العنف الأسري ضد المرأة

أحمد جمال (القاهرة) 23 سبتمبر 2018

“إكسر للبنت ضلع يطلع لها 24”، قاعدة مجتمعية غريبة يستند إليها الكثير من الرجال في تربية بناتهم وإحكام السيطرة على زوجاتهم، لكنها في الواقع “تفويض مجتمعي” لممارسة العنف الأسري ضد المرأة بداعي التأديب والتهذيب، ليتحول الأمر بعد ذلك إلى اعتداءات جسدية مبرحة قد تفضي إلى القتل أو تتسبّب بعاهات مستديمة، أو إيذاء نفسي يدفع بالفتاة أو الزوجة إلى الانتحار. في التحقيق التالي نتطرق إلى قضية العنف الأسري ضد الفتيات والنساء في المجتمع، ونتعرف على أسباب هذه الظاهرة وطرق مواجهتها والتخلص منها.

“براح آمن” هي إحدى المبادرات المهتمة برصد وتوثيق جرائم العنف الأسري الممارس على النساء، والتي تطالب بضرورة سنّ قانون مخصص لردع العنف المنزلي ضد المرأة. ويقول القائمون على المبادرة إن هناك تجاهلاً متعمّداً وغير معروف الأسباب في صد العنف والأذى الواقع على المرأة داخل البيوت المصرية، سواء كانت طفلة أو أمّاً، وللأسف هذا التجاهل يصدر من المارّة والجيران والمشرّعين والسلطات أيضاً، فحتى قضايا العنف ضد المرأة لا تلقى الاهتمام الذي تستحقه، وللأسف السبب الرئيس في ازدياد العنف ضد النساء هو أن المجتمع ذكوري بالفطرة، لدرجة أن تعنيف المرأة أصبح جزءاً من عادات هذا المجتمع، كما أن النساء والفتيات اللواتي يتعرضن للعنف من أزواجهن أو آبائهن، لا يشتكين ولا حتى يعبّرن عن رفضهن لتلك التصرفات المؤذية، وبالتالي أصبح اعتداء الزوج على زوجته أمراً عادياً لمجرد أنه رجل، حتى الفتاة الصغيرة على مدار طفولتها ترى أمها تُعنَّف وهي راضية، ومما ساهم في تفاقم هذه المشكلة، هو عدم معرفة النساء والفتيات بحقوقهن، وأن هناك حدوداً للرجل عليه الالتزام بها.

تهدف المبادرة إلى رصد حالات العنف ضد المرأة، وعمل إحصاءات دورية لهذه الجرائم، سواء كان مرتكبها الزوج أو الأب أو الأخ. ويؤكد أعضاء المبادرة، وهي مكوّنة من مجموعات نسوية مختلفة، أن التوعية والمساندة لا بد من أن تشكّلا أساس أي مبادرة تتعلق بالمرأة، فالكثير من الفتيات والنساء لا يعرفن أن العنف الممارَس ضدهن خطأ ويجب رفضه والتصدّي له، وهنا يأتي دور البحث والتعريف بالحقوق، فيجب ألاّ نستخفّ أبداً بإهانة الرجل للمرأة أو ضربها وتعنيفها بصورة مستمرة، إلى أن تصبح هذه الممارسات عادةً، وقد تصل أحياناً إلى قتل الزوجة أو الابنة، أو تتسبّب لهما بعاهات مستديمة، وربما تدفعهما إلى انتحار.

تتابع المبادرة بصورة دورية تطورات عمليات العنف ضد المرأة، وتحصي أرقامها وترصد أساليبها والأماكن الجغرافية التي تمارَس فيها هذه الأفعال. ففي النصف الأول من عام 2018 تصدّرت عمليات القتل أنواع العنف الأسري ضد المرأة، تلاها الضرب بدرجات مختلفة ومتفاوتة، وظهر أخيراً نوع جديد على خريطة العنف الأسري، وهو “الهجر” المتمثّل في ترك الزوج زوجته وأولاده لفترات طويلة من دون التواصل معهم أو الإنفاق عليهم، والتخلّي عن مسؤوليته تجاههم، فتعاني الزوجة في هذه الحالة من عنف نفسي واقتصادي ومجتمعي، وأحياناً يتهرّب الزوج من الطلاق لتظل الزوجة على ذمته ولا تتمكن من العيش بصورة طبيعية بعد ذلك. أما الأنواع الأخرى الأكثر شيوعاً من العنف الأسري فمنقسمة بين الحبس المنزلي والتشهير والتحرش الجنسي.

