا بقالة صغيرة يجلس فيها رجل كبير في السن من جنسية عربية، اعتاد رؤيتنا انا وأولادي وزوجي في البقالة. ما حدث أنه في يوم من الأيام، كنت ذاهبة إلى البقالة وأنا على عجلة من أمري واشتريت حاجاتي، وعندما هممت بالخروج وجّه إلي الرجل سؤالاً كان صفعةَ على وجهي، عندما قال، هل يعرف زوجك أنك خرجت من المنزل في غيابه، حتى وإن كان إلى البقالة؟ فوجئت وتسمّرت في مكاني ونظرت إليه باستهجان، فكيف تجرأ على طرح هذا السؤال عليّ، و ماهي صلة القرابة أو المعرفة التي وصل إليها هذا الرجل ليسألني بهذا الشكل؟ تركت الأغراض وخرجت مُسرعة والغضب ينتابني، وعندما وصلت إلى المنزل هاتفت زوجي وأخبرته بما حدث، فوجئ في البداية لكنه عاد ليُخفف عني ويخبرني أن الرجل سأل من باب الحرص ربما أو لأنه اعتاد رؤيتك برفقتي وبرفقة أطفالنا، لكني لم أقتنع، ومن ذاك اليوم، لم أعد أقترب من هذه البقالة».

فرج: هناك أشخاص يخرجون عن النظام الطبيعي وصمتهم أفضل من تبريرهم
ويختلف التعامل من شخص إلى آخر وفق اعتقاد المهندس أحمد فرج (30 سنة)، الذي يؤكد أن فرض احترامه على الآخرين، لا يتيح لهم التطاول عليه أو التعديّ عليه بكلمة أو بنظرة أو حتى بتعليق قد يضايقه «لكن هناك أشخاص، تجد أنهم يخرجون عن النظام الطبيعي، أذكر في إحدى المرات أن زميلي في العمل سألني (كيف حال شكيب)، فسألته عن هوية شكيب ليتضح في ما بعد أنه يقصد ابني فيصل، فأغضبني الأمر كثيراً، لأنني شعرت بأنه تهكم متعمد من هذا الشخص، إضافة إلى أنه تحدث بهذا الأسلوب أمام أشخاص غرباء، مما جعلني ألتفت إليه بوجه «ناشف» إن صح التعبير ليستدرك الأمر ويبدأ في التبرير لكن بالنسبة إليّ فصمتي في حينها كان أفضل من تبرير ما حدث»، مؤكداً أن «السلوكيات هي مرآة الواقع التي تعكس ثقافة أفراده ووعيهم».

رزانا البنوي: في المساحة الشخصية لا بد من مراعاة فروق الآخرين الفردية
أوضحت مدربة تنمية قدرات شخصية والاختصاصية في العلاقات الإنسانية وعلم النفس التربوي رُزانا البنوي أن «تعريف المساحة الشخصية يُشبه الفقاعة أو الدائرة التي تحيط بالشخص وهي كقطر دائرة ممثلة بمساحة خاصة يتبعها الشخص في الأماكن العامة، كالمطارات أو المستشفيات أو المصارف، ما يعني أي مكان مع الغرباء وليس مع أفراد الأسرة أو مع زملائهم أو أقربائهم، ما قد نستطيع اعتماده عالمياً، إلا إن كانت العلاقة تتشكل بين الطرفين بطريقة مختلفة. كما أن هذه المساحة تُتيح للشخص التحرك، والحرية في مساحة تخصُه وحده».
ولفتت إلى أن المساحة الشخصية «تُقسّم إلى أقسام، بين الغرباء في الأماكن العامة تكون المساحة أكبر، أما المساحة الاجتماعية فتخص زملاء العمل وغيرهم من المعارف، ثم تأتي المساحة الشخصية التي تخص الأصدقاء والمقربين، ثم نجد المساحة الحميمة وهي عادة تخص الشريك، ثم أفراد الأسرة والأطفال. حتى أن هذه المساحة الحميمة تختلف من شخص إلى آخر، فنجد أن هناك شخصيات لمسيّة أو حركية، تحب أن تتحدث بأسلوب «اللمس»، وهناك شخصيات تفضل وجود المساحة، ولا بد للآخرين أخذ الفروق الفردية في ما بينهم بالاعتبار».
وعن أسباب إساءة تقدير مساحات الآخرين في العالم العربي عموماً وفي السعودية خصوصاً، ذكرت البنوي أن لها تجارب حول العالم، فعند الإحتكاك بشعوب مختلفة يمكن لأي شخص أن يتعرض لهذا الشيء، وأذكر موقفاً حدث معي، عندما كنت في بريطانيا أحضر مسرحية وفي أثناء عرض المسرحية، أرسلت رسالة من هاتفي وأضاءت الشاشة، وفجأة وجدت يد رجل كبير في السن تربُت على كتفي ثلاث مرات، مع أن هذا السبعيني ينتمي إلى مجتمع يحترم المساحة الخاصة. لذلك أجد أن هذه المسألة لا تنتمي إلى تقليد معين وفي دولة معينة، وأعتقد أن طريقة تجنب هذه الأمور تكمن في وضع الشخص نفسه مكان الآخرين. ومن الطبيعي ألا يوجد شخص يقبل أن يلمسه أحد الغرباء، أو ينادى بألقاب قد يُساء بينها وبين التودد والتعدي على المساحة الخاصة للشخص». وأضافت: «لا أحبذ نعت من يستخدمون اللمس في التحدث مع الآخرين، أو التودد بألقاب مثل «يا غالية» و «حبيبتي» و «عمري» بوصفه سلوكاً مضطرباً، إنما يجدر القول إن هناك مهنية مطلوبة في أماكن معينة، فالبائعة من الصعب أن تتودد للزبونة بحبيبتي وما شابهه لأنها لا تعرفها». مشيرة إلى أن «الشعوب العربية بصفة عامة شعوب عاطفية،  لديهم صفات الحب والحنان أكثر من الشعوب الغربية،  فنجد أننا حتى في طريقة السلام يجب أن نصافح باليد ونقبّل على الخد، بأشكال مختلفة بين بلد عربي وآخر، وهي تقاليد موجودة لكن هذا لا يعني أن يُساء استخدامها، بل على العكس علينا توجيهها بطريقة صحيحة».

