ضحايا جبال سانت كاترين ذهبوا لاكتشاف الطبيعة فقتلتهم بلا رحمة

جبال سانت كاترين, ضحايا, الفيسبوك, رحلة السفاري

24 فبراير 2014

"وأخيراً باب الدنيا مع أماكن"، عبارة كتبتها يسرا منير على "فيسبوك"، رسمت بها رحلة نهاية أربعة شباب وعذاب أربعة آخرين، كانت واحدة منهم ما زالوا تحت تأثير صدمة ما عانوه على مدار أكثر من يومين بمنطقة وادي جبال سانت كاترين في جنوب سيناء، وسط عاصفة ثلجية مفاجئة، كانت كفيلة بأن تحيل رحلة السفاري التي خرجوا فيها بصحبة أحد الأدلة للبحث عن المتعة وسط الطبيعة إلى جحيم تعجز الأيام عن محو تفاصيله من ذاكرة من ظل على قيد الحياة منهم.

يسرا التي تبلغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً واحدة من رواد العمل التطوعي شاركت في العديد من الحملات الخيرية لمساعدة الفقراء والمحتاجين في قرى مصر، وإلى جانب هذا حاولت أن تساعد الشباب المصري على اكتشاف معالم جديدة في بلادهم، فأنشأت صفحة "أماكن" على فيسبوك، والتي نظمت من خلالها العديد من الرحلات بمناطق قد لا يعرفها الكثيرون، وهو ما شجعها على مواصلة العمل في هذا المجال دون أن تفكر ولو للحظة أنها ستفقد أربعة من أعز أصدقائها الذين شاركوها في حلم واحد، وهو رسم مستقبل أفضل لجيل من الشباب حلم بالتغيير والحصول على أبسط حقوقه في بلاده.

كلمات قليلة لكنها كانت كفيلة أن تجذب أصدقاء يسرا إلى المغامرة والهرب إلى الطبيعة من خلال، عرض صديقتهم الذي لا يتكرر، على حد وصفها، وهو بالفعل لن يتكرر بعد التفاصيل والأحداث التي جعلت من رحلة ترفيهية مأساة في حياة المصريين، قد تدفع الكثير لعدم التفكير في الذهاب لأي رحلة لجبال سانت كاترين مرة أخرى.

  • المغامرة

في التاسعة من مساء الجمعة الموافق الثالث عشر من شباط (فبراير) كان هناك أحد عشر شاباً وفتاة على موعد للقاء بميدان عبد المنعم رياض بوسط القاهرة، أمام إحدى شركات النقل السياحي، لاستقلال الباص المتجه لمدينة سانت كاترين، لبدء رحلة تستغرق ثلاثة أيام لزيارة روائع الطبيعة، الكل جمعهم حب المغامرة والاكتشاف، فحملوا حقائبهم للهرب من أحداث العاصمة الطاحنة وسط الجبال والصحاري، وقد كان، حيث هرب بعضهم من الواقع بلا عودة وخرجوا من الدنيا عبر باب الدنيا.

مجموعة من الشباب اختلفت دراساتهم وميولهم، لكن جمعهم العمل التطوعي على مدى السنوات الماضية، وهو ما جعلهم يتشابهون في كثير من الأشياء، كانوا أبطال هذه المغامرة، فهذا هو المخرج محمد رمضان الذي حمل الجنسية الفلسطينية من والده على مدار ثلاثين عاماً، رغم أنه لم يزر فلسطين لمرة واحدة، حتى جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير، ومنحته الجنسية المصرية التي عشقها في وجوه المهمشين الذين كانوا أبطال أفلامه الروائية والتسجيلية. رمضان الذي ترك الهندسة وذهب للبحث عن حلمه في معهد السينما، لم يكن غريباً عليه أن يكون واحداً من أبطال هذه المغامرة، التي سرعان ما تحولت إلى مأساة في حياة عائلته وأصدقائه الذين فقدوه.

