الشاعرة ليلى عساف: على أهبّة الشعر... والقصيدة هدفها الجميل

الشاعرة,ليلى,عساف,القصيدة,الجميل

إسماعيل فقيه - (بيروت) 22 أبريل 2017

تسعى الشاعرة اللبنانية ليلى عساف الى كتابة القصيدة الصافية، وتصل الى مفترقات وتقاطعات اللغة والمعنى، ولا تكترث لمعوقات في دربها الشعري. لذلك هي على أهبّة الشعر، والقصيدة هدفها الجميل، مهما كان صعباً. أصدرت عساف العديد من الكتب الشعرية، وفي كل كتاب قالت خبراً وصورة ومعنى... فماذا تقول في حوار «لها»؟ أجوبتها الدليل الأجمل...


- التجربة الابداعية في الكتابة أو كتابة القصيدة، كيف تتبلور في قاموسك الشعري؟

أحياناَ أشعر بوزن ثقيل فوق رأسي، ولكي أنجو أقفز في التجريب، أتبع حركة السباحة الحلزونية التي هي مقر الطاقة. تأتي الكلمات... ما تبقى من عملية صيد أو افتراس لكل هذا الألم الذي يحيط بنا. يتم ذلك بالتكييف والإيجاز أو باستقطار لحظات الحياة. الإنسان يكون المحور الأساس في لعبة التأليف. أحياناً أبدل وجود الإنسان ببعض مخلفاته أو أشيائه الحميمة، وأشرع في تقليب الأحاسيس والأفكار. تطبخ القصيدة على نار هادئة وأحياناً على نار عالية. الشعر يصون الحضارة والإنسان، فبقدر ما فيه من معنى أو تجدد في اللغة، يكون شعراً فتبقى المعاناة هي رحم الإبداع... في أحيان كثيرة يأتي الشعر محمولاً بالوجع ومشحوناً بالانفعال والقلق والرغبة ليسود المعنى كنتاج المحور والتقطير والحذف. دائماً أمنع القصيدة من أن تكون فضفاضة. لا مفر من الانغماس في معاناة الحاضر التي لا توفر أحداً من الناس لتعبّر عن روح الجماعة... لم أكن يوماً كائناً مكتملاً، أمتلئ بما تعانيه البشرية. أحزانهم وأوجاعهم تفد إليّ من كل زاوية، وعليّ أن أكتب على أمل نسيان ما أكتب. كل يوم هو جديد، نعيشه بطريقة جديدة، فيما رائحة الموت تزداد. عليّ أن أتناسى كثيراً من الأشياء التي تؤلمنا لأعيش بسلام قبل أن ينطفئ هذا الجسد، ويعطي قلبي اللمعان. البداية تكون في استيعاب المشهد اليومي وإعادة تأليفه وتركيبه بشكل إبداعي. 

- كأنك تعيشين في زمن مختلف... كيف هي علاقتك مع الزمن؟
إنها الحياة سواء كنت في أولها أو في منتصفها أو في آخرها. دائماً أنا على استعداد للقفز من قشرة الأرض الى نواتها... تأمل ما قاله ماركيز: «ليس العمر بما يملكه المرء من سنوات، بل بما يملكه من أحاسيس». عليك أن تكون بسيطاً ومتخففاً من عبء السنين التي عشتها لتعطي صورة منعشة ورشيقة. الساعة رمز للوقت الذي عليه أن يمر باتجاه الآتي. الساعة في يدي، ملتصقة بمعصمي، مضبوطة مع صيحة ديك في داخلي. اليوم مقسم الى فترات روتينية، كممارسة وظيفة أو العمل في البيت... تمضي بك الى أقصاها. اللجوء الى العمل الفني كالرسم أو كتابة الشعر يشعرك بالبعد الثالث للزمن، كأنك داخل سمفونية تبدأ بهدوء وتتصاعد أحياناً الى حد الانفعال الشديد، ثم تهدأ وهكذا دواليك... أحياناً أنك في غاية المثالية، لكن سرعان ما تكتشف أن ثمة برغياً مفقوداً. أحياناً نقيس الزمن بالسنتيمترات. هناك نخلة في مكان عملي، عرفتها منذ عشرين عاماً، كانت بقياس قامتي، واليوم تخطت الدور الثالث من المبنى... أنظر اليها فأرى عشرين عاماً من العمل في المكان نفسه... «الزمن لمواجهته». 

