الشاعر أدونيس: الحب لا يولد كاملاً ولا ينتهي كاملاً.. ولا يترهل

الشاعر,أدونيس,الحب,لا يترهل

إسماعيل فقيه - (بيروت) 17 يونيو 2017

أدونيس، شاعر يعيش الحياة بهدوء لافت. سنوات عمره اقتربت من التسعين (مولود سنة 1930) وما زالت حياته نابضة بالحب  والشعر.. كتب الشعر في عمر مبكر من حياته، ويعتبر قصيدته الأولى هي ولادته الثانية. الشعر حياته، واللغة العربية وطنه. عاشق حتى الرمق الأخير، ويتعامل مع فكرة الموت على أنها جزء أساسي من الحياة. طفولته الذكية كانت بين الزهور والشجر والكواكب والشمس والقمر. انتقل من القرية الى المدرسة وكان بعمر (13سنة)، وعبر الى حياة جديدة أوصلته الى قمة الشعر والحب.


يعيش اليوم أدونيس في فرنسا وغالبية أيامه يمضيها في الغرب، لكن خيارات أحاسيسه تشده، بقوة، الى أرض العرب، وتبقى بيروت العاصمة التي تحتل قمة أحاسيسه وشجونه.. وفي زيارته الأخيرة الى بيروت، التقيت صديقي، على شاطئ بحر بيروت، في المقهى البحري الذي لا يبارحه طالما هو في بيروت. وكان لي معه هذا الحوار:

- نبدأ بسؤال التعريف، تعريف الذات، من هو أدونيس اليوم بعد كل هذه التحولات في الزمن والمكان، في العمر والأيام والأحاسيس. أين أنت اليوم، هل تغيّر التعريف للذات مع تغيّر وتبدل فصول الحياة التي عشتها وما زلت تعيشها؟
«اعرف نفسك». هذه الجملة التي نطق بها سقراط هي أبلغ تعبير عن مدى قدرة الإنسان على التعريف بنفسه وبالأشياء التي تحوطه وتعايشه. لو كان في مقدور الإنسان تعريف نفسه، لكانت الأسرار العميقة سطحية. إلّا أن الإنسان الذي لا يعرف، أو الذي لا يُحاول معرفة نفسه والتعريف بها جيداً، سيكون أقل معرفة بالوجود، وأقل معرفة بالحياة. هناك نوع من الجدل بين لا نهائية هذه المعرفة وبين ما يتوصل إليه الإنسان من معرفة وتعريف. لكن، رغم كل هذا الوعي، سيبقى الإنسان عالماً مجهولاً، وبقدر ما نتقدم في اكتشافه، نتقدم في الوقت نفسه، بالكشف عن النفس اللانهائية. أي أن هذا الكائن الذي يسمى الإنسان يبقى السر ولغز الحياة الجميل.
في احدى قصائدي سألت: «من يقول لأدونيس من هو أدونيس؟».. بالنسبة إلي، أشعر بأن السؤال ما زال مطروحاً على نفسي الى يومنا الحاضر، ولا جواب يشفي بعد.
الإنسان عالم من الأسرار، كما الشعر. هو سؤال وليس جواباً. وأظن أن أعمق ما يميز الإنسان بين الكائنات هو تلك القدرة التي يمتلكها، قدرته على طرح الأسئلة. إن الجواب الذي يزعم أنه هو جواب نهائي، هو بالتأكيد، إفناء للجواب، وإفقار للوجود، ومحو للآخر.
أما من ناحية الحياة العملية، من حيث الحياة التي انطلقت فيها، فإن ولادتي كانت بمثابة تفتّح على الشعر. الوعي الأول، والنظرة الأولى، والشعور الأول كان مع الشعر. فمحيطي الذي نشأت فيه كان طبيعياً (ينتمي الى الطبيعة). وكان أكثر قرباً من الطبيعة، حيث عشت مع الشجر والزهور والتراب والشمس والقمر والكواكب.. لقد مارست حياة الفلاح على أكمل وجه. قمت بأعمال الفلاحين والمزارعين، فلحت وحرثت الأرض وزرعت البذور والحبوب، عرفت الحقول بكل معانيها وتعبها وجمالها وخيرها. غرست الشجر وحصدت القمح والسنابل. مارست الكثير من الأعمال التي تنبش الأرض وترتبها.. كل هذه الأعمال كانت في مقتبل العمر الأول. وقد صقلتني هذه الأعمال وبلورت شخصيتي ووضعتني على سكة الوعي، وفتحت لي باب المعرفة.

