عندما ترقص المدن على وقع السلسا... إنها كوبا

بلازا مايور,مواقع التراث العالمي,السلسا,المدن,كوبا,حقول السكر,حافلة,قاعة احتفال ضخمة,المدينة اللؤلؤي,سانتياغو الكوبية,مسرح كارل ماركس,مقهى بوديغيتا دال ميديو,السانترو,وسط المدينة,قصور,الحقبة الاستعمارية,ساحة الكاتدرائية,هافانا,خليج المكسيك,موسيقى السالسا,السيجار الكوبي,الأضواء,الولايات المتّحدة,كريستوف كولومبوس

16 يوليو 2017

عند مدخل خليج المكسيك وعلى حدود المحيط الأطلسي تسبح كوبا أكبر جزر البحر الكاريبي بشواطئها الخلاّبة وجمال ريفها الذي يقطع الأنفاس، وحلاوة حقول قصب السكر المترامية على أرض خصبة تحمل في رحمها غموضًا لا يمكن إدراكه.
إنها البلاد التي اقتحمت مخيّلة العالم بفضل كريستوف كولومبوس عندما رست سفينته على شواطئها عام 1492.


لعقود طويلة واجهت كوبا صراعًا مع جارتها القوية الولايات المتّحدة التي فرضت عليها عقوبات اقتصادية بسبب وجود قاعدة عسكرية سوفياتية للصواريخ العابرة للقارات. ومع سقوط المعسكر الشيوعي، عُزلت كوبا بين أسوار تاريخها الثوري رغم سقوط جدار برلين، وتوقّفت المساعدات التي كانت تتلقّاها من حليفتها روسيا.

والعام المنصرم سُلطت الأضواء والكاميرات على هافانا حين نظّمت دار «شانيل» تقديم عرض أزياء في منطقة برادو بروموناد، وهو عرض الأزياء العالمي الأول منذ عام 1959، أي حين اندلعت الثورة الشيوعية في كوبا.

وهكذا عادت كوبا ومدنها الوجهة الحلم للباحثين عن إجازة وسط تفاصيل غنية بالتاريخ، يستريحون على شواطئ فيروزية في البحر الكاريبي، يجولون في شوارع لا تزال سيارات من طراز ستينيات القرن الماضي تجول فيها بفخر الماضي، ويتمتعون بالسيجار الكوبي، فيما موسيقى السلسا تكاد تكون لغة الكوبيين الثانية التي لا يتنازلون عنها.


هافانا العاصمة الأسطورة

هافانا، العاصمة الكوبية والمدينة الأسطورية، التي تعدّ واحدة من أجمل المدن في الأميركتين، هي وجهة إلزامية لكل من يريد السفر إلى كوبا. فالتجوال في هذه المدينة يسير على وقع السالسا الذي وأينما ذهبتِ تلتقين فرقًا موسيقية تعزف موسيقى السالسا بفرح. إذا كنت تتحدثين الإسبانية فإن التواصل مع السكان يكون رائعًا وحميميًا.
إنها مدينة تنبض بالحياة والألوان على مدار اليوم، وبالتالي فالدهشة سوف تكون رفيقتك طوال وجودك فيها. وهذا ليس خرافة، فأينما جلت سوف تجدين سيارات البويك، الشيفروليه والبونتياك، بطراز خمسينيات القرن الماضي وستينياته تجوب الشوارع وتطلق أبواقها بين أبنية تعود إلى فترة الاستعمار الإسباني، تقف بفخر بألوانها الزاهية، فتشعرين أن الزمن قد توقف ولا يرغب في السير قُدمًا على سطور التاريخ، وإنما اكتفى بالرقص على سطور السلسا وإيقاع الطبول وآلة الغيتار.

إنها مدينة تتفنن في إبهار كل من يزورها، فهنا الجمال الطبيعي يتّحد مع إبداعات الإنسان وروحه الثورية التي تنتشر بين صفحات تاريخها وثقافتها وعاداتها... حيث يتناثر الفن المعماري بفوضى فريدة من نوعها، فالأبنية شُيّدت على النمط الإسباني والأندلسي والباروكي والفن الحديث بألوان ملتصقة بالماضي.
إذ يكفي أن تتأملي في الهندسة المعمارية لفندق «ناسيونال» الذي شُيّد عام 1930 لتكتشفي هذه الفوضى الفنية، وهي مزيج من الفن الحديث والعربي والنيوكولونياليسم والنيوكلاسيكي. تخيّلي أن هذا الفندق حضن في غرفه مشاهير العالم بكل تناقضاتهم السياسية والأيديولوجية والثقافية، مثل نات كنغ كول، وينستون تشيرشل، تايرون باور، مارلون براندو، أرنست همنغواي، فرانك سيناترا، وأفا غاردنر. وبالقرب من الفندق صيدلية قديمة جدًا تضم كل الأدوات التي كانت تُستخدم في صنع الأدوية.