- قراءة الشعر واجبة لتكتمل القصيدة في داخلك...
هناك الكثير من الكتّاب والشعراء والروائيين الذين أقرأ لهم. أقرأ كل ما يقع بين يدي وأغوص في كتاب يستهويني. هذا ما علّمني إياه أستاذ اللغة العربية في المرحلة المتوسطة، الشاعر حسن عبدالله... كان يقول لي: «اقرئي أي شيء حتى لو كان قُصاصة من جريدة على الأرض». نعم، المعلم هو الأساس لإطلاق أي موهبة أدبية أو علمية، وقد يكون مدمّراً أحياناً. الأستاذ حسن هو الذي شجعني على الكتابة. اكتشف موهبتي الأدبية من خلال مواضيع الإنشاء. الكتابة الإنشائية سيطرت عليّ في الفترة الأولى، ثم اكتشفت مع الشاعر عباس بيضون كيفية الانتقال من الإنشاء الى الكلام، فكانت الكتابة أشبه بعبور بحرٍ كبيرٍ وعميقٍ لأجل الوصول الى شاطئ الذات بحريةٍ من دون ادعاءٍ أو إحساسٍ زائف... كيف تصغي الى الزمان والمكان؟ كيف تواكب التطور المستمر والمخيف وروح الشعر تسكنك؟ كيف تحول الفكرة الى كلمات أشبه بلوحة؟ كيف تملأ الحياة بالحاضر لا بالذكريات؟ الكتابة أكثر ما احتاج إليه، أتناوبها مع الرسم. للكتابة طقوس، لكي أكتب عليّ أن أنعزل عن كل مصدر للتشويش، وأحاول ألا ألفت نظر أي شخص الى ما أقوم به، اذا كنت وسط الجماعة... وأتساءل بمَ ينفع الشعر؟ مثل كل الفنون، هناك وظيفة نفعية بالإضافة الى الوظيفة الجمالية. إنها سيادة المعنى. هذا ما جعل المتنبي قائماً بيننا. إنه المعنى الذي يجعلك تنتصر على الإحباط وتحافظ على الانسان فيك. إنه فعل مقاومة وتجدد للذات. إنه الحب عند دوستويفسكي: أمل وارتقاء انساني... «ما هو الجحيم؟ معاناة ألا تكون قادراً على الحب». الحب والسعادة، عليك القتال من أجلهما، والإصرار على الوصول والانتماء اليهما من دون هوادة.

- هل منحك الشعر ما يمكنك ذكره الآن ولو باختصار؟
الشعر هو المنقذ. حين أشعر بأنني فريسة محتملة، ألجأ الى كتابة الشعر أو الرسم. منذ فترة وجيزة شجعني بعض الأصدقاء على النشر على «فايسبوك». لمجرد أن يهتم أحد بقراءة ما أكتب، أعتبر ذلك إنجازاً. وكأنك تتابع الحياة من قصيدةٍ الى أخرى. الآخر حين يسمعك أو يصغي إليك... حتى لو كان بينك وبينه زجاج الجهاز. أحياناً كثيرة أشعر بالملل لكوني مغتربة، مجهولة. ذلك على الأقل يعطيني معنىً لما أقوم به، خاصةً بعض التعليقات. كأن الكلمات هي ملاذنا الأخير في عالمٍ يتدحرج سريعاً نحو الهاوية، ربما آخر يرى أنه في صعود نحو القمة... الموت أمر جدّي لا أحب التحدّث عنه كثيراً... أسعى للهروب منه دائماً باعتباره مزروعاً في داخلنا.

