'وجوه في الذاكرة' وجه جديد للشاعر فاروق شوشة

شِعر, عرض ازياء تراثية, الدار المصرية اللبنانية, جائزة الشيخ زايد للكتاب, نصوص النثرية, فاروق شوشة

13 أكتوبر 2010

الكتاب: "وجوه في الذاكرة"

الكاتب: فاروق شوشة

الناشر: الدار المصرية اللبنانية

يفاجئ الشاعر المصري فاروق شوشة في كتابه الجديد «وجوه في الذاكرة»، الصادر حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، في 270 صفحة من القطع المتوسط، قرّاءه بلون كتابي جديد، غير معهود في الثقافة العربية، فهو لون خليط بين الشعر والنثر، حيث تنهمر الذاكرة وتنتظم، في نهر من الكتابة الرائقة، فلا تقف أمام التصنيفات كثيراً، وإنما تستجيب لقانونها الخاص. وهنا تكمن مفاجأة فاروق، الشاعر المنضبط المدافع عن التراث، ولكنه ليس الدفاع الأعمى، الذي يرفض الجديد كونه جديداً وفقط، إنما يرفض الانفلات من قانون الكتابة وأطرها، لكنه يقف مع كل جديد ويستفيد منه، ويستعمله بحرفة عالية، إن استعمله. إنها خبرة الشاعر الذي هضم تراثه القديم، قراءة وبحثاً وفهماً وتحقيقاً، فيأتي تجديده دائماً محسوباً وواعياً وليس خبط عشواء.

«وجوه في الذاكرة» استدعاها فاروق شوشة، لتُعبِّر عن حالات إنسانية عامة، لذلك جاءت كلها بلا أسماء محدَّدة، حيث أكسبها التجهيل عمقاً إنسانياً ورحابة روحية كبيرة، تنطبق على كثيرين في ذهن القرَّاء، وإن التصقت في ذهن الشاعر بشخصية محدَّدة، وهي كتابة تخضع لعمل الذاكرة ومراوغاتها في استدعاء الماضي، ولكنها ذاكرة منضبطة وانتقائية، وليست منفلتة، كأن الشاعر في هذا النص يخطّ لنفسه سيرة ذاتية عبر أحداث وشخصيات مرّت في وعيه، مثل: الأسرة والعائلة والكُتَّاب، ومثل بنت الجيران، التي تعرَّفنا من خلالها على مراهقتنا، «تلك الصبية قرب سن تكوّر النهدين، وقرب تأرجح الردفين، قرب تشكل الجسد الصغير، وصنعة الخراط يبدع في تشكلها فتاة ساحرة».

في وجوه تلك الشخصيات يتأمّل فاروق شوشة رعب المصير البشري، ومأساته الوجودية، كما في الزوجة العابثة، التي تطمح «إلى موعد يتاح يكسر الملال، أو نزوة تُغيِّر المذاق بعد طول عشرة منضبطة، قد سئمت من طعمها الحلال»، أو كما في «سم العقرب، تلك الحالة التي تتأمل مصير رجل قضى عشر سنوات من عمره في صحراء الخليج، يجمع الأموال ويرسلها إلى زوجة شديدة الطمع، تضع الأموال في شركة توظيف فتضيع، ويأتي الزوج الحالم بالغد المشرق، فيقع في شرك الإفلاس، ويصاب بالجلطة، ويحرم من أطفاله «سنوات عشر ضاعت منك، وضاع العمر وأنت تطارد حلماً طار، وحين أفقت صحوت على غدر وخديعة، ودراهمك المقتطعة تنهمر بعيداً عنك، وشريكة عمرك - تلك العقرب- تملأ كل حياتك سُمًّا، أما المال فينأى عنك ويصبح في قبضة أهليها، كي يستثمر في أرباح هائلة موهومة».

وبين الأمل البرَّاق والنهاية المأساوية، تمضي قصة ذلك الإنسان الذي وقع فريسة بين الغربة المكانية والغربة الروحية، ليضعنا فاروق شوشة أمام هول تبدُّل المصائر البشرية، وأننا ربما كنا كلنا ذلك الشخص، أو هو يحذرنا من مصير ذلك الشخص، فتختلط في ذهن الشاعر هذه الحالة التي يتأملها، ليسأل: «من منا الجاني ومن منا المجني عليه، وعيون الزوّار يرى فيها حجم المأساة فيبكي، ويسيل الدمع غزيراً، يختلط الدمعان، فلا ندري من يبكي من، من منا المسجون ومن منَّا السجان، ومن منا المشلول المقعد، والفاقد للنطق وللحركة؟!».

تخرج الوجوه كلها من حالاتها، لتصبح نماذج بشرية حية، نعاينها في حياتنا، فلا نقف أمامها، لكن فاروق شوشة بحسّه الإنساني العالي وبشاعريته المفرطة التقطها من زحام الحياة، ليصنع منها حالة شعرية وإنسانية عامة، تختلط صياغتها بين النثر والشعر، ولكنه النثر المكتنز باللغة الدالّة، والشعر البسيط، حتى أنه في بعض الأحيان يتكئ على لغة عامية دارجة وبسيطة، مستفيداً من كل إمكانات اللغة وكل مستوياتها، هو صاحب الحس التراثي العميق، درس وهضم تراثه فعرف متى يستفيد منه، ومتى يخرج عليه خروج العالم به وبقوانينه.

لم تكتف ذاكرة الشاعر بنقل الشخصية كما هي في عالمها الواقعي، بل أضفت عليها الكثير من التخييل الذي منحها عمقاً شعرياً، وروحاً سردية بسيطة، كما في حالة رجل الأعمال اللامع: «هذا صاحبنا رجل الأعمال اللامع، لا يملك وقتاً لرفاق الأمس، فلا معنى لضياع الوقت، وكل دقائقه مال منهمر، وحسابات وعقود شتى، وهواتف تنقل ما يأتيه سريعاً، من بورصات الشرق ومن بورصات الغرب، فتسعده أو تشقيه، اللعبة ماضية والعمر رهان، لا يتسع لأوهام الحمقى من أمثالي - أو ساعات ضائعة في نقد الذات، وتقييم الأحوال».