فوزيّة أشماخ: التعدي على المساحات الشخصية سلوك اجتماعي مضطرب نتيجة أساليب خاطئة في المجتمع
قالت مديرة مركز استشارة للتطوير الذاتي الاستشارية النفسية الدكتورة فوزية أشماخ إن المساحة الشخصية «هي نوع من الاستقلالية التي ترتبط بحرية تصرف الإنسان وما يناسبه من أمور تخص محيطه، وخصوصيته، وهذا تعريف للمساحة بالنسبة إليّ، وفي شكل تقريبي هي هالة تحيط بالشخص، نحتاج إليها من نواحٍ عدة بينها الصحة النفسية ومراعاة الفروق الفردية التي تميّز كل شخص عن الآخر. فنحن لسنا مستنسخين لأن كل شخص لديه قُدرات مختلفة وميول خاصة به ورغبات وهو بمثابة العالم الخاص بنا، لكن هذا الأمر لا يمنع تأقلمنا في المجتمع، واندماجنا في كثير من الأمور، لكن لا بد من العودة إلى هذه المساحة».
وأردفت قائلة: «حاجة الشخص إلى لمس الآخرين بغرض توضيح وجهة نظره أو لطلب أمر منهم حتى لو كانوا غُرباء في المتاجر أو الشوارع أو تحسسهم وإن كان بأدب، يعود إلى التركيبة النفسية التي تحتاج إلى الخصوصية ووجود معرفة مُسبقة لقيام بهذه الخطوة، فـلمس أي شخص للآخر في أي موقف أو حادث أو الربت على الكتف، حتى وإن كان عن حُسن نيّة أو أدب، ما هو إلا سوء تقدير للحاجة النفسية إلى الطرف الآخر، ويُعد نوعاً من أنواع التعديّ على المساحة الشخصية للآخرين».
 وعن التودد بالألقاب كعبارات «حبيبي» وعمري» وغيرها، أكدت أشماخ أن «صور التعدي على مساحات الآخرين الشخصية لا تتمثل باللمس فقط، فهناك اللفظ واستخدام عبارات معيّنة مع غرباء، وهي سلوكيات تأتي من طبيعة عاطفية أو كنوع من التودد واللطف لكنها ومن المنظورين النفسي والاجتماعي، تعتبر سلوكاً اجتماعياً خاطئاً ومضطرباً، نتيجة أساليب تربوية خاطئة في المجتمع، ذلك أن التربية العربية لا تحترم هذه المساحة. وعند استخدام مفردات مثل حبيبي مع الغرباء، يكون التطاول واضحاً على المساحة الشخصية للآخرين، وعدم احترام مشاعرهم، وإظهار الشخص وكأنه يتصرف بأسلوب مستهتر غير آبه بمن أمامه أو من يتحدث معه. لذلك من الضروري العمل على تعديل السلوك الخاطئ من خلال إعادة النظر في مسألة التربية الاجتماعية».