دور الديكور في الوقاية والعناية وربما العلاج: درهم «ديكور» خير من قنطار علاج!

نجاة شحادة (باريس) 08 سبتمبر 2017

 خلال عقود طويلة تم تجاهل دور الديكور الحيوي في الصحة النفسية وصولاً الى عنايته بالصحة الجسدية. فتأثير الألوان في هذا المجال بات أكثر تحديداً، فيما تأثيرات المواد الطبيعية التي تشكل المشهد الزخرفي أصبحت أكثر وضوحاً، ولا شك في أن دور الأشكال في هذا المجال لا يزال بحاجة الى الكثير من المراقبة والدراسة. 

غير أن جميع العاملين والمهتمين في مجال الديكور، أصبحوا أكثر حساسية في التعامل مع هذا المفهوم الجديد، الذي بدأ - ومنذ انتشار أسلوب الـ«زن» وما تلاه من أساليب تعتمد هذه المعطيات –  يحقق تقدماً كبيراً في اليوميات المعاصرة.

فالعناية بالديكور تهدف الى توفير الراحة النفسية للفرد، وتساعده على تحقيق التوازن النفسي الداخلي والوئام الاجتماعي، مما ينعكس إيجاباً على صحته الجسدية.

من هنا، ينطلق بعض المحللين، ومنهم جان فيليب كاش في تعريف الديكور الداخلي للمنزل بأنه «مرآة تعكس باطن أجوائنا الداخلية»... وحين نقول «العناية» أو حتى «العلاج» فإننا لا نعني بالتأكيد أن الديكور يقوم مقام الدواء، بل إن «العلاج» هنا يتسع ليصل مجازه الى حقول على اتصال بعلوم إنسانية عدة، مما سيكون له بالطبع انعكاسات صحية لا يمكن إهمالها. وهنا تكبر علامة الاستفهام...

إن التفكير بطبيعة الحياة اليومية المعاصرة، يجعل من المنزل وداخله لحظة محورية في مفهوم الراحة والرفاهية والرغد والصحة أيضاً.
ذلك أن ما تفرضه هذه اليوميات من شروط، أو ما تتطلبه من جهود، تصل الى حد اللهاث، يولد حتميات لا يمكن تجاهلها ومتطلبات يصعب الاستمرار من دون الاهتمام بها ومنحها ما تستحقه من انتباه.

والمسألة ليست بهذه السهولة، فرغم الجهود المضنية التي يبذلها المصمّمون ومهندسو الديكور وكل العاملين في مجال الرفاهية والأناقة المنزلية، ثمة عناصر أساسية وجوهرية تبقى بحاجة الى المزيد من الدراسة والتحليل، وربما التأويل أيضاً، لأن الديكور في داخل المنزل على تماس يومي، ليس فقط مع احتياجات مستخدميه، وإنما أيضاً مع أمزجتهم ورغباتهم وصولاً الى أعمق المناطق في شخصياتهم وأكثرها حساسيةً.
لذا فإن العلاج بالديكور لا يزال في طور الفكرة التي تدور حولها أبحاث ودراسات وتجارب معقدة، ولكنها بالتأكيد ستحقق نتائج مبهرة.

والحديث عن المشهد الداخلي للمنزل يقودنا في كثير من مفترقاته الى زوايا وأركان محفوفة بالتحليل النفساني ومرتبطة بالفلسفة. لذا سنستعير من كتاب «لا وعي المنزل» لألبرتو أيجر بعض الخصائص أو الوظائف التي حدّدها لداخل المنزل.

يقول أيجر إن داخل المنزل يؤدي خمس وظائف أساسية: القدرة على الاستيعاب والتخزين، الهوية، استمرارية التاريخ، الإبداع، والجمال.
حين ندقق في هذه الوظائف سنجد أنها تشكل في مجموعها كياناً مادياً ومعنوياً هو انعكاس لشخصية الفرد وحركته في الوجود ومعه.
ولئلا نذهب بعيداً في هذا الاتجاه، سنحاول التوقف قليلاً عند مبادرات على علاقة بموضوعنا هذا.

نعرف حتى الآن تأثيرات الألوان في الصحة النفسية ومن ثم في الصحة الجسدية. فالدراسات والتجارب التي تتعلق بتأثيرات الألوان وطبائعها وصلت الى مستوى متقدم يشير الى إمكانيات كبيرة في فتح آفاق جديدة في مجال الوقاية والعناية والعلاج.
وهذه العملية ينبغي أن تستتبعها عمليات أخرى تتعلق بتأثيرات الأحجام والخطوط والمواد وغيرها من العناصر التي يتكون منها المشهد الزخرفي.