"فلنهرب إلى الطبيعة، جبل الدنيا وهنبقى اد الدنيا"، بهذه الكلمات دعا المخرج محمد رمضان عبر حسابه الشخصي على "فيسبوك" أصدقاءه للمشاركة في هذه المغامرة وسط الجبال، بعدما شعر بمقدار من السلام النفسي في مدينة النوبة، في رحلته التي سافر فيها إلى أسوان في نهاية شهر الثاني (يناير)، والتي نظمتها يسرا أيضاً، ليدرك رمضان أن الطبيعة هي العلاج السحري لأمراض العاصمة الطاحنة.

حمل الشباب حقائبهم وصعدوا إلى الباص الذي انطلق في رحلة الحلم. الوجوه تحمل ملامح متقاربة إلى درجة تشعرك بأنك تنظر إلى الشخص نفسه، فهاجر أحمد فتاة الستة والعشرين عاماً التي درست التصوير والتصاميم في كلية الفنون التطبيقية، لا تختلف كثيراً عن صديقتها يسرا منير التي تخرجت في الأكاديمية الحديثة، والاثنتان لا تختلفان عن مها الأسود فتاة الواحد والعشرين عاماً، أصغر المشاركات في هذه الرحلة.

أحمد عبد العظيم الشاب الذي يسكن في حي شبرا، أحد الأحياء الشعبية العتيقة، يشبه الثلاثي محمود فاروق وإيهاب قطب وخالد السباعي، وجميعهم قد تجدهم أبطالاً في أحد الأعمال السينمائية لمحمد رمضان، مثلما جمعهم حلم واحد في ميدان التحرير أثناء ثورة 25 يناير.

  • البرنامج

ساعات طويلة قطعها الباص في الرحلة من القاهرة حتى سانت كاترين، ليبدأ بعدها البرنامج الذي أعدته يسرا بالاتفاق مع مجموعة من بدو سيناء من خلال اتصالات شخصية بعيداً عن شركات السياحة التي قد يتطلب اللجوء إليها تكاليف باهظة تفوق إمكانات هذه المجموعة التي جاءت تتعرف على الطبيعة الساحرة بما هو متاح، لتبدأ رحلتهم الأسطورية كما تصوروها في منطقة فرش الرمان في سانت كاترين، من خلال صورة جمعت المخرج محمد رمضان بفتاة بدوية صغيرة تحمل تقاسيم وجهها ملامح المجتمع السيناوي، نشرها رمضان على صفحته الشخصية على فيسبوك وهو يقول "صباح الخير يا سينا"،  دون أن يدرك أن هذا هو الصباح الأخير في حياته.

دليلان من البدو بصحبتهما مجموعة من الجمال كانا في انتظار أفراد المجموعة لبدء رحلة السفاري في منطقة وادي الجبال، إلا أن وعورة الطريق كانت كفيلة بأن تجعل ثلاثة يتوقفون عن السير بعد مسافة كيلومترين، ويقررون العودة بعد أن أنهكهم التعب ليستمر ثمانية فقط في السير وسط الصخور، كانوا على موعد مع القدر. ورغم أن الطبيعة بدأت تكشر عن أنيابها وسط تحذيرات البدو من الاستمرار في هذه الرحلة، إلا أن حلم الشباب برؤية باب الدنيا دفعهم للمغامرة.

ست ساعات كانت المسافة التي تفصل الشباب عن قمة الجبل، فقرروا الاستمرار في السير مهما كان الأمر، وأمام الظروف الجوية التي ساءت بعد ربع ساعة من صعود الجبل وانخفاض درجة الحرارة إلى أقل من أحد عشر درجة مئوية تحت الصفر، ضل الشباب الطريق عن الدليل.

بدأت الثلوج تغطي الجبل مع العاصفة التي هبت على المنطقة، ورغم هذا لم يتوقف الشباب عن السير، بل وجدوا في هذه الثلوج فرصة لالتقاط مجموعة نادرة من الصور، وبروح المبدع التقط رمضان صورة للقمر وهو "مستخبي وراء الجبال"، على حد وصفه، إلا أن سوء الأحوال الجوية بدأ يرسم الخوف في قلوب بعض أعضاء الرحلة فقرر ثلاثة منهم التوقف وسط الجبل، واستمر خمسة آخرون في رحلة الصعود إلى النهاية.

