Home Page

نينار إسبر: 'أنا متمرّدة...

نينار اسبر, أدونيس

03 سبتمبر 2009

لا تشبه الفنانة والكاتبة نينار إسبر أحداً. تشبه نفسها. يمكن أن يقال إنها غريبة الأطوار وصريحة أو جريئة إلى حد لم نعتده من أنفسنا نحن أهل هذه المنطقة من العالم المجرّدين من فردياتنا (حسب نينار). ويمكن أن تحيط علامات استفهام بصورتها بيننا، تلك الصورة التي تصبح هي في أعمالها الفنية. فنينار تعبّر عن نفسها بنفسها. تعبّر بعينيها وكلماتها وحركات جسمها وبالكاميرا. ابنة المفكر والشاعر السوري أدونيس والكاتبة والناقدة خالدة سعيد التي تحمل إرثاً ثقيلاً من الكلمات والأفكار والإنجازات و«الخيبات» ربما، تصالحت أخيراً مع غياب أبيها عن طفولتها، وفهمته... ليس حواراً رسمياً ما سيأتي، إنه محاولة لتفكيك رغبة ما في فهم العلاقة بين نينار الفنانة ووالدها أدونيس...  

- تركت الكلمة ولجأت إلى الصورة، هل انتقمت من الكتب التي أخذت منك والديك؟
أفكر أحياناً في خشيتي أن تكون الكتابة موهبتي وفي أنني أمنع نفسي من أن أكتب، ربما لأنه مستحيل أن أكتب ما هو في مستوى ما كتبه والداي وما يكتبانه. لا أستطيع أن أتخطّى حقيقة كهذه، لا أستطيع تجاوزهما، كماأؤمن بأن مَن يريد أن يوصل أفكاره إلى الآخرين، يجد الطريقة المثلى لإيصاله متخطياً الصعاب والعراقيل. وأنا أحب الصورة وأحب التعامل معها والتعبير من خلالها. لا يمنعني والداي من أن أكتب، لا يفرّقان بيني وبين الكتابة، ولا تمنعني الكتب من الكتابة التي حاولت التعبير من خلالها، وربما نجحت. لكن الصورة تسكنني، وهي أقرب إليّ وأجدها وسيلة التعبير الأسهل. كما تقدّم لي الصورة هامشاً أوسع، وتمنحني مجالاً أكبر للتعبير ربما لأن والديّ لا يتعاملان معها، ولأنني لا أحس من خلالها أن ثمة مجالاً للتنافس بيني وبينهما. بالصورة أستطيع أن أصنع عالمي الذي ليس عليّ أن أشارك والديّ به، في الكتابة أحس بأن هناك احتمالاً للمنافسة بيني وبينهما. لكنني أريد أن أكتب وسأكتب، لأن الكتابة فيّ رغماً عني، ولأنني في عالمها بسبب والديّ وأصدقائهما. وقد أرسلت لمجلتيْ «المجلة» و«لها» مقالات خلال 11 عاماً، لذا أظنني أستطيع المواظبة على الكتابة.

- هل هربت منذ البداية من احتمال المقارنة؟
المقارنة بين ما أكتبه وما يكتبه والداي مستحيلة. وإذا كنت أحب الكتابة، إلا أنني لا أحب القراءة التي تدفعني إلى الملل. أتخلّى عن القراءة بسهولة خصوصاً قراءة الروايات حين أحس بأنني غير ملزمة اقتحام عالم غيري، وعيش حياة ليست حياتي. فأنا أكاد لا أستطيع أن أعيش حياتي ولا أحتاج إلى أن أعيش حياة آخرين.

- هل لأن حياتك غنية... ربما؟
ربما.
الصورة تدخلني سريعاً عالم الآخرين دون وساطة، وثقافتي هي ثقافة المرئي. اعتدت الصورة وتعلّمت منها. ثقافتي ليست ثقافة كلمات، هي ثقافة بُنيت على الصورة التلفزيونية، وأنا بنت عالم الصورة الذي شهدت عليه متطوراً، بينما لم يعرف والداي تطوّره. أرى الأشياء بسهولة، ألاحظ الألوان سريعاً، وأفهمها. حين أقرأ لا ألاحظ ألوان الكلمات. ليس للكلمات ألوان، يتكرّر اللون نفسه والأشكال نفسها. لكن يصحبني المعنى طبعاً إلى أمكنة أخرى، ويصنع الغنى. في الحقيقة لديّ مشاريع كتابة الآن، وأقول إنني أحب أن أكتب.

