عندما تتغلّب إرادة الحياة على الكرسي المدولب... مناضلون من نوع آخر!

دينا الأشقر شيبان 04 فبراير 2018

«الحياة ليست عادلة»... مقولة تتردّد على ألسنة معظم النّاس، حين يواجهون عثرة أو عقبة في حياتهم.  إنّما النّاس نوعان: نوع يخضع للهزيمة ويستسلم، وآخر يناضل بكلّ ما أوتي من قوة ليصنع من الضّعف قوّة!

كثر يتعرّضون لحوادث شبه مميتة وينجون منها بأعجوبة، ولكن الفارق يكمن في كيفيّة تمضيتهم لما تبقّى من حياتهم ومدى تكيّفهم مع الصّعاب. ويبقى الأهمّ هو العزيمة والمثابرة والصّبر والإيمان للانتصار على كلّ ما يعترض طريق النجاح والصحة والسعادة.


للوهلة الأولى، قد يظنّ المرء أنّ مجرّد أي انتكاسة أو عقبة من شأنها أن توقف حياته بالكامل وتحكم عليه بالإعدام مدى الحياة والانزواء والتشاؤم. إلاّ أنّ ما عند الله ليس في حسبان البشر، ففي الكثير من الأحيان تولد العزيمة من رحم المعاناة، وينبعث الأمل من قلب اليأس...
أن يولد شخص ذو احتياجات خاصة، أمر يتقبّله الأهل على مضض، لكنّهم سرعان ما يتأقلمون مع الواقع، فيعيش الشخص حياته بطبيعيّة قدر المستطاع، في عالمه الخاص، محاطاً بالدعم والمساعدة. لكن أن يتحوّل المرء في غضون أيام، لا بل ساعات من إنسان «عاديّ» إلى شخص يعاني من عاهة جسديّة أو إعاقة، أمر أصعب بكثير عليه هو أوّلاً وعلى المحيطين به ثانياً، بسبب الجهل أو الخوف.
هل تعلمون أنّ بضع ثوانٍ كفيلة بقلب حياتكم رأساً على عقب؟ هل تُدركون أنّ منعطفاً خاطئاً واحداً يودي بكم إلى الهاوية؟ ماذا تكون ردود فعلكم في حال عانيتم من إعاقة دائمة إثر حادث معيّن؟ الطّريق شاقّ ومعبّد بالصعاب، فما الحلّ للتغلّب على ضربات الحياة الموجعة؟
تشرح الدكتورة كارول سعادة، وهي اختصاصيّة في علم النفس العيادي وأستاذة جامعيّة، عن المعاناة من «إعاقة» أو فقدان أي عضو في الجسم، متطرّقةً إلى الحالة النفسيّة التي تصاحب هذه الحالات. كما نلقي الضّوء على أبطال مناضلين أبوا أن يستسلموا، وحاربوا حتى وصلوا إلى ما هم عليه اليوم، وانتصروا بإرادتهم على الصدمة والواقع الأليم.


إعاقة فصدمة فرضوخ

تقول سعادة: «للإعاقة الجسديّة المتمثّلة بفقدان عضو أو وظيفة حيويّة في الجسم، إثر التعرّض لحادث معيّن، تداعيات نفسيّة وجسديّة لا تُحمد عقباها في معظم الحالات. إذ قد تتسبّب بحالة Traumatization، أي المعاناة من صدمة عاطفيّة ونفسيّة للشّخص ولمحيطه على حدّ سواء. وتترافق مع مرحلة «حداد» على الحياة السّابقة أو القدرات التي فقدها الشّخص. وقد تطول فترة الحداد هذه مدّة زمنيّة ليست بقصيرة نتيجة اضطراب ما بعد الصّدمة. فالصّدمة هي أوّل ما يمر به المرء، وهي عبارة عن اضطراب قويّ يشعر خلاله المرء بأنّه اُقصي من الكون ولم يعد له وجود. يلي هذه المرحلة رفض للواقع الجديد وعدم تقبّل الحالة، ليدخل بعدها الإنسان مرحلة الكآبة عند محاولته تقبّل الوضع الحاليّ الذي يشكّل أمراً واقعاً لا مهرب منه».
وتضيف سعادة: «من الممكن أن تطول هذه الحالة كثيراً، وربما تكون منفذاً إلى حياة جديدة، وفق المرافقة الصحيحة والمتابعة الداعمة للانتقال إلى تقبّل الواقع الجديد، وتخطّي الصعوبات وبناء غد أفضل»، مؤكدةً: «قد تظهر بعد فترة من الزمن Flashbacks على شكل صور تأتي إلى مخيّلة الشخص الذي تعرّض للحادث، وتنتابه كوابيس في شأنها، تتطوّر أحياناً إلى اضطرابات واكتئاب وخوف... وهنا العلاج ضروريّ لئلا يصبح الاكتئاب مزمناً!».