  • الطبيعة تكشر عن أنيابها

تحول المشهد إلى اللون الأسود، وكشرت الطبيعة عن أنيابها، وفقد الجميع الرؤية والقدرة على الحركة، وكادوا يتحولون إلى قطع ثلجية، في الوقت الذي كان رمضان قد ابتعد عن المجموعة لمسافة اثنين كيلو متر، بعد أن خلقت سماته الإبداعية بداخله طاقة دفعته لمواصلة الصعود لرؤية المكان من أعلى بعين الفنان، عبر الكاميرا التي كانت تصاحبه والقمر الذي توقف عن مداعبته بفضل الضباب.

في السابعة مساءً، كان من المقرر عودة الشباب من أعلى جبل باب الدنيا، إلا أن الوقت مضى دون أن يعود أحد منهم، الأمر الذي دفع الشيخ سليمان فرج منظم الرحلة لصعود الجبل للبحث عنهم، حتى كانت المفاجأة المأسوية وهي العثور على هاجر أحمد وخالد السباعي وأحمد عبد العظيم متجمدين بعد أن فارقوا الحياة، فعاد المنظم إلى منطقة فرش الرمان سريعاً للاستعانة بمجموعة من البدو يعرفون تفاصيل المكان، انتشروا في الجبل للبحث عن الخمسة المفقودين على أمل العثور عليهم أحياء، وهو ما كان بعد فترة من البحث، فتم العثور على يسرا منير منظمة الرحلة بصحبة مها الأسود وإيهاب قطب ومحمود فاروق في حالة إعياء شديد، فاصطحبوهم إلى داخل أحد الكهوف وأشعلوا النيران لتدفئتهم.

انتشرت مجموعات أخرى من البدو وسط هذه الظروف الجوية القارسة للبحث عن الجثامين الثلاثة بعد أن غطتها الثلوج والرابع المفقود على أمل العثور عليه على قيد الحياة، إلا أن البحث طال لأكثر من يومين بسبب الثلوج التي تغطي الجبال، والتي تسببت بانعدام الرؤية حتى كان العثور على الجثامين الثلاثة قطعاً ثلجية، في الوقت الذي لم يتم العثور على محمد رمضان إلا بعد يوم آخر على مسافة كيلومترين أعلى الجبل الذي صعد إليه لرؤية الدنيا فكان باباً للخروج منها.

  • رحلة العودة

تفاصيل أخرى لرحلة العودة بالأحياء الأربعة وجثامين أصدقائهم الضحايا الأربعة رصدها بيان للعقيد أركان حرب محمد أحمد علي، الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة المصرية، والتي وصلها إخطار بالحادث من قسم سانت كاترين، أي بعد ثلاثة أيام من الرحلة، بتغيب ثمانية أشخاص كانوا في رحلة سفاري في منطقة وادي جبال سانت كاترين، فانطلقت دوريات من حرس الحدود بالتعاون مع البدو المسؤولين عن الرحلة للبحث عن المفقودين، فيما تم إخطار القوات الجوية لتجهيز طائرة هليكوبتر من أجل المساعدة في أعمال البحث، بعدما حالت طبيعة المنطقة أمام الدفع بأي مركبات.

قوات حرس الحدود شاركت مع البدو في نقل الأربعة الذين عثروا عليهم أحياء من داخل الكهف باستخدام الجمال، حتى وصلت طائرة من مطار أبو رديس العسكري نقلتهم إلى مطار سانت كاترين، ومنه إلى المستشفى الذي رقدوا فيه للعلاج من آثار الصدمة النفسية التي تعرضوا لها، خاصة أنهم شاهدوا ثلاثة من رفقاء الرحلة المشؤومة وقد فارقوا الحياة، وكان مصير زميلهم المخرج محمد رمضان مازال مجهولاً.