هنا في هافانا سوف تشعرين بمتعة التيه وسط سمفونية متناغمة تتناوب على عزفها روائح الأطباق اللذيذة التي تنتشر في مقاهي الرصيف الممتزجة برائحة السيجار الكوبي.
فيما أمواج خليج المكسيك، وهي تداعب قوارب الصيادين، سوف تجعلك تفصيلاً متحركًا وسط مشهد عزّ نظيره في العالم، تصدح في أجوائه موسيقى السلسا التي قد تخضعك لإيقاعاتها الساحرة فتتركين الحرية لجسدك في التمايل على أنغامها.

تجولين بين أحياء هافانا العتيقة والمرصوفة بالحجارة والنابضة فتؤخذين بروح الثورة الخفية التي تسكن البيوت المتلاصقة لتجدي نفسك فجأة مرمية وسط ساحة الكاتدرائية بقصورها التي شُيّدت على النمط الباروكي، والتي تحولت إما إلى متاحف أو مقاهٍ.
اللافت في هافانا أنك أينما تجولت تلتقين باعة الكتب، وسيدات يعرضن المشغولات اليدوية من شالات وشراشف طاولة، لا سيما الكروشيه تشترينها بأسعار زهيدة. بينما اتخذ الرسّامون والنحاتون من الأرصفة مركزًا لإبداعاتهم يبيعونها مباشرة.

ساحة الكاتدرائية حيث الثورة روح تاريخي
وعلى مقربة من ساحة الكاتدرائية تمتد ساحة «بلازا دو أرماس»، أقدم ساحة في هافانا، وكانت المركز السياسي والإداري للبلاد.
وهي ساحة مربّعة الشكل تحيطها قصور تعود إلى الحقبة الاستعمارية وينتشر فيها شجر النخيل والخبازي العملاق. تكثر في الساحة الينابيع وهي تضم مجسمًا لكارلوس مانويل دو سيبيديس، وتتحلق حولها قناطر قصور كونتات سانتوفينيا وسيكادو كابو، وقد تحوّل قصر القادة العامين الذي كان لمدة طويلة مركزًا حكوميًا إلى متحف المدينة، ويضم في بهوه مجسمًا لكريستوف كولومبوس الذي اكتشف كوبا أثناء رحلاته البحرية.

السانترو أو وسط المدينة
السانترو يعني وسط المدينة. هنا تجدين كل المتناقضات الكوبية. إذ رغم أنها منطقة شعبية فهي تضم كل الفن المعماري الجميل الذي يمزج بين الأندلسي والإسباني والباروكي، واللافت في ذلك الرخام الفسيفسائي بألوانه الزاهية.
وأينما ذهبت تجدين كبار السنّ يجلسون في المقاهي ويلعبون الدومينو الكوبي، كما يرافق معظمهم ديك. فعوضًا عن الكلب الذي يكون رفيق كبار السنّ في أوروبا، هنا الديك هو الرفيق، ولكن ليس أي ديك، بل ذاك الذي يشارك في لعبة «صراع الديكة». وتصادفك نسوة يرتدين فساتين زاهية الألوان مزركشة ويضعن على رؤوسهن غطاء الرأس المعقود على الطريقة الأفريقية، يعرضن عليك علبة سيجار.
تتركين السانترو وتتوجهين إلى شارع باسيّو برادو، وهو شارع يشبه الشانزليزيه الباريسي، يبدأ من كورنيش ماليكون، وينتهي عند كابيتول ناسيوناليه.
يتحوّل هذا الشارع أيام السبت إلى معرض مفتوح للأعمال الفنية الكوبية المحلية، فتجدين اللوحات الزيتية والمائية يعرضها الرسّامون.