حياة جديدة
كلّ الأمور تبدأ صغيرة وتكبر مع الوقت، إلاّ الحزن الذّي يبدأ كبيراً وسرعان ما يتضاءل مع الوقت. تقول سعادة: «مع الوقت، يعتاد الشخص الذي تعرّض لحادث على الصورة الجديدة لجسمه Body Image ويتأقلم مع حالته الجسديّة بفعل المتابعة في المستشفى وبإشراف الطاقم الطبّي المتكامل، وبفضل المساعدة التي يتلقّاها في المنزل والدّعم والتّشجيع، بالإضافة طبعاً إلى الأدوية المضادة للاكتئاب والقلق. كما أن من البدهي أنّ يمرّ الإنسان بحالة حداد ليصل إلى خواتيم الأمور. لكنّ المرحلة التّالية تكون البحث عمّا يُعيد إليه اللّذة بالحياة من جديد، للتّأقلم مع الوضع الحاليّ والاستفادة من الفرصة الثانية التي أُعطيت له بنعمة «الحياة». وتوضح: «في مرحلة معيّنة، قد يشعر الشخص بالعضو الذي فقده، العضو-الشبح، إذ يحاول تحريكه أو استعماله، وإن من حيث لا يدري أو حتى أثناء الحلم في النوم. فقد تتأخّر صورة الجسم الجديدة لتستقرّ في ذهن المُصاب، ما قد يسبّب أحياناً اكتئاباً إضافياً عند رؤية الواقع الأليم».

حلول بديلة
وتؤكّد سعادة أنّ «شخصيّة الإنسان تلعب دوراً كبيراً في مساعدته على تخطّي ما قد تعرّض له، بحيث قد يتطوّر على المستوى الرّوحاني وينظر إلى أبعاد الأمور، ليستعيد تفاؤله بالحياة، ويحاول الاستفادة من حلول بديلة لم تكن قطّ في الحسبان، عبر اختيار نمط حياة مختلف كلياً ومهنة تتناسب مع وضعه الجديد. كما قد يبحث عن تجهيزات وتسهيلات ونشاطات اجتماعيّة وثقافيّة وفنيّة وحتى رياضيّة تتماشى مع حالته هذه، ليبرع فيها ويواظب عليها. أما في حال كانت شخصيّته سوداويّة، فسوف يكون أكثر استعداداً للمعاناة من الاكتئاب والانزواء والابتعاد عن العالم الخارجيّ، خوفاً من عدم تقبّل الآخرين لوضعه، أو خجلاً من شكله الجديد، أو رفضاً للتعاطف ونظرات الشّفقة والأحكام القاسية».

نظرة المجتمع
تشير سعادة إلى أنّ «مستوى التربية والثقافة هو ما يحدّد كيفيّة وماهيّة تقبّلنا للآخر، مهما كان اختلافه عنّا واضحاً بالشكل أو بالمضمون. فعندما ينمو الولد على تقبّل الآخر وعدم الحكم عليه، تتغيّر نظرة المجتمع ككلّ وتتحسّن الألفاظ والمفردات التي قد نستخدمها وطريقة كلامنا أيضاً. ومن يتعرّض لحادث أو يعاني من احتياجات خاصّة لا يقلّ شأناً بالطبع عن سواه من حيث الكرامة والإنسانيّة والوجود، وهذا أمر لا يحتاج الى تفسير أو تبرير، بل يأتي ضمن نطاق الثقافة العامة للمجتمع والأخلاقيّات الإنسانيّة».