- أدونيس الشاعر، الإنسان كيف بدأ مع الشعر. ما هو الشعر برأيك. لماذا كتبت الشعر.الى أين أوصلتك قصيدتك؟
نبضة الشعر هي التي خفقت أولاً في حياتي. إنها النبضة الأولى التي أشعرتني بمعنى الحياة وأهميتها. فكانت القصيدة الأولى التي كتبتها. هي التي وضعتني أمام المسؤولية الكبيرة، التي قلبت حياتي، وأتاحت لي دخول المدرسة (بعمر 13 سنة). هذه القصيدة كانت بمثابة الأم لي، لأنني أشعر بأنني ولدت معها ومنها. إنها ولادتي الثانية التي فتحت لي باب الحياة، حيث انتقلت من القرية الى المدرسة العلمانية الفرنسية في طرطوس. في هذه المدرسة، بدأت أعيش وأتعرف على عالم آخر. دخلت الى عالم مختلف ومنفتح ويختلف كلياً عن الواقع الذي كان. دخلت الى تنوع حياة جديدة، على كل الأصعدة. كان عالماً واسعاً ويختلف كلياً عن واقع الحياة التي عشتها في القرية. وطبعاً، أتاح لي هذا الجو الجديد مزيداً من الانصراف الى كتابة الشعر وقراءته، وبشكل خاص، الشعر العربي في مختلف مراحله. ومن ثم بدأت أتعرف على الشعر الغربي، وبشكل خاص الشعر الفرنسي. ورأيت في الشعر ما يفتح لي أفقاً للحياة والتفكير بشكل أوسع وأغنى. وهذا ما أغنى ثقافتي وأشكال المعرفة لدي. وهكذا ازددت تعلقاً بقضايا الشعر ومشكلاته. وفي هذه المرحلة، بدأت أيضاً بترك مسافة بيني وبين الشعر الموروث، وأخذ اهتمامي يتركز على الشعراء فرداً فرداً أكثر مما يتركز على الشعر بشكل مطلق. وبدأت أفكر أنه لا يوجد شعر، إنما هناك شعراء فقط.

- أدونيس ركن أساسي من أركان الحداثة الشعرية العربية. ومجلة «شعر» تشهد لهذه الحداثة وما أنتجته هذه الحداثة. ماذا فعل وقدم جيلكم للشعر العربي المعاصر، ماذا أضاف وماذا جدد؟
تبقى مجلة «شعر» هي المفصل وهي الأساس في حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر. بالنسبة إليّ، مجلة «شعر» هي الحداثة وهي الحيوية التي أغنت الحداثة في العالم العربي. وباختصار شديد أقول، يمكن النظر الى تلك المرحلة وما أنتجته مجلة «شعر» وروادها ، نظرة ثقة كبيرة، ذلك أنها شكلت صورة مشرقة في مدار الحداثة الفاعلة والمؤثرة، بحيث يمكن القول، هناك شعر قبل مجلة «شعر»، وهناك شعر بعد مجلة «شعر». لقد كانت مجلة «شعر» تمثّل مرحلة فاصلة بين زمنين، وتقف على تقاطع مهم، استطعنا عبوره بجدارة وكفاءة. وأعتقد اليوم، بعد مرور أكثر من نصف قرن على المجلة ، أن تأثيرها كان حاسماً، لا في ما يتعلق بمفهوم الشعر وحده، وإنما في كل ما يتعلق بالتعبير وبأشكاله. لقد نجحت مجلة «شعر» بكسر الحدود، وفتح باب الحداثة على وسعه، وأصبح الشعر يُلتمس في طرق الشعر وأساليبه أكثر مما يلتمس في المعايير والمقاييس الثابتة والموروثة. فلم يتحرر فقط من أوزانه «الخليلية» فحسب، إنما تحرر من نفسه، وأصبح ابتكار الأشكال معياراً في الكتابة الشعرية.
لم أجد مجلة غيّرت عالم الشعر العربي كما غيّرت وفعلت مجلة «شعر» (طبعاً لا أنسى بعض عثراتنا)، وبالطبع لم تكن المجلة عبئاً علينا، لأننا أخذنا منها كل ما هو مفيد ومحرّض على الحداثة والتجدد، ومن خلالها ازددنا انفتاحاً وخبرة، وقراءة وكتابة.
مجلة «شعر» لم تخلق قصيدة جديدة فقط، بل خلقت قارئاً جديداً أيضاً.