مسرح كارل ماركس ومقهى بوديغيتا دال ميديو
رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على سقوط نظرية كارل ماركس الشيوعية، لا يزال الكوبيون أوفياء لهذا الفيلسوف الألماني فكرّسوا له مسرحًا يحمل اسمه.
ففي هذا المسرح العرض الموسيقي عفوي يأتي إليه الناس بصحبة آلاتهم الموسيقية ويصعد كل واحد ليعزف بآلته تبعاً لإثنيته، فتسمعين الموسيقى الأفريقية، البرازيلية والكوبية... وإذا كان الكوبيون قد عرفوا ماركس عبر نظريته ومؤلفاته فإنهم عرفوا الأديب الأميركي أرنيست همنغواي شخصيًا، فهو عاش في هافانا وكان يتردد إلى مقهى «بوديغيتا دال ميديو» فحافظوا على المقهى بكل تفاصيله، ولا سيما جمل بتوقيع الأديب الأميركي، لتضم جدرانه تواقيع وعبارات لشخصيات مشهورة مثل الأديب الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا والكولومبي غابريال غارسيا ماركيز وجوزفين بيكر وغيرهم ممن أخذتهم هافانا إلى عالمها الخاص الذي يضج بشغف الحياة والحرية والنضال.

                                
سانتياغو الكوبية

وسط مرتفعات جبال سييرا مايسترا والبحر الكاريبي تقع مدينة سانتياغو الكوبية ثاني أكبر مدينة بعد هافانا. هنا في هذه المدينة تتعرفين إلى المعنى الحقيقي لحوار الثقافات حيث توحّدت الإثنيات الأفريقية والفرنسية والإسبانية والصينية وسكّان المدينة الأصليون منذ قرون في بوتقة واحدة لتجعل منها مدينة الثقافة الأفريقية- الكوبية.

يغريك شاطئ المدينة اللؤلؤي بالاستلقاء تحت مظلّة تقيك حرارة شمسها الاستوائية التي تجعل من نهار سانتياغو الكوبي رحلة مغامرات تستمر حتى انسدال ليلها المرصّع بنجوم تتراقص على إيقاعات الغيتار المتناثرة في أجواء المدينة فتدعوك إلى رقصة رومبا في مهد الموسيقى الكوبية.

تتحوّل المدينة بأسرها إلى قاعة احتفال ضخمة عندما يبدأ «كرنفال سنتياغو» الأكبر والأكثر شهرةً، والأبلغ تعبيرًا عن التقاليد الكوبية... إنه انفجار للألوان، على إيقاع الطبول والرقص.
وهو الكرنفال الذي يجمع الكوبيين من كل أنحاء البلاد يتذكّرون تاريخهم ويعيدون إحياء ثقافتهم، وغالباً ما تتخلله العطلة الوطنية الكوبية في 26 أيار/مايو.


مدينة ترينيداد

من هافانا، استقلّي حافلة نحو إحدى أجمل المدن الكوبية ترينيداد حيث الوقت لا وجود له. فهذه المدينة عرفت كيف تحافظ على المعالم الاستعمارية الإسبانية بشكل رائع لتشعرك وأنت تجولين بينها وكأن الزمن توقف عند عام 1850.
فالثروة التي جناها المستعمرون من حقول السكر في وادي دي لوس إنجنيوس المجاور، خلال أوائل القرن التاسع جعلتهم يتنافسون على بناء القصور ذات النمط الكولونيالي تزيّنها اللوحات الجدارية الإيطالية، والبورسلين والثريات الفرنسية.

أُعلنت المدينة أحد مواقع التراث العالمي من قبل اليونسكو عام 1988، لتعتبر متحفًا في الهواء الطلق الجاذب لآلاف الزوار في اليوم. السير في شوارع ترينيداد يعني أن منزل الباستيل الكولونيالي الأزرق إلى يسارك، والمنزل الوردي إلى يمينك، فيما إيقاع حوافر الدواب على الشوارع المرصوفة بالحجارة منذ القرن التاسع عشر يعلمك أن الزمن يسير على نقرها. على الرصيف الباعة الجوّالون يجلسون، فيما نوافذ منازل السكان المحليين تحولت إلى محلات متخصصة خلال النهار.

يمكنك الذهاب سيراً على الأقدام إلى بلازا مايور وزيارة إغليزيا باروغيال دي لا سانتيسيما ترينيداد، وهي أكبر كنيسة في كوبا. في ترينيداد لا تجعلي الوقت يسيطر عليك، بل عيشي اللحظات بهدوء وكسل... لمَ لا! فنحن في إجازتنا نحتاج إلى الشعور ببطء الوقت.
لذا ما عليك سوى الجلوس في بلازا مايور ومشاهدة حياة هادئة للسكان حيث المزارعون يعرضون قطافهم... ليتحول هذا المشهد في المساء، إلى حركة وضوضاء حيث تصدح الموسيقى الكوبية الصاخبة، ويتفنّن موسيقيو الشارع وراقصو السلسا في التنافس على أمسيات الفرح.

CREDITS

إعداد: ديانا حدّارة