«أسعد الله مساءكم» لزافين قيوميجيان

مساءكم,زافين قيوميجيان,كتاب

مايا الحاج 17 أكتوبر 2015

«أسعد الله مساءكم» مفتتح جميل لكتاب يحاكي الذاكرة اللبنانية جمعاء. العبارة راسخة في الأذهان، وإن لم تعد لها مساحة في قاموسنا الشفوي الراهن. العبارة هنا تتجاوز معناها اللغوي إلى السوسيولوجي، فتغدو لصيقة بصورة فيها الكثير من الوقار والرصانة والجديّة.
بها، كان يفتتح قرّاء النشرة الإخبارية فقرتهم المسائية على تلفزيون لبنان. كان الإعلامي زافين قيوميجيان من الرعيل الأخير للمذيعين الذين اتخذوها تحية يومية إلى المشاهدين، قبل أن تتلاشى لتحلّ مكانها عبارات أكثر خفة، تُذيب تلك المسافة الفاصلة بين المذيع والمشاهد.


حين تُصادف كتاب زافين قيوميجيان الضخم «أسعد الله مساءكم: مئة لحظة صنعت التلفزيون في لبنان» (هاشيت- أنطوان)، تظن لوهلة أنّك تضمّ بين يديك تلفزيوناً، أو الأصحّ قولاً، ذاكرة من ورق.

قبل أن تباشر القراءة، تُدهشك صوره البديعة. ففي كلّ صورة حكاية، وفي كلّ حكاية ذكرى، وفي كل ذكرى غصة على ماضٍ مشرق، ذهب إلى غير رجعة.

ينطلق زافين في كتابه من ولادة تلفزيون لبنان حتى الثمانينات. في السنة الأخيرة من العقد الخامس (1959)، وصل التلفزيون إلى لبنان، ومعه ولدت للبنان ذاكرة شعبية مشتركة، وتغيرت الحياة كما عهدها اللبنانيون إلى الأبد.
ومن لم يُعاصر تلك المرحلة، لا بدّ من أنه عرف عنها من أبويه أو أحد أقاربه. من كان في بيته جهاز تلفزيون فإنه لذو حظّ عظيم. وأثناء بثّ البرامج يصير منزله مقصداً يحجّ اليه الجيران ليتابعوا برامجهم بدهشة كبيرة.
لا يدخل زافين في وصف اجتماعي لما خلّفه التلفزيون في نفس اللبنانيين، إنما يجمع بأسلوب توثيقي مئة لحظة تلفزيونية، هي أهمّ وأشهر لحظات التلفزيون اللبناني في ثلاثة عقود. من لحظة التأسيس وتجارب البدايات في الستينات، والزمن الجميل في السبعينات، فالحرب في الثمانينات. وصولاً إلى العام 1989 وولادة الجمهورية الثانية.

وجوه وذكريات

قبل أن ندخل في صميم الكتاب، نجد أنّ من الضروري الوقوف عند الغلاف برسومه التي تبعث البهجة في نفس الرائي. الوجوه التي تحتلّ الغلاف بوجهيه، الأمامي والخلفي، إنما هي وجوه شكلت وعي اللبناني ثقافياً وفنياً ووطنياً. عبدالمجيد مجذوب وهند أبي اللمع، ثنائي جعل كلمتي «ألو... حياتي» لازمة في أحاديث العشّاق والمغرمين. ريمي بندلي، الطفلة التي طبعت بصوتها البريء مرحلة الحرب الأهلية فكانت أغنيتها «اعطونا الطفولة، اعطونا السلام» ردّاً على أصوات المدافع وأزيز الرصاص. وهكذا من وحيد جلال ونهى الخطيب سعادة إلى شوشو وأبو سليم وصونيا البيروتي.

جاءت فكرة الكتاب من حاجة فعلية إلى توثيق تاريخ التلفزيون. ففي عام 2009، كان التلفزيون يحتفل بذكرى خمسين عاماً على ولادته، وحين قرر زافين إعداد حلقة خاصة بالمناسبة، وجد فقراً في المواد الموثّقة ففكر في العمل على مادة أرشيفية توثّق تاريخ تلفزيون لبنان الغني، على مراحله الثلاث. هكذا جاءت لحظات الكتاب المئة لتختزل أحلام ثلاثة أجيال من اللبنانيين وخيباتهم.

الدراما التي أنتجها تلفزيون لبنان كانت محطة لا تُنسى في الذاكرة اللبنانية. أسماء أبطالها سرعان ما كانت تتحول إلى أكثر الأسماء انتشاراً بين المواليد الجدد مثل «ديالا»، «ميّاسة» و «ربيع» و «سمر».

لم تكن الدراما موجهة إلى فئة معينة، بل إنّ المسلسلات تتنوّع بين ما هو شعبي بسيط باللغة العامية مثل «أبو ملحم» و «أبو سليم» و«الدنيا هيك» وما كتبه كتّاب معروفون مثل يوسف حبشي الأشقر ووجيه رضوان وبول شاوول، وما هو مقتبس من روايات عالمية مثل «الأخرس» (عن رواية «أحدب نوتردام» لفيكتور هوغو) و «البؤساء» (لهوغو أيضاً عن رواية بالعنوان ذاته) و «ربيع» (عن رواية «دايفيد كوبرفيلد» لشارلز ديكنز)، و «البخلاء» (عن كتاب الجاحظ المعروف).

«ليست هذه اللحظات التلفزيونية مجرّد لقطات مبعثرة من أرشيف مغبرّ، وإنما هي محطات صنعت الثقافة الشعبية لأسطورة وطن وذاكرة شعب بنى حلماً سمّاه لبنان، وعاد وحطمه في علبة صغيرة احتلت غرفة صغيرة هي غرفة الجلوس في كل بيت».

من «أبو ملحم» و «حنكشيات» إلى أوّل خطاب متلفز للرئيس شارل حلو وأول ملكة جمال لبنانية بشهادة التلفزيون (1961) وأوّل ظهور تلفزيوني لفيروز خلال عرض «حكاية الإسوارة» (1962) فأوّل قبلة على الشاشة بين نضال الأشقر وفؤاد نعيم، وصولاً الى انقسام التلفزيون بين منطقتي الشرقية والغربية أيام الحرب وتصوير أعمال ارتبطت بذاكرة مؤلمة مثل: «الدنيا هيك»، «فارس إبن أم فارس»، «أربع مجانين وبس»، وبرامج منها: «المتفوقون» قبيل أن تشرق شمس «ال بي سي» ويصير للمشاهد اللبناني العام 1985 تلفزيون آخر بروحية جديدة. المذيعون يبتسمون، المذيعات يتواصلن مع المشاهد باللهجة المحكية. مع انطلاقة التلفزيون الخاص، غاب تلفزيون لبنان. وإذا سألنا «ليش هيك؟» على طريقة «زمرّد» (فريال كريم) ، فلا نملك غير إجابة «المختار» (محمد شامل): «لأنو الدنيا هيك».