- ماذا قلت بالشعر، وماذا ستقول بعد؟
يكفيني أنني كتبت الشعر كي أفهم نفسي، والعالم، والآخر. ساعدني الشعر، بشكل خاص، على اكتشاف الآخر، والحاجة إليه. اللغة هي الآخر، وليست هي الذات وحدها، وهوية الإنسان مرتبطة بهذا الخطاب. لكي تكون ذاتك، يجب أن تكون الآخر أيضاً. الهوية ليست حاضرة مسبقاً، كما عند العرب، وعند كثيرين. هي ابتكار متواصل. الآخر عنصر مكون من عناصر تكوين الذات.
الإنسان يخلق هويته، وشعره، وفكره وحياته.

- الحب، كيف عشته وتعيشه خلال هذا العمر الطويل؟
الحب هو الحياة. لكنْ للحب أصول ومتطلبات ليست سهلة على أي إنسان. وفي رأيي الشخصي، لا يوجد حب مطلق، بل هناك حب محدد، حب يقوم على علاقة محددة بين رجل وامرأة. وكل حب لا يمكن أن يشبه سواه. الحب هو التجربة في الحب. وحتماً لا تتكرر التجربة، تبقى خاصة لا تتشابه مع أي تجربة أخرى. أما الإنسان الذي لا يحب، فهو حتماً لا يعيش تجربة الحب، وهو إنسان غير موجود الّا إسمياً.

- هل خيّبك الحب؟
مستحيل أمر الخيبة في حياتي. إن الخيبة في الحب لا تحدث إلّا بفعل العاشق أو المعشوق. إذا حلّت الخيبة في الحب، فإن الحب ليس مسؤولاً عنها، بل المحبوب هو المسؤول. الحب لا يخيّب أبداً. لكن، وربما تكون الخيبة هي جزء من الحب، بوصفه تجربة لا يمكن أن تولد كاملة. الحب لا يمكن أن يولد كاملاً، وكذلك لا يمكن أن ينتهي كاملاً. وبناءً على هذا المعطى أقول، لا يوجد حب في المطلق يعيشه عاشقان. صحيح أن الواحد منهما يحب الآخر، لكن كلاهما يسير صعوداً وهبوطاً.

- هل تترهل تجربة الحب، كما يترهل الجسد مثلاً؟
لا أعتقد ذلك أبداً. لكن اذا حلّ الترهل في الحب، فإن سببه يعود الى الفاعل المترهل. يترهل العاشق أو المعشوق. الحب لا يترهل ولا يشيخ. الحب يبقى، بل يبقى يستمر ويتفاعل كتجربة وكفعل حياة صافية ونقيّة. وفي حالة كهذه، يحتاج الحب الى الصداقة، لأنها تحضن الحب. لذلك، العاشقان يجب أن يكونا صديقين، يتصارحان ويتخاصمان ويزدادن حباً في الخصومة والحب.

- أول حب في حياة أدونيس، كيف ومتى؟
أول حب جاءني وأنا في عمر لم يتجاوز العقدين من الزمن. وكنت في ذلك الزمن، أرى في الحبيبة كل شيء أريده، لكن عندما كنت ألتفت إليها، كنت أرى امرأة أخرى. كنت أراها بصور متنوعة وبأشكال مختلفة. كل يوم أراها امرأة غير التي رأيتها (بالأمس). لم تدم صورتها الثابتة. كانت امرأة عابرة.

- أما زلت عاشقاً بعد هذا العمر الطويل؟
نعم أنا عاشق اليوم، كما الأمس وغداً. شعلة العشق لا تنطفئ في حياتي. وإذا انطفأت تنطفئ حياتي فوراً... اعشق، تجد الوجود كله عشقاً. واكره، تجد الوجود كله كرهاً. الحب قضية ووجود. عالم بلا حب، حياة بلا معنى.
إن كثرة الحب وقوته في حياتي تجعلانني أشعر بأنني لا أحب. فيض الحب يسيّجني من كل الجهات. ومركز هذا الحب هو المرأة حتماً.

