زاهي وهبي

شِعر, الدار العربية للعلوم ناشرون, زاهي وهبي, جائزة الشيخ زايد للكتاب

28 أبريل 2009

الكتاب: «يعرفك مايكل أنجلو»

الشاعر: زاهي وهبي

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون،2009


تجربته الإعلامية لم تُنسه موهبته الشعرية وصخب الأضواء لم يسرقه من سحر الكلمة... فلم تجذبه غواية الشهرة ولم يُمارس عقوقاً تجاه «الكتابة» التي رأى فيها عشقه الأول... وها هو زاهي وهبي الهارب من ضجيج التلفزيون إلى سكون القلم، يصدر مجموعته الشعرية السادسة «يعرفك مايكل أنجلو» عن دار العربية للعلوم ناشرون. استحوذت هذه المجموعة على إعجاب النقّاد الذين لمسوا فيها تطوراً من ناحية أسلوب الكتابة واختيار الموضوعات، واتفّقوا على أنها المجموعة الشعرية الأكثر نضجاً بين كلّ ما سبق أن كتبه الشاعر في مجموعاته الخمس السابقة. ولا عجب في ذلك، فهي قصائد كتبها زاهي وهبي بعد أن تخطّى سنّ الأربعين وكذلك بعد أن تزوّج وأصبح والداً. وهذه التطورات في حياته الشخصية استفاد منها شعرياً واستثمرها في قصائد بدت جديدة بالنسبة إلى قارئ شعر وهبي. فصاحب «في مهب النساء» و«تتبرّج لأجلي» لم يتخلّ عن المرأة كثيمة محورية في كتاباته، وإنما قدّمها بصورة مغايرة فيها الكثير من الجديّة والحميمية. فهي في «يعرفك مايكل أنجلو» الزوجة حيناً والأم حيناً أخرى، فهي ربما المرّة الأولى التي يتغنّى الشاعر بوصف زوجته الحُبلى التي تبتعد كل البعد عن صورة «الحُبلى» في قصيدة نزار قبّاني. فهناك يطلب الرجل منها أن تُسقط جنينها أمّا هنا، فالشاعر يتلهّف شوقاً لرؤية طفله واحتضانه. في هذه المجموعة الشعرية نشهد احتفالاً حقيقياً يُقيمه الشاعر لأسرته الصغيرة، فيتغزّل بزوجته التي وصلت ثلاثة أرواح معاً مثل «دمية روسية» فيقول: «طيبة القلب كلانا يًشبهك/ كلانا تحت سماء يديك/ لولاك كيف له النبض الأكيد/ كيف له الإبتسامة الطرية/ لولاك لما كنّا معاً مثل دمية روسية: قلبه في قلبك في قلبي في قلب الله».

ولكن وجود الزوجة- الحبيبة في حياة الشاعر لم يُنسه رحيل والدته التي تذكّرها في أسعد لحظات حياته في مدينة فلورنسا حيث رثاها وبكاها بدموع امتزجت ودموع زوجته. ولا شكّ في أن يذكر الشاعر والدته وهو واقف بين تماثيل مايكل أنجلو وأمام قبب الكنائس وصلوات المصلّين، فوسط هذا الجوّ الروحاني الغنيّ بالمنحوتات التي تستقي أغلب معانيها من الأساطير وقصص الدين استدعى وهبي روح والدته التي طالما اعتقدها- بعباءتها السوداء ووجها النيّر وإيمانها الخالص- بقيّة الأولياء الصالحين، ففي قصيدة «يعرفك مايكل أنجلو» التي يُمكن اعتبارها أفضل ما كتب زاهي وهبي حتى اليوم يوضح الشاعر تلك الفكرة قائلا: «كنت معي في صلوات لم تعرفيها يوماً، لم تسمعيها، ولم تسمعي بها/ لكن، بإيمانك الأكثر من سماء واحدة/ بصلاتك الأرحب من محراب... أضأت لك شمعة هناك، في فلورنسا ال بعيدة».
أمّا الشاعر الذي طالما تغنّى برجولته وعشقه للنساء فقد أخرج للمرّة الأولى «الأنثى» التي في داخله، وذلك بعد أن اختبر تجربة الأبوة التي غيّرت شخصيته الإنسانية والشعرية إلى حدّ فاجأ قرّاءه، ففي داخله حنانٌ خبرناه لدى الأم أكثر منه لدى الأب. ولا يتردّد وهبي في أن يأخذ من المرأة عموماً والأم خصوصاً بعض صفاتها مثل احتضانها لطفلها وبحّة صوتها وهشاشة قلبها... بل أكثر من ذلك، هو يبكي ويُفاخر ببكائه وكلّ هذه الإستعارات الأنثوية التي نسبها إلى شخصيته تبدو واضحة في قصيدة «كعازف يحتضن الكمان»: «أحتضن صغيري كعازف يحتضن كمانه/ لست إلاّ واحداً منكم لي طريقتي في الحب/ بحّتي في الإلقاء/ ألفظ الجيم شيناً/ أفاخر بهشاشة قلبي وضعفي حيال النساء/ لا يُخجلني بُكائي...».