شهادات حيّة
إيلي كسّاب تعرّض منذ 21 سنة لحادث سقوط من سطح مبنى في الطابق الرابع على الأرض، أدّى إلى إصابته بشلل دائم في أطرافه السفلى وكان نقطة تحوّل في حياته. بعد أن استفاق من غيبوبته، حضّره الأطبّاء نفسياً، وبعد ستّة أشهر من العلاج في مركز متخصّص، عاد إلى حياته الطبيعية، ولكن مستخدماً كرسياً متحرّكاً. يقول إيلي إنه تعلّم الكثير من هذا الحادث... تعلّم الإرادة القويّة كما تعلّم تحويل الطاقة السلبيّة إلى أخرى إيجابيّة. وهو أراد أن يُثبت للجميع أنّه ما زال قادراً على مزاولة حياته بطبيعيّة بعدما أنقذه اللّه من الموت المحتّم ووهبه فرصة جديدة للحياة. فهو لا يحبّ الاتكال على أحد، وقد أكمل دراسته في مجال الاتصالات الإلكترونية ولم يكترث أبداً لنظرات الناس. ويشير إلى أنّ عزمه على ممارسة الرياضات على أنواعها لم يتغيّر بعد الحادث، إذ يمارس لعبة كرة السلّة والتزلّج، بالإضافة إلى الصيد والتصوير الفوتوغرافي. ويختتم إيلي حديثه مؤكداً أنه يريد تأسيس موقع إلكتروني كدليل للمطاعم والفنادق والمدارس والجامعات والمؤسسات التي تتوافر فيها التجهيزات الملائمة لذوي الاحتياجات الخاصة. وهو شخص ناشط على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وله إطلالات على شاشات التلفزة وقد تزوّج حديثاً.

شربل دغفل شابّ تعرّض منذ 17 سنة لحادث أليم على درّاجته الناريّة فأُصيب بكسر في رقبته وفخذيه ورجليه ويديه، وأمضى أحد عشر شهراً وهو يخضع للعلاجات والعمليّات الجراحية في المستشفى. وقد أسفرت إصابته عن شلل رباعيّ في اليدين والرّجلين، وفقد الإحساس بالجسم. يقول إنّه بعد فترة تقبّل الوضع بفضل مساندة الأهل والأصدقاء وبفضل إيمانه العميق. فقد وجد نفسه على مفترق طرق، وقرّر خوض غمار تجربة جديدة، بحيث تخصّص في دراسة الكمبيوتر ليستطيع متابعة حياته باستقلاليّة، لا بل ولإعالة إخوته الأصغر منه سنّاً. ويؤكّد شربل أنّ طريقة تفكيره تغيّرت كثيراً بعد الحادث، بحيث كان قد أمضى ثلاث سنوات من الضياع التام والسهر والصخب قبل الحادث. لكنه رفض الاستسلام وبدأ يتأقلم مع المجتمع الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة. فبدأ تجهيز منزله ليتمكّن من التنقّل باستقلاليّة، كما شارك في نشاطات والتزم مع بعض الجمعيات وأصبح عضواً فاعلاً فيها. وفي حزيران/يونيو 2016، قرّر تأسيس Wheelchair Taxi وهو الرائد من نوعه في لبنان، لخدمة الأشخاص الذين يعانون من حالات مماثلة ونقلهم بسهولة من مكان إلى آخر. كما يواصل عمله منذ عام 2007 في مكتبة عامة تابعة لإحدى البلديات، وهو مسؤول عن العلاقات العامة والإنترنت والنشاطات الثقافيّة والتوعية ضد الحوادث والمخدرات والإنترنت وسواها... ويؤكد بكلّ فخر أنّه يعيش من دون حواجز ولا عقبات، ولا يتشاءم أبداً، بل يعتبر نفسه محظوظاً لأنه لا يزال على قيد الحياة. كما يعيش مع أسرته وأصدقائه ويعمل على تطوير عمله وتحقيق ذاته.

هاغوب هاجاكيان تلميذ جامعيّ تعرّض منذ 4 سنوات إلى حادث سير قويّ بحيث صدمته شاحنة، ما أدّى إلى دخوله في غيبوبة ومعاناته من صعوبة في التنفّس وإصابة في الرأس والعمود الفقري سبّبت له شللاً. يقول إنه تمكّن من التغلّب على معظم الإصابات باستثناء الإصابة في العمود الفقري. وهذا يشكّل تحدياً جديداً بالنسبة إليه، وهو يطمح في التأقلم مع وضعه والمضيّ قدماً في حياته. ويشير هاغوب إلى أنه صمّم غرفة خاصة به، عبارة عن مركز تمرين صغير شبيه بصالة الرياضة، حيث يمضي وقته بالتمرين والمشي. ويؤكّد أنّ طريقه إلى الشفاء ما زال طويلاً ومتعباً، لكنه لم يفقد الأمل ولن يفقده لأنه عازم على النصر. وهو ينظر إلى تجربته هذه بتفاؤل، إذ يؤكد أنّ ما لا يقتله يقوّيه!