- سبقتني على ذكر المرأة. المرأة في حياة الشاعر كيف يستقيم دورها وحضورها. ما هو دور المرأة في حياتك وشعرك؟
ليس هناك امرأة في المطلق. لا توجد امرأة في الوجود تشبه سواها. كل امرأة هي كيان خاص بذاته، لا يمكن مقارنته بسواه. لكل امرأة عالمها الخاص وجسدها الخاص. وكذلك الأمر بالنسبة الى الرجل. من هنا، يمكن القول، إن المراة هي حالة وهي تجربة حياة وحب. لا يمكن فصلها عن ذاتها، ولا يمكن تفضيلها عن سواها. إنها كيان مستقل يتكامل في أحاسيس الرجل، والعكس صحيح، يتكامل الرجل في أحاسيس المرأة.

- في إحدى قصائدك، تخاطب المرأة بقولك: «هتكتني الحاجة إليكِ».. هل المرأة حاجة وضرورة حتمية للرجل؟
صحيح ، كتبت هذا منذ زمن بعيد. وهو تعبير عن الشغف بالمرأة، تعبير عن حب عارم وشوق طافح للمرأة. ثم إنني أكتب عن امرأة محددة. لا يمكنني الكتابة عن المرأة بالعموميات. كتبت عن المرأة التي أستطيع أن أقيم معها حواراً لا جسدياً، بل نفسياً وعقلياً وحياتياً.
كتبت عن المرأة التي تقطف من الحب ما أحبه وما أريده.

- كأنك تحاول الكشف والإيحاء بجمال المرأة؟
أيضاً وأيضاً، لا جمال في المطلق. الجمال لا ينحصر في الشكل الخارجي للمرأة، إنما جمالها مبثوث في كل عالمها الداخلي. إن معيار الجمال قائم في الأحاسيس ــ «الكيمياء» بين رجل وامرأة.
الحب أعمى، والرجل يرى في المرأة كل ما يحبه، لذلك يراها جميلة، وكذلك الأمر بالنسبة الى جمال الرجل في أحاسيس المرأة.

- «الحب أعمى»، (اختراع عربي) أليس كذلك؟
الحب قليل في الحياة العربية، مثل الشعر والحرية. الحب عند العرب لا يعني شيئاً. الانهيارات القائمة في مساحة العرب وصلت الى الحب والعروبة.

- الوطن والإنسان اليوم. نحن في زمن العذاب والخراب، وإنسان اليوم يعيش في ذروة الموت والدم والإرهاب المجنون. هل الظلم والقهر والموت المجاني قدر حتمي للشعوب والإنسان؟
يقول الإمام علي: «خير البلاد ما حملك». الوطن الحقيقي يتراءى في الإنسان، الوطن الحقيقي حيث يكون الإنسان محضوناً. بالنسبة إلي شخصياً، لا أشعر بأن المكان وطن إلّا بقدر ما يكون الإنسان فيه وطناً. فالإنسان هو وطن الإنسان. وأعظم ما يعبر عن الإنسان هو اللغة. لذلك، وطني الدائم: اللغة العربية. ففي هذه اللغة أفصح عن نفسي وأشعر بأنني موجود فيها وبها. ما يحدث ويجري في الواقع العربي اليوم صار مبتذلاً. الموت هو جزء من الحياة. ولكن الموت العربي اليوم هو جزء من الموت. إنه احتقار للحياة. والمشكلة، بالنسبة إلي، لا تتمثل في الموت، إنما تتمثل في الحياة : كيف نحيا؟ تلك هي المشكلة.

- هل تخاف الموت، تعيش قلق الموت؟
لا قلق اسمه الموت.. لا قدرة لي على مواجهة الموت. إنني أقبل الموت كجزء من حياتي. لذلك، كل مدارات اهتماماتي في الحياة هي، كيف أحيا، وكيف أساعد الآخر كيف يحيا. كل فكري في الحياة. إنني أعيش مع الحياة بإصغاء كلّي، بتمعّن وثقة كبيرة. وأنظر الى الموت نظرة هادئة جداً، وسيكون هذا الموت نوعاً من تتويج لحياتي.-