رغم أنّ الصورة التي يرسمها الشاعر في هذا التشبيه «أحتضنه كعازف كمان» تشي بأنّ علاقته بابنه فيها شيء من التملّك من فرط المحبّة إلاّ أنّه يُسارع فيما بعد إلى إثبات قناعته بما سبق أن قاله جبران خليل جبران «أولادكم ليسوا لكم أولادكم أبناء الحياة» من خلال قوله: «لكنك لست أنا/ غداً تتعلّم النطق والتلاعب بالكلمات/ تمضي إلى حيث يشاء قلبك أو قلب من تشاء». وتجربة «الأبوة» قليلاً ما وقف عندها شعراء، لذلك يُمكن أن تكون نُقطة تُحسب لزاهي وهبي خصوصاً أنّه ترجم هذه الحالة الخاصة التي يعيشها بأسلوب شعري فيه الكثير من العفوية والتلقائية. وقد عبّر الشاعر بصراحة بالغة عن تأثير هذه التجربة على نفسه، فنراه في حالة استرجاع زمني أو على الأقل رغبة في استرجاع الماضي والبدايات. فطفولة «الولد» أحيت طفولة «الوالد»: «فيا صغيري تبسّم لتزداد الأرض نعومة/ لأستعيد بك ما فاتني من ابتسامات/ لأسترّد طفولة طمرتها الأتربة». أمّا العودة إلى الطفولة فهي ليست مجرّد موضوع أثاره الشاعر تأثّراً بطفولة إبنه الأول وإنما هي عودة إلى الفطرة والذات، كأنّ الشاعر مأخوذ بشوقه إلى «ما قبل الصلب والترائب» بعيداً عن الحداثة ب«مصابيحها الكهربائية والواجهات الزجاجية وأبنيتها الإسمنتية»...

وفي خطوة مغايرة لأبناء جيله من شعراء الحداثة، ركّز الشاعر على فكرة العودة إلى الأصل في شكل يُذكّرنا إلى حدّ ما بفكر شعراء «الغاب»، أمثال جبران ونسيب عريضة اللذين دعيا في قصائدهما إلى التأمّل في الطبيعة التماساً للحقيقة بكلّ ما في هذا الفكر من نزعة صوفية تتجلّى في «وحدة الكون». وهنا يكمن «التجديد» الذي ميّز هذه المجموعة، إذ أنّ مثل هذه القضايا الكبرى لم تكن موجودة في أعماله السابقة وربما يكون التطرّق إلى هذه المواضيع من «مرور الزمن والحياة والموت ووحدة الكون وعلاقة الخالق والمخلوق...» هو الذي أعطى إلى هذا الديوان سمة النضج الملحوظ الذي استوقف النقّاد والقرّاء على حد سواء. فالشاعر هنا يحتفي بالطبيعة من خلال العوامل الباشلارية الأربعة: «الهواء- الماء- النار- التراب» ويُؤنسنها ويُخاطبها وكأنّه منها أو هي منه.فالصور المنتزعة من الطبيعة في شعر زاهي وهبي تقرب من الصور المنتزعة في الشعر المهجري بحيث لا تقوم على المقارنة والتشبيه بل على «الإتحاد». لذا لا يضع الشاعر مسافة بينه وبين التراب فيقول: « تُراباً نمشي على تراب/  حُفاةً نمشي على تراب.../تُراباً نُعانق التراب.../ نحرث الأرض لنرث الأرض.. الأرض فينا ونحن في الأرض/ كلانا واحد، كلانا تراب.. تراب ساكت وتراب ناطق...».

كذلك هو عاشق الماء، فاستعار بذلك صورة «نرجس» الأسطورية الذي أحب نفسه من خلال انعكاس صورته على وجه الماء بقوله: «لكن وجهي يتلألأ في النهر/ أنظر تراني هناك/ ضاحكاً في عذوبة المياه/ لاهياً في غفلة المكان/ خلف رعشة في براري الجسد». كما أنه يتجانس مع النار «هرعت إلى النار/ اندلعت النار في كفّي»، وهو يفهم أيضاً لغة الهواء: «نهمس في أذن الريح، أمس كانوا هنا/ أصواتهم فالتة في البراري...».
ففي هذه المجموعة المتميّزة بموسيقاها وتنوّع موضوعاتها استطاع أن يهدي إلى القرّاء قصائد يمتزج فيها الحب مع الرثاء بالحياة بالموت والريف بالمدينة والفن بالطبيعة. كما نجح زاهي وهبي في أن يُبرز نفسه في صور متعددة بل متناقضة بين زوج محب وأب ناضج وطفل عابث، الأمر الذي جعل من «يعرفك مايكل أنجلو» بمثابة النقلة النوعية في كتابة زاهي وهبي الشعرية.