أيهما أجمل: باريس أم لندن؟... نهاية قصة حب تكشف مكان الأفق الضائع

باريس,لندن,الأفق الضائع,شانغريلا,منزل,الصداقة,الخشبية,الإقامة,فندق,الفنادق,الأطباق الفرنسية,الطابق السفلي,Cimetiere du Pere Lachaise,Pont des arts,Maison Des Journalistes,Les Deux Magots,رواية

حنين الأحمر 23 أغسطس 2015

في فندق شانغريلا في لندن كنت قد تركت نفسي ملقاةً فوق الكتاب الجلدي الأسود الذي يروي قصة الأفق الضائع. دخلت الغرفة، تأملت فخامتها الفريدة. هنا تزوّج عروسان الأسبوع الماضي وأعلنا حبهما الأبدي. رأيت صورهما على «إنستغرام» تطبيق الصور الخاص بالفندق. هنا بكت عاشقة من أنانية حبيب خان ثقتها.
هنا جدد عجوزان حبهما المترهّل، وهنا خُلّدت شانغريلا التي قررت البحث على محرك «غوغل» لاكتشاف هويتها. فعيناي، من شدة التعب والنعاس، لا تسعفانني لقراءة الرواية.
في «ويكيبيديا» كتب أن «الأفق المفقود» هي رواية للكاتب الإنكليزي جيمس هيلتون كتبت عام 1933 وهي تبدأ بالتقاء أربعة رجال إنكليز (منهم ورثرفورد، ووايلاند وساندرز) في أحد النوادي في برلين ذات مساء، ويدور الحديث عن اختطاف طائرة خاصة صغيره صنعت لأحد المهراجات الهنود من مطار باسكال في الهند منذ أربع سنوات، وكانت متجهة الى بيشاور ولكنها لم تصل الى هناك ولا الى أي مكان، وكان على متنها أربعة أشخاص، ثلاثة رجال وامرأة، وعلموا أن أحد اصدقائهم ويدعى كونواي كان من بين المختطفين الأربعة فسألوا عن مصيره... بعد انتهاء اللقاء، أسرّ ورثرفورد لأحد الرفاق بأنه رأى كونواي يعد الاختطاف في مستشفى ملحق بأحد الأديرة في تشيانغ يانغ وقدم له نسخة من مذكراته عن المكان الذي كان مختطفاً فيه... تحمّست وبدأت قراءة الرواية. شانغريلا «مكان» إذاً وليس امرأة. كانت المكان الذي يحلم به أي إنسان، حيث السعادة مطلقة والشباب دائم والحب موصوف.


عيش لندن بتفاصيلها جعلني أفكّر في سري، أيهما أجمل: باريس أم لندن؟ في باريس، مكثنا في منزل رولان بونابرت ابن أخ نابليون بونابرت، رولان المحب للعلوم، الذي بنى هذا القصر خصيصاً ليحوي ممتلكاته وكتبه. رولان الصديق الصدوق للمهندس غوستاف إيفل الذي بنى برج أيفل ضمن مسابقة لأجمل بناء هندسي على أن يُهدم في وقتٍ لاحق.
بقي البرج إرثاً يحرس مهجع رولان وشاهداً على الصداقة بين الرجلين. هذه الصداقة التي لا يمكن أن تعرف عمقها إلا بعد أن يخبرك حاجب الفندق بأن منزلي الرجلين كانا مفتوحين على بعضهما بعضاً، حتى أن رولان لم يخصّص حديقة لقصره، بل اكتفى بحديقة جاره غوستاف وملعب التنس الخاص به. كانا يتشاركان الحديقة تماماً كما يتشارك زائر شانغريلا سريره مع البرج. القصر هو اليوم فندق، ومنزل إيفل أصبح لزوجة رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري.

في شانغريلا باريس تشعر فعلاً بأنك عدت في الزمن 114 عاماً، فأنت داخل القصر الذي بني عام 1896. 114 عاماً، لم تستطع مس عبق التاريخ المنبعث من القصر المطل على برج إيفل ونهر السين. هناك تمشي على الأرض الخشبية التي مشى عليها نابليون بونابرت، تتأمل البهو وصالوناته المنفصلة وتسمع الكثير عن النحلة، شعار نابليون بونابرت، وماري.

ماري التي لم يُحكَ عنها كثيراً كماري انطوانيت ملكة فرنسا وزوجة الملك لويس السادس عشر، صاحبة المقولة المشهورة: «إذا لم يكن هناك خبز... فلمَ لا تعطونهم بسكويتاً؟».

ماري التي تسمع عنها هنا هي ابنة رولان، المرأة الحديدية التي بدأت نضالها مبكراً حتى تنال المرأة حريتها وتحقق كيانها. كانت كاتبة ومحللة نفسية، وارتبطت ارتباطاً وثيقاً بسيغموند فرويد. حتى انها ساهمت بثروتها في مجال التحليل النفسي، ودفعت من أجل تمكين فرويد من الهرب من ألمانيا النازية.