- ما هي أمنيات الشاعرة ليلى عساف في هذه الحياة؟
ثمة أمنيات وأشياء كثيرة في الحياة الخاصة والعامة. كنت آمل ألا تسقط بغداد، لكن توالت الهزائم والحروب وجاء «الربيع العربي» حتى أنني شعرت في إحدى المرات أنني لا أُساوي شيئاً (صفر) لأنني لم أساهم في التغيير بوضوح. تمنيت أن أتنقل بين أرجاء الأرض، أن أعيش بين أحضان الطبيعة، أن أتمازج مع المخلوقات من الوردة الى الخنفساء. تمنيت العيش ببساطة، السلام مع النفس ومع الآخر... ذلك يجعلك خفيفاً وطائراً في حياة لا تستحق التفكير بها كثيراً. أتمنى الحب دائماً، لكن الناس قلوبهم متقلبة، ليكن همّك حب الله، ما إن أحبّك الله جعل أفئدة الناس تحبك... تذكّر أنك عابر لتبقى على علاقةٍ سليمةٍ بالكون. دائماً نتمنى أن تنتهي الحروب ويعم السلام البشرية، وأن يعود الانسان الى طبيعته الخيّرة والكلمة الطيبة، ربما لا جدوى من الأمنيات أو الأحلام التي هي ملاذنا الأخير.. أفتح النافذة، أحدّق في السماء، أدعو الله، أشكره على نعمة الحياة... يسرّني أن الموت تخطّاني. إنه آتٍ لا محالة... لكنني صحوت، لم أمت في الليل وأنا في صحةٍ جيدة. أشعر بالفرح وأستعد لمواصلة الجهاد، أي الحياة، أفرد أشرعتي، أرفع مرساتي وأدير الدفة باستقامةٍ نحو الآتي.

- كيف تسير علاقتك بالمكان وتتيسر؟
إنها الأمكنة تمشي وراءنا... أين الهروب؟ سؤال يؤجّل الشقاء ولا يمحوه... أحياناً تستيقظ كما كنت تنزع طبقات وطبقات، أكواماً من الأعوام مكدّسة كالباطون فوق رأسك... أيُّ الأقفال يفك العتمة؟ أفكارك وأحاسيسك، كيس نايلون ثُقب فجأةً ولا صوت... إنها السنوات التي تقتاتها على مهل وتتساءل ما الذي تقدمه من نفعٍ لذاتك وللآخرين؟ الماضي يصير أفقياً حيث نقطة الانطلاق تتهادى في البعيد، لكنني سأواصل المسير لأن ما من وصول. وإذا ما قُدّر لي أن أهوى، فما من خلاص. لأظل مشدودة، منجذبة إلى سلام الحب غاية الحرية، إلى لمسة تعطل الريح... الزمن فينا كثافة وجود، لكن الكلمة مرآة تعكس ضوءاً آتياً من بعيد ينعشك ولا تراه... أستخدمها لأشياء لاحقة، وأسعى دائماً لتجاوز الفردي الى الإنساني الذي هو جوهر كل عمل إبداعي... كأن الحب الذي نختزنه في سويعات هاربة يرفعني فوق هشاشة الحياة وثقلها... حين تحب إنساناً تضحّي من أجله (الإنسان يصبح وطناً)، هذا هو الحب الذي ينقذ. لا يسكن المرء بلاداً، بل يسكن لغة، ذلك هو الوطن ولا شيء غيره... هو يعتبر شهادة على أوجاع العالم وانكسارات القيم الانسانية بقدر ما يكون توثيقياً للتفاصيل اليومية التي يخرجها من حالتها البديهية لتكتسي دلالاتٍ وصوراً جمالية... على المؤلف أن يستخدم خياله، يستعمل قطعاً من الماضي لصنع تشكيلات جديدة للحاضر. يأخذ قطعاً تاريخية، أجزاء محطمة ويعيد ترتيبها في موزاييك معاصر... ننظر الى الشعر كحركة وليس ككرسي لجلوس الكلمات... القصيدة التي تجمع فيها القصة والمسرح والرسم والموسيقى والشعر، إنها عجينة الحياة. لا بد من إعادة الاعتبار إلى الرومنطيقية الشعرية لكي يستعيد العالم توازنه المفقود، كما قال أحد الكتاب: «الشعر مع أنه معرّض للانقراض، يظل احتياجاً (الكتابة ورطة نصرّ عليها). علاقتي بالزمن تفيض عن دائرة الساعة... العمر يمشي في جبينك وفي صوتك. هذه الغضون في غبار معركتك مع الزمن لتبقى منتصباً بجسدك وروحك وعقلك». دائماً أتكلم بإحساس وعن الاحساس والأفكار والرؤى، لا أملك غيرها. لا تتوقف أهمية الشاعر على أنه جدّد في الموضوعات، بل تكمن في طريقة استيعابه لعصره وطريقة إعادة الحياة الى اللغة... الأهمية تتلخص في كم هو شاعر. -