ثلاثة كيلومترات قطعها البدو وقوات حرس الحدود في نقل الجثامين الثلاثة التي عثر عليها أعلى الجبل مغطاة بالثلوج، ليتوقف السير بعد الوصول إلى قاع الوادي الذي تحول إلى منطقة سيول وصل فيها ارتفاع المياه إلى متر، وكانت على وشك التجمد بسبب وصول درجة الحرارة إلى 11 تحت الصفر، حتى وصلت في الساعة الثامنة من صباح يوم الأربعاء طائرة عسكرية من مطار أبو رديس نقلت الجثامين الثلاثة لاستخراج تصاريح الدفن، ليلحق بهم زميلهم محمد رمضان في الساعة الخامسة في طائرة أخرى بعد العثور على جثته أعلى قمة الجبل، لتنقل الجثامين الأربعة إلى القاهرة ويتم وداعها في مشاهد جنائزية يصعب وصفها.

عوامل قدرية رسمت هذه النهاية، على حد قول اللواء عادل كساب مدير إدارة الكوارث والأزمات في محافظة جنوب سيناء، فقد كان الجو طبيعياً عندما قررت المجموعة صعود الجبل بصحبة الدليل الشيخ سليم، إلا أن عاصفة ثلجية مفاجئة هبت بعد ربع ساعة من بداية الرحلة كانت كفيلة بأن تخفض الحرارة درجات عدة، غطت على أثرها الجبال بالثلوج. وشهدت المنطقة غيوماً وأمطاراً رعدية، وكان الظلام كفيلاً بأن تبتعد المجموعة عن الدليل، بل فقد بعضهم الوعي وفقد البعض الآخر القدرة على الحركة.

الظروف الجوية السيئة حالت دون إنقاذ الشباب في اليوم نفسه، كما يشير اللواء عادل كساب، علاوة على أن صعوبة التضاريس شكلت عائقاً أمام طائرات القوات المسلحة في الوصول إليهم بسهولة، لكن تعاون البدو وإصرار القوات المسلحة على إتمام عملية الإنقاذ كانا بمثابة طوق النجاة للأربعة الناجين.

بعد أسبوع  من موعد اللقاء في ميدان عبد المنعم رياض كان الوداع هذه المرة في مطار القاهرة، بعد أن استمعت النيابة إلى أقوال الأربعة الناجين من رحلة الموت، والذين قالوا إنهم ذهبوا مع الضحايا الأربعة وثلاثة آخرين في رحلة إلى جبال باب الدنيا. وأكدت يسرا منير مسؤوليتها عن الرحلة في التحقيقات، وأنها لجأت إلى العناصر البدوية دون أن تخطر أي أجهزة أمنية لعلمها أن التصاريح الأمنية مقصورة على الأجانب، مشيرةً إلى أنها لم تلجأ إلى أي شركة سياحية لأن هذا كان سيجعل رحلتها باهظة الثمن، علاوة على أن هذه الشركات تستعين بالبدو في النهاية لأنهم هم فقط من يعرفون تفاصيل الصحراء والجبال.

ربما تكون يسرا واحدة من الذين تتجه إليهم أصابع الاتهام، لكن من المؤكد أنها ضحية لعذاب الذكريات التي جمعتها مع الضحايا، فكيف لها أن تنسى صديقتها هاجر التي شاركتها في توزيع اللحوم على الفقراء في الأحياء الشعبية في رمضان؟ وكيف لها أن تنسى محمد رمضان الذي حمل معها الأغطية لتوزيعها على المعوزين في عز البرد ليموت هو من البرد في النهاية؟ وكيف لها أن تنسى أحمد وخالد اللذين شاركاها الحلم لرسم البسمة على وجوه الكثير من المحتاجين وقد غيبهما الموت عنها بلا رجعة؟

"يا بلاد عنك رحلنا ودموعي هربت وماتت، يا بلاد كانت أملنا وفي يوم صحيت ما باتت"، كلمات كتبها أحمد عبد العظيم، أحد ضحايا الحادث الذي لقي حتفه وسط الثلوج، تركها على حسابه الشخصي على "فيسبوك" دون أن يدرك أنها ستكون الرثاء له ولأصدقائه الذين ذهبوا لاكتشاف الطبيعة وسط الجبال فقتلتهم بلا رحمة.