بالتأكيد، إن المنطلقات التي تدفع بالمصممين الى تحديد خياراتهم في أعمالهم المتنوعة، تتضمن الكثير من الأسس التي يعتمد عليها العلاج بالديكور، بل يمكن القول إن التصاميم المعاصرة للأثاث والأكسسوارات المنزلية هي بطبيعتها تراعي تلبية المتطلبات وتلائم الأمزجة جمالياً وعملياً، غير أن ذلك لم يصل بعد الى الحد الذي يمكن القول معه إن عناصر الديكور في مجملها تشكل معادلة ناجعة لها عوائدها المضمونة.
وحين نتحدث عن المشهد الزخرفي، فإن ذلك لا يعني العناصر الرئيسة، بل يتعلق أيضاً بأدق التفاصيل.
فالأثاث هنا لا يعني فقط قطع الأثاث من كنبات وطاولات وكراسٍ وأسرّة وخزائن وغيرها، ولا ينحصر بعناصر الإضاءة وتنويعاتها ومصادرها، ولا بقائمة المواد البالغة الطول التي تشمل الطبيعي والاصطناعي، ولا بمروحة الألوان التي أصبحت لا متناهية بإيقاعاتها ومتغيراتها... المشهد الزخرفي هو كل هذه الأشياء والعناصر والمواد، ولكنه فوق هذا وذاك هو التنسيق والتوزيع وطرائق استخدامهما.
وهذه عملية حيوية في صياغة تراكيب وتآليف مشهدية تستمد بنيتها من خلفيات معرفية تتصل بعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجماليات، إضافة الى معرفة الوظائف الحيوية لمركبات داخل المنزل وشروطها.

وفي هذا السياق لا يمكننا تجاوز أجواء الـ«زن» التي تبدو في السنوات الأخيرة وكأنها تتجه نحو مستوى الأسلوب.
ذلك أن خيارات التنسيق والألوان والمواد التي تتطلبها هذه الأجواء تشكل مشتركاً حيوياً بينها وبين الأجواء الزخرفية التي تهدف الى العناية والمعالجة.
وهنا نشير الى أهمية الأجواء المحيطة بالمريض، مثلاً، والتي تساعد في توفير أقصى درجات الراحة والهدوء، وتمنح المناعة النفسية اللازمة، وتحض على المقاومة الفعالة.

ولا شك في أن طرق تنسيق الأثاث وتوزيعه في الداخل، ودقة اختيار أحجامه بالنسبة الى المساحة المتاحة، والألوان المتناغمة والمنسجمة التي تراعي طبيعة الفضاءات في المنزل، والأحجار والأخشاب والجلود والأقمشة بالألياف الطبيعية وغيرها... كلها عناصر تبرع في اختيار المواد وإعطاء الأفضلية للمواد الطبيعية النبيلة، وبالتالي تشكل أهمية خاصة في صياغة داخل صحي ومريح ويوفر أقصى درجات الرفاهية والراحة والاستقرار النفسي والجسدي.

فوجود قطع أثاث بأحجام تتماشى مع مساحة الغرفة، وتناسق خطوط التصميم مع المواد المستخدمة، والتناغم بين ألوانها والألوان المحيطة، والتوازن بين قطع الأثاث الرئيسة والأكسسوارات... تنعكس شعوراً بالتوازن النفسي الذي يساعد على الاسترخاء والرضا. بينما قلّة الاهتمام بهذه الأمور أو عدم اختيارها بدقة متناهية يستدعي الضيق والكآبة.

فالأحجام والخطوط والألوان والمواد كلها عناصر أساسية ينبغي الاهتمام بها، ليس جمالياً وعملياً فحسب، وإنما مراعاةً لمزاج المستخدم ورغباته وظروفه ونمط حياته وأيضاً طبيعة عمله.
والقيم الجمالية والعملية التي تتم مراعاتها من جانب مهندسي الديكور، ينبغي أن تُضاف إليها أبعاد جديدة تتعلق بمستوى جرعات هذه القيم وقنواتها بدقة متناهية لكي يتحول الداخل الى أجواء علاجية.

فالألوان الأساسية بنغمات الباستيل، والأحجام الملطّفة التي تعتمد الخطوط المنحنية وتتجنب الزوايا الحادة، وتفضيل الخشب على المعدن، والإضاءة المخفية على الإضاءة المباشرة، واختيار أقمشة الكتان أو القطن أو الحرير بدل أقمشة الأكريليك والنايلون والألياف الاصطناعية، والألوان الأحادية الناعمة بدل الصخب اللوني المرهق... مسائل تتطلب مراعاتها خبرة وبراعة وموهبة أيضاً.

العلاج بالديكور يعيش بداياته، ولكن الحاجة الملحّة إليه، التي تفرضها طبيعة الحياة اليومية المعاصرة، تبشّر بمستقبل واعد له، يحتل فيه المربع الأول في المشهد الزخرفي الحديث... فـ»البيت – كما يقول باشلار- هو ركننا في العالم، كما قيل مراراً، كونُنا الأول، وهو كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى. وإذا طالعنا بألفة ومحبة فسيبدو لنا أكثر البيوت بؤساً، جميلاً».