زهرة مروة شاعرة تعيش الحياة على دفعات

زهرة مروة,الكتاب: الحياة على دفعات

مايا الحاج 08 مايو 2016

لم تنتظر زهرة مروة أن تبلغ الأربعين لكي تعيش أزمة منتصف العمر. فالشاعرة لم تبلغ الأربعين، وهي السنّ التي استفاض في الكتابة عنها شعراء وباحثون كثيرون، لكنّها بدت في ديوانها الثالث «الحياة على دفعات» (دار الروسم) كأنّها تتخبّط في صميم هذه الأزمة. إنها في «الرقعة الفاصلة بين بين»، تقف وحيدة في منتصف الطريق، لا تُدرك إن كان عليها العودة أم الانطلاق.«أخاف العبور وحيدة، وأن تؤدي بي الدرب الى برهة مفخخة، فتأخذني ريح عاتية، أحتفظ بوجهك، بذكرى تُجرّد الآتي من غربته» (ص 59، من قصيدة «إلى اللحظة المقبلة»).


تبدو زهرة مروة كأنها مسافرة، تنتظر في محطة الانتقال من ضفة إلى أخرى. وتأتي هذه المرحلة الانتقالية لتُشكّل دفعة جديدة من حياة تعيشها على دفعات، كما يوحي لنا عنوان الديوان. «سيارة مسرعة تُباغتني، أزيح عن الشارع، وأنتقل كمن يعبر من الحياة إلى الموت، أو من الحياة إلى فكرتها» (ص 24).
ولو أردنا أن نجمع الكلمات المتكررة في معظم قصائد الديوان لوضعناها في حقل معجمي واحد، «العبور»: «أمضي معك في الرحلة فتاةً يعبر بها القطار مسرعاً، وترى الدروب خطفاً» (ص50، من قصيدة «قف بيني وبينه»)، «أعبر إلى مدينة أخرى، غيومها زهور، ينسج الناس الزمن بهدوء، تتغير لهجة الهواء»، أو «امرأة من تراب/ مساء لم يعد محايداً، عَبَرَ على حد السيف/ غابة تنتظر من يضرم فيها النار» (ص58، من قصيدة «حبل المنطق»).
وعلى عكس المألوف، تشهد الشاعرة، وهي على عتبة الثلاثين، انتقالها البرزخي بين مرحلتين، من دون أن تعرف فرح البدايات أو تهنأ براحة الخواتيم. فتبدو كأنها تنتظر مصيرها على الشفير مثل من يمشي فوق خيطٍ رفيع حرِج. «ممتلئة على حافة البكاء، هزيلة، مرهفة، على شفير الضحك، على شفير الحب، على شفير الشفير».
تتأملّ هذه الدفعة فتراها أشبه برحلة تتحرّك في الزمان، لا المكان. رحلة جديدة غير محددة الجهات، فلا ترى لها بداية ولا نهاية. العبور غير مُتاح، وإن حدث فيكون عابراً، موقتاً، أو ربما متخيلاً. أمّا الانتقال الحقيقي فغالباً ما يكون عبر العودة إلى الماضي، إلى طفلٍ تمسّكت به الشاعرة فخبّأته كي لا تفقد نزقها، نقاءها، براءتها... والأصحّ قولاً كي لا تفقد شاعريتها. «أقتاتُ باللحظة السابقة، أتشبت بأغصانها/ في الزاوية أبقى، لا أعير الهواء اهتماماً. أخشى ألا تنصفني اللحظات المقبلة مثلما أنصفتني ذراعاك» (ص 59).

لكنّ الطفولة المنشودة سرعان ما تستحيل مذهباً تعتنقه الشاعرة كي تواجه به مآسي حياةٍ لا تُحتمل، فتأخذ الطفولة صور شخصياتها الأثيرة مرّة كما في قصيدة «القمر، فجأة» : «في الليل أستحضر وجوهاً ضاحكة لشخصيات كارتونية. أقنع نفسي بأنّ الحياة بسيطة ومهماتها سهلة: كأن يلتقي «بارني» بأصدقائه، ويذهبون إلى حفلة، أو أن يلاحق «توم» «جيري»، أو ذلك الأمير الغني يلتقي فتاة أحلامه. أتحصّن بعالم خيالي ضاحك» (ص40)، ومرّات عبر طفل تحمله داخلها كبوصلة تُحدّد لها مسارها في عالم خارجي معقّد: «يسعفني الطفل الذي فيّ، أجهد أن أحافظ عليه. أغذّي صوته من أصوات الصغار. في غيابه تائهة أنا في العتم./ ليس لديّ غير الطفولة، أواجه بها. أربح لأني بسيطة، بينما الآخرون مكبّلون، حائرون. حارب كثيرون بساطتي، تصديت لهم». (ص41، من قصيدة «ذاك الطفل النرجسي»).
إذا كانت طفولة الشاعرة غير مفقودة، فإنّ استقرارها هو المفقود. وهذا لا يترسخ في فكرة العبور فحسب، بل في قول الشيء وضدّه. تعيش «الأنا» المتكلمة حالة اهتزاز شعوري، وأحياناً منطقي. تُصادق «فتيات في الثامنة عشرة، ثيابهن ملونة مثل أهوائهن» (ص 40)، أو أنها تختار الضحكة الهيستيرية قناعاً يخفي آلاماً جوّانية: «أحتاج إلى ضحكات مهرّج، تحملني على ظهرها، إلى فكرة تالية تُخفّف عني الألم» (ص24، من قصيدة «هدنة»).
تأتي قصائد «الحياة على دفعات» سريعة، خاطفة، مباغتة. بسيطة في أسلوبها، عميقة في معانيها. لا تُكلّف القارئ عناءً كبيراً غير أنها لا تسمح له بأن يتفلّت سريعاً من سطوتها. كأنّ صاحبة «جنة جاهزة» عرفت كيف تستخدم الألفاط المألوفة والمشاعر المعروفة والمواقف المعيشة بلغة مكثفة، جزلة وروح إنسانية مفعمة بالإحساس والحبّ والأحلام. «أسيرة صيغة جامدة. أرشف ألمي مع القهوة. تركد روحي في الشطر الثاني من الوقت، تجمع حممها لتنطلق، تلملم أذيالها المشرّعة على الفضاء. وردة تجمع وريقاتها، تتشعب سراً، تنفض عنها الكون».
قد يكون الحبّ هو الطابع الغالب على قصائد الديوان. وقد أوردته الشاعرة في وجوهه المختلفة، فمرّة تمثّل بالشوق: «بينك وبين وحدتي، أيهما أختار؟»، وأخرى بالرغبة: «مجنونة أنا قبل أن أراك، أبحث بهيستيريا عن جسدي»، وأحياناً بالحنان: «الوردة تعرف من يرويها بحبّ، ومن يسقيها بواجب».
لكنّ الفقد والحزن يُشكّلان معاً تيمةً حاضرة ومكررة على امتداد قصائد الديوان. وفي واحدة من أجمل قصائد أو ربما نصوص الديوان «وراء الكواليس»، تصف الشاعرة حالة الفقد فتقول: «ماذا نفعل بعد كلّ هذا الفقدان؟ تزعزعت المعادلات، هرمت الأشجار التي كانت تسندنا، تدحرج الجبل، تهشّمت الألواح التي كتبنا عليها أسئلة الطفولة./ في لحظة رأينا الصفحة سوداء، كأنّ أحداً من وراء الكواليس تلاعب بالبروجيكتور وغيّر ألوان حياتنا بطرفة عين».