الإقامة في هذا القصر المُدرج على لائحة المعالم التاريخية في فرنسا منذ عام 2009، تشبه السير تحت مطر «الشتوة» الأولى برائحة ترابها، تشبه انتظار الذئب في ليلة اكتمل فيها القمر. هي خرافة أشبه بخرافة الرقم 8 الذي تجده أينما التفتت في الفندق.
فهو رقم الحظ لدى الصينيين بعكس الرقم 4 الذي يعني الموت، وربما تكون الصين البلد الوحيد الذي يحمل فيه «الموت والرقم أربعة» اللفظ نفسه.
وللمتطيّرين منكم أنقل معلومة عرفتها بعد زيارتي شانغريلا باريس تفيد بأن باحثاً في جامعة كاليفورنيا في مدينة «سان دييغو» توصّل إلى أن الوفيات الناجمة عن الأزمات القلبية بين سكان الولايات المتحدة الذين هم من أصل صيني وياباني تميل إلى الارتفاع في اليوم الرابع من الشهر.
وهي زيادة فسرها بأنها ترتبط بالضغط النفسي الذي يشعر به من يؤمن بهذه العقيدة نتيجة الخوف من الرقم أربعة! وبسبب الخوف من هذا الرقم (4)، تتجنب الفنادق والمستشفيات في الصين واليابان وضع الرقم على غرفها.

اكتشاف القصر يلزمه يوم كامل وربما أكثر. خصوصاً أنه يلعب على خيالك الطفولي لقصص الأميرات وفرسان الأحلام، وعلى ذائقتك في الطعام، فتأكل الأطباق الفرنسية وأطباق جنوب شرقي آسيا في La Bauhinia، أو الأطباق الفرنسية الحائزة نجمة ميشلان في L’Abeille، والأطباق الكانتونية الأصيلة في Shang Palace الحائزة كذلك نجمة ميشلان.
تتجوّل فيه وترى كيف تحوّل الإسطبل إلى بركة سباحة مثلاً، وتتنعّم بمركزه الصحي في الطابق السفلي وبعلاجات مذهلة للبشرة، حيث تطالعك بركة سباحة تحتل مكان الإسطبل الذي كان يحوي أحصنة الأمير بونابرت، تركوا فيها القوس الكبير على شكل مخرج والذي كان في الماضي المدخل الذي تدخل منه الأحصنة وتخرج.

أيهما أجمل: لندن أم باريس؟ باريس التي غمرتني بلطفها، فجعلتني أشهد أحداثاً تاريخية مثل ضم شخصيات جديدة إلى مقبرة العظماء Cimetiere du Pere Lachaise (مقبرة بير لاشيز)، المقبرة التي تتمتع بجاذبية غريبة كونها تضم العديد من مقابر المشاهير كالمغنية الفرنسية إديث بياف والكاتب اوسكار وايلد وجيم موريسون والكثير غيرهم.
كما جعلتني أشهد على إزالة أقفال الحب من Pont des arts الذي كان من أجدد الأماكن الجاذبة للسياح الذين كانوا يعلّقون الأقفال كتعبير عصري عن الحب.

الحب بات ثقيلاً في هذا الزمان وسهلت إزالته. غير أن باريس لا تنزع عنك هويتك. هي أكثر من مدينةٍ للحب. هي الحب بكل أوجهه حتى القاتلة منها.
هي تلك اللوحة المملوءة بالدماء وسكاكين النحر التي استقبلتني في متحف بيكاسو، هي تلك الرسالة المبروزة في متحف لانفين Lanvin والتي تطلب فيها مصممة الأزياء لانفين سعراً مرتفعاً لقاء فستانٍ صممته، هي ذلك المعرض في La Maison Des Journalistes للمصوّر السوري اللاجئ مظفّر سلمان الذي هرب من موت بلده ليعيش مقابل مقبرة مع صحافيين ومصورين هاربين من مختلف أقطار العالم فتحت لهم فرنسا أبوابها، هي مقهى Les Deux Magots حيث كتب سارتر «الوجود والعدم» وأحب سيمون دو بوفوار.
باريس هي المدينة التي تقبع تحت المدينة، هي أنفاق الميترو وأصوات الموسيقى، هي عروض الأزياء وأناقة دورها... إنها ببساطة سوريالية التاريخ.

أيهما أحببت أكثر؟ ربما تكون نهاية رواية شانغريلا هي الجواب. حين سأل كونواي وهو على سرير المستشفى عن حبيبته الجميلة الشابة، قال له الأطباء: «لا يوجد أحد إلا أنت وامرأة عجوز».
بعد مغادرة شانغريلا عادت الأشياء إلى طبيعتها وأيقن كونواي أن حب حياته لم يكن سوى عجوز عاشت خلود الشباب في شانغريلا وفقدته حين فقد الأفق.