black file

تحميل المجلة الاكترونية عدد 1090

بحث

في ديوانها الشعري الجديد رلى الجردي تبحث عن أسطورة ليلى في المدن الخمس

بين بيروت وبغداد، تلتقي ثلاث مدن أجنبية هي بويرتو لاكروز، المدينة الفنزويلية الساحلية المطلّة على بحر الكاريبي، ومونتريال الكندية ونيويورك الأميركية، لتُشكل معاً ديوان الشاعرة اللبنانية رلى الجردي الثاني بعنوان «كليلى أو كالمدن الخمس» (دار الفارابي). 


ووفق هذا الترتيب الجغرافي، تُقسّم الشاعرة ديوانها إلى خمسة مقاطع، أو الأصح قولاً، خمسة أماكن، تمنح كلاً منها صفة وخصوصية: «بيروت غداة الكرنفال» و «بويرتو لاكروز: السمراء الباهرة الحزن» و «نيويورك: الموسيقى الناصعة» و«مونتريال لا تُبالي»، و «بغداد وأنين التلفاز». ويضم كل فصل أو كل مقطع من المقاطع الخمسة عدداً من القصائد التي تحمل في صميمها أجواء المدينة المنشودة والكثير من معالمها وملامحها وذاكرتها. «عدة محيطات/ عدة قارات/ تلتقي وتمتزج في المترو/ الجزيرة تمتقع «بالإكستاسي»/ تلتبس فيها الأحلام/ في البرونكس بصمات/ تفني بعضها بعضاً على الجدران،/ في المدينة خفق أرجل ملونة/ تخسر مشيتها كل صباح/ صفير فوق معيار الأذن/ موانئ سُفلية/ تُخمّن حمولة الأحياء/ بانتظار أن يهرم العمل/ بانتظار الصعود إلى السماء/ والعوم على وجه الهادسون» (قصيدة «وجه الهادسون»/ مقطع نيويورك: الموسيقى الناصعة).
تستعير صاحبة «غلاف القلب» من الذاكرة الشعرية العربية شخصية ليلى، معشوقة قيس بن الملوّح، لتبني عليها قصائدها الممتدة زمنياً بين ماضٍ قديم ولحظة راهنة. فتغدو أسطورة ليلى، بعشقها وجنونها وشغفها وحرمانها، لازمةً تتكرّر في القصائد، وفي وجوه المدن أيضاً. «أركض كليلى وراء/ بوح العاشق النحيل/ أشاهد قافيتك/ أيها المتوسط» (من قصيدة مزاج متوسط/ المقطع الأول: بيروت). ثم إنّ الشاعرة تخرج من لعبة الترميز في قصيدة «أقرباء ذوو غُربة» لتجاهر بوجه ليلى الحقيقي، بمعنى وجودها في نصوص المدن، كأنها مدينة خارجة من رحم كلّ المدن الأخرى، «عن خاتمي الأول أسأل بويرتو/ والسمكة التي عرفتني/ فتهمس: في إصبع ليلى خاتمك/ هي كل النساء/ وأنت مجرد طفلة/ لم تشهد حطام السفن/ ليلى المدينة الطالعة من كل المدن/ اللوح المحفوظ/ ورقم يشبه مفتاح الوريد» (ص52).
تُغازل رلى الجردي المدن، ثمّ تُخاطبها، غير أنّها تتماهى مع المدينة الأولى، المدينة- الأم، «بيروت». فترتدي الذات الشاعرة وجه المدينة وتحكي بلسانها عن جمالها، هزيمتها، ملوحة بحرها، انفصامها...: «أنا بيروت/ مدينة في الحبّ عادلة/ وكالزهر لا أشهد/ على براءة الفراشة/ العين بي مزدحمة/ والقلب لا يبرأ مني أبداً». (من قصيدة «زهرة النيلوفر»/ المقطع الأول). وتعرف الشاعرة، وهي أكاديمية متخصصة في التاريخ الإسلامي والأدب العربي المعاصر، كيف تستفيد من معارفها الثقافية الواسعة في الحضارة العربية، فتُطعّم قصائدها بصور من ذاكرتنا الشعرية والثقافية، فتحكي عن الشاعر بشّار بن بُرد في بغداد، فتقول: «يسأل نينوى بشّار والمدائن/ عن النار الفاتنة/ ومزاج آلهتها/ لا يفتح جيب الجدل/ لا يحب مشادة العقلاء...» (من قصيدة «ماذا يُريد بشار بن بُرد»). وفي قصيدة «قبلة عمر» تقول: «دع عروة يتصعلك/ قليلاً عند الروم/ كبحّار/ ويجرّ هلال بني عامر/ إليّ/ ومُشطاً لشعر اللات/ دعه ينقل جُثث الجوع/ كما كان يفعل / على ناقة صيفه العصية/ دعه يعبر أمواجك/ كشارات مرور».
وهي في استرجاع الزمن الماضي إنما ترسّخ رثاءها لحاضرٍ مُظلم تلوّن بلون الدم والظلام. تُفتّش عن دمشق بين المدن القريبة والبعيدة: «قبل أن يحكّ الموت جسمه/ وتهرب الحياة/ بعيداً منا/ سأصطاد لدمشق سمكة/ لا معتزلية ولا أشعرية...» (ص 134، من قصيدة «رائحة دجلة»). وتسمع أيضاً أنين بغداد وترى خرابها عبر التلفاز: «توقظني قمر/ لأرى بغداد تتقلّص عبر التلفاز/ تتمدّد تارة/ تهمد ساعات/ في داخلي مخلوق يعاتبني/ قدماه على جدران أضلعي/ يُسائلني/ وتتبرّج له الإجابات/ أمامي مُحلّل أميركي/ يحتفظ لنفسه بكلّ الميتات/ كلّ السرقات/ ينسى قبيلة القافية وراءه/ جريحة تتأهب لتعود امرأة» (ص 125، من «كان عناقاً عالياً»). ثم تنقل حسرة بيروت بصوتها: «الوقت سفينة بين غريقين/ وأنا ثالثهما/ في شمال القارات/ تُفتّش الحرب عمن يؤويها/ أو يُجاملها/ لكنها تُطرد في كلّ مرة/ زاحفة إلى أعتابي/»...

المجلة الالكترونية

العدد 1090  |  تشرين الأول 2025

المجلة الالكترونية العدد 1090