-  لماذا تختارين نفسك مادة للعديد من صورك وأعمالك الفنية؟
سمحت لي الخبرة التي اكتبستها من حياتي في فرنسا بعيداً عن تربية أهلي بألا أخاف مما يقوله الآخرون عني، وألا أكترث له. هناك لا يسأل أحد عن أحد. يحقّ لي أن أختار أن أكون نفسي، أن أكون ما أريد أن أكونه، ويمنحني القانون هذا الحق أيضاً. لكن طبعاً ما زالت هناك مشاكل يعانيها هذه المجتمع، النساء يعانين في أوروبا أيضاً، لكن كفنانة وامرأة أستطيع أن أقول ما أريده وأن أكون مَن أريد أن أكون. أنا حاولت واغتنمت الفرصة، أحببت أن أختار هذا الاتجاه واخترته. سهل أن يحكي الواحد منا عن نفسه، الناس يهتمّون بما أخبرهم به عن نفسي، رغم أنني أسأل نفسي أحياناً عما يمكن أن يهمّهم فيّ، فأنا مللت نفسي. لكنني ألاحظ أنه حتى في الرواية إذا كتب الراوي عن نفسه يأتي ما كتبه أكثر تأثيراً مما إذا تفلسف واخترع شخصية بعيدة عنه. لأنها ليست هو، ولأنه لن يكونها.
أظنني إذا قرأت في رواية عن حياة راويها، أتعرّف إلى حياتي، أرى نفسي في مرآته، ويؤثر فيّ. وفي الفن الأمر نفسه، أتأثر بعمل فني يظهر الفنان نفسه، أكثر  من رؤيتي لوحة عن الطبيعة، ربما وجدتها مملّة ولا تعنيني.

- هل تحسين بأنك تنتمين إلى بيروت؟
قررت منذ مدة أنني أنتمي إلى المكان الذي أقرر أن أنتمي إليه وأحب أن أنتمي إليه وأحس بأنني أنتمي إليه. يرتبط انتمائي إلى مكان ما برغبتي وبقراري، رغبتي أنا التي يمكن أن تكون مناقضة لرغبة الآخرين.أختار ما أريده هنا، وأختار جزيرتي التي أعيش فيها، وإلا فإنني سأكون في صراع مستمرّ مع الآخرين، مع الناس في الشوارع الذين ربما يرجمونني. في بيروت أختار لنفسي جزيرة صغيرة حيث ألتقي بمَن هم مثلي يحاولون البحث عن فرديتهم، نبتكر شبكة من العلاقات.

- هل أنت الشخص نفسه في لبنان وفرنسا؟
نعم أنا الشخص نفسه في لبنان، في هذه الجهة من العالم. لا أتغيّر بوجودي هنا أو بعودتي إلى هناك (فرنسا حيث تعيش). لكن الفصام هنا يصدمني، ولا أستطيع أن أقبل به أو أختبره. وقد أقوم بأمور لا تنفعني أبداً، لكنني أقوم بها فقط كي لا أتصرّف وفقاً لمعايير مزدوجة، كي لا أقوم بالشيء ونقيضه. يصدمني هنا أن الكل يعرف أن للأمور وجهين، ويقبل بالوضع ويدّعي أن الأمور كلها على ما يرام.

- لماذاأنت متمرّدة دوماً على الوضع القائم؟ 
الناس يسألونني: لمَ أنت هكذا؟ نعم أنا متمرّدة لأن هناك حالات قمع في هذه المنطقة، في هذا البلد، ألاحظها وأحس بها منذ صغري. وكنت أسأل نفسي منذ: لمَ يستطيع الصبيان أن يقوموا بأمور لا تستطيع الفتيات القيام بها؟ ثم كبر فيّ هذا الشعور بالقمع. طريقتي في التعبير يحكمها الشغف، أتحمّس جداً، كما أنني متطرّفة في التعبير عما أحس به.

- وهل يمكن أن تؤثري في الناس أو أن تغيّريهم؟
لا أظن أن الناس يتغيّرون بعد مشاهدة عمل فني أو قراءة كتاب. الشعر والفن لا يغيّران العالم، العالم يتغير بطريقة أخرى أو لا يتغيّر، ولا يمكن للفن أن يغيّر شيئاً.

- كيف هي علاقتك باللغة العربية؟
أضع اللغة العربية في مرتبة عليا، أؤمن بأنها اللغة الأجمل والأغنى والتي تعزف حروفها ألحاناً، كما أرى في الخط العربي لوحات فنية. لكنني خسرت اللغة العربية لأنني وجدت نفسي في فرنسا غير ملزمة باستعمالها، لم أحتجها. وفي العالم العربي يعلّموننا العربية بقسوة، فنراها لغة ثقيلة الدم وعجوز ومملّة. وهي لغة صعبة، ليست سهلة كالإنكليزية على سبيل المثال، إضافة إلى أنني ابنة أدونيس. كان علي أن أنطح الصخر كي أحاول أن أقترب من براعته، ولن أفعل ذلك. وقد عرفت تماماً أنني لن أستطيع أن أكون مثله وأن أبني باللغة العربية علاقة كعلاقته بها. لم يحرّكني الشغف الذي حرّكه، فأبي لم يتقن اللغة العربية وقواعدها فحسب، بل يعيش فيه شغف بالتعامل مع هذه اللغة، وبأن يصنع منها ما يريد أن يصنعه. شغفه دفعه إلى أن يكون ما هو عليه الآن.

