ياسين رفاعية في 'من يتذكّر تاي'...

السفارة الباكستانية في بيروت, كاتبة, رواية / قصة, نشاطات ثقافية, ياسين رفاعية

05 سبتمبر 2011

الكتاب: 'من يتذكّر تاي'

الكاتب: ياسين رفاعية

الناشر: دار 'الخيال'، 2011


يعود الكاتب السوري ياسين رفاعية في روايته الصادرة حديثاً عن 'دار الخيال' إلى مدينة بيروت في ستينات القرن الماضي. يسوقنا إلى أزقّة الحمرا التي كانت 'غير حمرا هذه الأيام. يوم كانت شُعلة بيروت ومركزها الرئيسي'.
يُدخلنا إلى مقهى 'تاي'، مُلتقى المفكرين والمثقفين آنذاك. المكان هنا هو أحد أبطال الرواية. فيه تجتمع شخصياتٍ سلَبَتها الهزائم إحساسها بالبطولة.
يقصدون المكان لنسيان إحباطاتهم النفسية والعاطفية والاجتماعية. رجال 'تاي' فشلوا في الحبّ كما في الحياة، وجاء هذا الفشل انعكاساً طبيعياً للفشل العربي الأكبر.
إنّ الهزيمة العسكرية التي مُني بها العرب في حرب الأيام الستة كانت 'النكبة' التي أودت بهم جميعاً تحت سقف 'تاي'.
زوّاره هم مفكرّون طلّقوا الحياة في العالم الخارجي الذي يُسيّر أموره الكبيرة والصغيرة من دون أن يأخذ بآرائهم أو يطلب معونتهم، ورموا أنفسهم ليلاً بين أحضان 'تاي'، المكان الذي يسمح لهم بالتعبير عن هواجسهم وأفكارهم براحة وحريّة في جوّ من الخمول الذي ينسجم وإحساسهم الداخلي بالفشل.

في روايته الواقعة في 220 صفحة من القطع المتوسط، يفتح رفاعية الستارة على أبطال حقيقيين ذكرهم بأسمائهم كاشفاً أسرار حيواتهم داخل مقهى بيروتي من زمن الهزيمة- الفاجعة: أكرم حوراني،غسان كنفاني، أمين نخلة، عصام محفوظ، معين بسيسو، سامي الجندي...

الأحداث المذكورة والتي جرت بين عامي 1967 و1973 هي أيضاً حقيقية بتفاصيلها وأمكنتها كلّها. وقد تكون الرواية تدويناً أميناً لأحداث عاشها الكاتب- الراوي وشارك في صنعها، إلاّ أنّه لم يتطلّع في كلّ ذلك إلى سبر ذاته وأغوارها بل إلى البحث في ذات بطلة الرواية، العاملة في المقهى.

'تاي' هي التي تُدير المكان وتدعم المثقفين المحطّمين بأملها وقوتها: 'لا أوافق على زرع هذا الكيان الغريب عنّا في قلب الوطن العربي.
قد يهزمنا مرّة أخرى ورابعة وخامسة، ثمّ لا بدّ ذات يوم أن ننتصر، إنّه عدوّ ينتفخ كالبالون، وسيستمرّ في هذا الانتفاخ طالما يرانا مهزومين من الداخل، ونعيش تحت أنظمة ديكتاتورية، لكنّ أجيالاً عربية أخرى ستأتي وتُصحّح المسار'.
وإذا ما تابعنا صورة 'تاي' في جميع أجزائها المتباعدة وعملنا على كشف قيمتها النفسية والثقافية والفلسفية، وجدناها بطلة تنحدر من 'الميثة' أو الخيال.
هي عائشة ابنة عبد الودود باشا. والدها باشا مصري كبير قتلته المافيا الإيطالية واغتصبتها فهربت إلى لبنان وعملت في 'تاي' الذي أصبح بفضلها محطّة ثابتة لنخبة رجالات بيروت وضيوفها.
هي امرأة غير عادية، يصفها الكاتب بأنها 'امرأة مصرية ساحرة، ترث من مصر الجمال الفرعوني بشعرها الأسود الغامق، وعينيها السوداوين الناعستين، وفمها المزموم على شفتين دقيقتين، وإذا ابتسمت ضاء فمها بأسنان ناصعة البياض، إلى جسد مشدود لا يقلّ عن أجمل عارضة للأزياء... كانت مثقفة ثقافة عالية، وخريجة جامعة الإسكندرية ماجستير في الفلسفة وعلم النفس...'.

أمّا إذا دقّقنا في تاريخ هذه الشخصية وحبكتها وقصة انتقالها من حياة الرفاهية والمجد والثقافة والثراء إلى العمل في مهنة وضيعة ذات سُمعة سيئة، نجد أنّ 'تاي' تتجاوز المفهوم الضيّق للشخصية الروائية كي تُصبح رمزاً مُوظّفاً لتجسيد الواقع العربي الذي كان له في يوم من الأيام تاريخاً عظيماً وجميلاً وثرياً ومثمراً قبل أن يُغتصب ويُهزم ويُصاب بمرضٍ يصعب الشفاء منه.

الرواية في مقامها العام تجذب القارئ. فالعالم الذي تُقدمه ليس عالماً مشابهاً للواقع بل هو الواقع أصلاً. رواية ياسين رفاعية جريئة من حيث اعتمادها الأسماء الحقيقة وغوصها في قلب مكان سرّي لا نعرف منه سوى أضوائه الخافتة، وزمان مفصلي لا نقرأ فيه إلاّ الهزائم والنوائب واليأس... فيها نرى معين بسيسو الشاعر المقاوم الذي غرق في خيبته في قيام الدولة الفلسطينية والمسرحي عصام محفوظ الذي فشل في الحبّ وزادته النكبة إحساساً بالفشل، والشاعر اللبناني 'الستيني' أمين نخلة الذي عشق مراهقة شامية في السابعة عشرة من عمرهان والكاتب- الراوي الذي عشق فتاة درزية (شيرين) رفضته خوفاً على طائفتها من الضياع تحت وطأة الزيجات من خارجها.

إلاّ أنّ متابعة الحبكة الدرامية للأحداث ولّدت لدينا علامات استفهام في أكثر من مكان وخصوصاً من ناحية ترتيب الأحداث والانتقال الزمني، الأمر الذي يجعل هناك تساؤلاً عن سبب تقديم الكاتب لهذه الأحداث المتفرّقة في رواية بدلاً من 'المذكرات' التي كان من الممكن أن تُجنّبه الكثير من الانتقادات والإشكاليات حول صنيعه الفني ودلالاته.

اختار رفاعية إذاً أن يعرض وقائع مختلفة طبعت حياة جيل 'الخيبة'. إلاّ أنّ أقدار الشخصيات جاءت مُتشابهة. فالفقدان كان التيمة الغالبة في حكاياتهم. والموت هو الخاتمة التي نالت منهم جميعاً.
البعض مات ميتةً حقيقية كالمناضل والكاتب غسان كنفاني الذي قتله الإسرائيليون في تفجير زُرع في سيارته، أو تاي التي أُصيبت بمرض خطير بعد زواجها من الطالب السعودي الشاب الذي ذاب في حبها وتزوجها رغم فارق السنّ بينهما. والبعض الآخر مات نفسياً ومعنوياً إمّا حزناً على أصدقائه ورفاق دربه وقلمه أو حزناً على الوطن العربي المُحتضر.