- ألم يحاول أدونيس أن يعيد إليك الاهتمام باللغة العربية؟
 لم يحاول أدونيس أن يعلّمنا اللغة، لم يهمه ذلك. يقول دوماً إن أباه لم يوجهه إلى ما اختار القيام به، وإنه وحده أراد أن يلقي القصيدة التي ألقاها للرئيس السوري شكري القوتلي (والتي غيّرت حياته لأن الرئيس الذي أُعجب بالقصيدة أمر بتعليمه على نفقة الدولة في المدرسة العلمانية الفرنسية في طرطوس). لم يمنعه والده، لم يقل له لا، اكتفى بأن طلب منه أن ينتبه إلى ما يفعله. الاختيارات في حياته قام بها وحده، وقد توفي والده وهو في السابعة عشرة... لا لم يقل لي إنني يجب أن أتقن العربية.

- هل يعرف والدك الكثير عن حياتك؟ هل تستشيرينه في أمور متعلّقة بك؟
لا يتدخل والدي في ما أريد فعله، ولا أسأله عما أريد أن أفعله، وعن رأيه بقراراتي. لا أسأل أمي ولا أبي. يمكن أن أتكلّم مع أختي في موضوع يخصّني. لكن ربما نعم، أخبرت أمي بأمور عن حياتي لم أخبرها لأبي. استشرتها في اختياراتي المتعلّقة بحياتي الدراسية والمهنية، ولم أستشرها في ما يتعلّق بحياتي الشخصية، كنت واثقة بأنني أريد أن أدرس الفنون الجميلة، وعندما درست تصميم الأزياء كنت واثقة بأنني أريد أن أدرس تصميم الأزياء. هكذا أنا أقرر ما أريد أن أفعله وأفعله.

 - ألم يسألك والدك سؤالاً مثل: متى ستتزوجين وتنجبين أطفالاً؟
 أبداً، أمي وأبي بنيا فيّ أنا وأختي الأساس، وتركانا، في الحياة الشخصية نحن حرتان في القيام بما نريد القيام به. ولا نلومهما على ذلك.

- لماذا قررت نشر أسئلتك لوالدك أدونيس التي جمعتها في كتاب «حوارات مع والدي أدونيس» (صدر عام 2006 بالفرنسية ويصدر عام 2009 بالعربية عن دار الساقي)؟ ما الذي قدّمته إليك هذه الأسئلة؟
سمح لي الكتاب بأن أبني صداقة مع أبي. وقد مررت بمرحلة صعبة، كنت مكتئبة وشعرت بالحاجة إلى أبي. فكرت في الكتاب كطريقة وحيدة أتقرّب عبرها منه. أحسست بأن الوقت سيداهمني إذا لم أقم بهذه الخطوة، وبأن ليس ثمة ما يعوّض عن جلوسي معه وتقرّبي منه. لا شيء يعوّضني عن علاقتي بأبي. الزوج لا يمكن أن يكون أباً، ولم تنفع التعويضات التي حاولت أن أقوم بها كي لا أحس بالفراغ. كان عليّ في تلك المرحلة أن أواجه أبي... هذا ما أحسست به.
سألتُه أين كان، وواجهته بغيابه. وقد كنت صغيرة ولم أجده إلى جانبي. ولا تستطيع أن تنتظر من الصغار أن يفهموا ظروف الكبار. لكن هذه التجربة جعلتني أكثر انفتاحاً على الآخر، أقبل وأحترم جميع أنواع العلاقات بين الناس. تقرّبت من أبي وفجأة كأنني اكتشفت الحياة من خلاله، وأنني يجب أن أستمع إلى الرأي الآخر لا أن أعتبر أنني مظلومة وأبكي لأن أبي تركني. أردت أن أستمع إلى آرائه واكتشفت أن الحياة ليست سهلة وأن الإنسان أحياناً يقوم باختيارات صعبة وأنه يسهل على أحدهم أن يأتي من بعيد ويقول إن هذا الشخص ترك ابنتيه أو زوجته أو أن زوجته تركته. لن نعرف ما الذي دار في الداخل... ويجب قبل أن نطلق الأحكام أن نسأل عن الأسباب.  
ربما كنت سأشعر بمزيد من الغضب لو أنه تركني ولم يفعل أي شيء، لكنه أبدع وقدّم أموراً مهمة. أنا أحترمه. وهو لم يكن يريد أن ينجب أولاداً، هذا كان أحد شروط زواجه من أمي. لكن أمي هي التي رغبت في أن يكون لها طفل أو طفلة ثم طفلتان.

- حققت عبر هذا الكتاب هدفاً شخصياً وقدّمت في الوقت نفسه كتاباً عن أدونيس المفكر والشاعر المشهور... أسئلتك صادمة ما الذي أردته منها؟
سألته أسئلة صديقين، تحدثنا كشخصين راشدين، كصديقين على أساس أنه يقول دوماً إنه صديق وليس أباً. لم أتوقع أن يجيبني بطريقة كلاسيكية أو بطريقة أبوية، لكن الأب فيه ظهر فجأة. ومن أين أتى؟ لا أعرف، فقلت له إنني «لا أريدك أن تجيبني بهذه الطريقة، أريد الجانب الثوري فيك والطليعي، لا أريدك أن تجيبني كما يمكن أن يجيب أي والد ابنته».

- لكنك جررته...
... واكتشفت حدوده أيضاً، وعرفت أن أدونيس يستطيع أن يكون أباً أيضاً، وهذا أمر جيد. وقد أحببته أكثر. كنت مغرمة به، والآن أصبحت أحبه بطريقة أكثر نضجاً.

- تقولين إنك لم تقرأي مؤلفات والدك...
لا لم أقرأ كتبه، وما قرأت مؤلفات أمي. أريد أن أقرأ لهما قبل ألا يعودا هنا، لكن علاقتي بالكتب غريبة جداً. هذا المشروع مؤجل الآن، فقد انشغلت أخيراً بالعمل على فيديو طويل في جنوب فرنسا يحكي الكثير عني. المشروع ينطلق من لوحات كلاسيكية مثل لوحة امرأة في قارب متجهة نحو جزيرة، انطلقت من الديكور نفسه، واخترعت قصة حول هذا المشهد. وهناك مشروع إخراج فيلم سينمائي ربما أظهر فيه أيضاً. تدور أحداث الفيلم في بيروت، عن الأبطال الخارقين. كتبت القصة لكنني لم أكتب السيناريو بعد.

  • ولدت عام 1971 في بيروت ـ لبنان.
  • تعيش حاليّاً وتعمل في باريس.
  • تحركت نينار إسبر، في مسيرتها الفنية في اتّجاه موقف يورّط كيانها بكامله جسداً وخيالاً، ويضع هذا الكيان في خطر الانقسام إلى ذات وموضوع؛ من هنا كان حضورها الشخصي الجسدي في أعمالها، ولا سيما .التكامل عندها بين البرفورمانس وأفلام الفيديو. فأفلام الفيديو عندها تُصوَّر بلا قطع ولا مونتاج وتستغرق وقت البرفورمانس نفسه. هذا ما نجده في «سمعان» عام 2000 وإستيريللا 1 عام 2001.
  • أمّا عملها الكبير Algorithmes ، 2003 فهو Installation (تجهيز) يُعرَض على اثنتي عشرة شاشة فيديو ويشارك فيه خمسة عشر لاعباً.
  • نينار، في سائر أشكال تعبيرها، تدفع بجسدها في إيقاع بطيء يقارب السكون. ويقتحم الجسد ـ جسدُها هندسةَ المكان وينكتب فيها؛ يُعَلّق على المرتفعات كالجدران والأبراج والذرى الشاهقة، أو يندمج بمساحات الحياة اليومية كالرفوف والطاولات والكراسي.
  • بين 2002 و2006 باشرت تصوير نوع من «يوميات» على الفيديو بينها « دقيقة في بانكوك» 2003، «دقيقة في بيروت» 2005 ، «دقيقة في نيويورك» 2006.
  • وهي إلى ذلك، تستلهم بطلات خارقات وشخصيات نموذجية. وتقدم في بعض رسومها بطلة تخيلتها تجسّد أفكارها واتجاهها في الدفاع عن النساء وعن الطبيعة وكائناتها. فالفنّ عندها لا ينفصل عن مبادئها الأخلاقية المتمثلة في حماية الحياة واحترام جميع مستويات التنوّع.
  • ومن هذا المنطلق نفسه تقاوم العنصرية الذكورية وتخترق نماذجها الهجائية في التصوير ولا سيما تلك التي تسخر من النساء من قبيل (Pin Up ) فتعالجها بسخرية مقابلة.
  • عرضت في باريس وعدد من المدن الفرنسية والأوروبية وفي المغرب وكوريا وتايلاند.