تبرير العنف الأسري

تقول الدكتورة رانيا يحيى، عضو المجلس القومي للمرأة: “لدينا فعاليات كثيرة لمناهضة العنف ضد المرأة بشكل عام، أهمها أن هناك 16 يوماً لمناهضة العنف ضد المرأة، وهي فعالية تبدأ في 25 تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام، إضافة إلى أننا نعمل على مناهضة العنف الأسري ضد النساء بالتوعية وإجراء المسابقات الهادفة ونشر الفنون المختلفة، وهذا يساعد في تعزيز وعي الفتيات والنساء، ولنا مكتب لتلقي شكاوى النساء المعنّفات في المحافظات المختلفة، فنقدّم لهن الدعم النفسي والمادي والقانوني، سواء من خلال الاستشارات القانونية، أو الوقوف معهن في ساحات القضاء مباشرةً، من خلال تجنيد محامين في فروع المجلس القومي للمرأة لمؤازرة المرأة المتضررة بدون أي مقابل مادي، إلى جانب عملنا التشريعي والمتمثل بسنّ قوانين خاصة بالعنف ضد المرأة وتقديمها الى البرلمان المصري”.

وتضيف عضو اللجنة التنفيذية في المجلس الأكثر اهتماماً بحقوق المرأة في مصر: “نحاول في المجلس القومي للمرأة بكل طاقتنا التصدّي للعنف والأذى اللاحق بالمرأة، لكن في الواقع المشكلة تكمن في ثقافة المجتمع المغلوطة، والتي تقوم على تقبّل المجتمع للعنف الذكوري ضد الإناث، بل إن المجتمع نفسه يبحث عن تبرير لهذا العنف ليبرّئ الرجل منه ويرفع عنه المسؤولية. والسؤال الذي لا بد من طرحه الآن: لماذا يبحث المجتمع عن مبرر لعنف الرجل، ولا يكترث للأضرار الواقعة على المرأة؟ ما أحوجنا اليوم إلى تغيير ثقافة المجتمع بشكل عام، وتوعية الفتيات بحقوقهن منذ الطفولة، وتعليمهن رفضن العنف ومواجهة كل أشكاله، أياً كان القائم به، حتى لو كان الأب، فتعنيف الأب لبناته بداعي التربية يجعلهن بعد ذلك يتقبّلن العنف من الزوج. وتوصي الدكتورة رانيا بضرورة أن تكون هناك إرادة قوية لتغيير الثقافة، والتأكيد على رفض العنف الواقع على الفتيات، سواء من خلال جمعيات المجتمع المدني والمؤسسات النسوية المهتمة بهذا الأمر، أو من خلال الحكومة فتُدخل هذه القضية في مناهج التعليم في مراحله المختلفة، فالدور التربوي مهم جداً في هذه الحالات، هذا فضلاً عن الدور المجتمعي إذ يجب أن يكون أفراد المجتمع أنفسهم راغبين في رفض العنف ضد النساء، فالجار الآن يسمع صراخ جارته التي يعتدي عليها زوجها بالضرب، ولا يحرك ساكناً، فالعنف أصبح من عادات مجتمعنا، والمرأة وحدها التي تدفع الثمن”.

مرضى نفسيون

“الرجل الذي يعتدي بالضرب على أولاده وزوجته يحتاج إلى علاج نفسي”، هذا ما تؤكده الدكتورة سلوى عبدالباقي، أستاذة علم النفس في كلية التربية في جامعة حلوان، في تفسيرها لتعنيف الزوج لزوجته وأبنائه، وتضيف: “الرجل الذي يعتدي على المرأة، يصنّف في علم النفس بـ “المريض النفسي” الذي يحب الإيذاء، ودرجة الإيذاء تختلف طبعاً من شخص الى آخر، فالرجل العنيف يبدأ أولاً بتصرفات بسيطة، مثل دفع الزوجة أو السيطرة عليها أو شتمها بألفاظ نابية، ثم يتطور الأمر إلى إيذاء جسدي عنيف. وأظهرت إحصائية للأمم المتحدة في الشرق الأوسط أُجريت عام 2015 عن العنف ضد المرأة، أن 30 في المئة من المتزوجات يتعرضن للضرب على أيدي أزواجهن بصورة مستمرة، وأنا أرى هذا التقرير كارثة بكل المقاييس، ويدفعني للتأكيد أن هناك رجالاً يضربون نساءهم بدون سبب! فثقافة مجتمعاتنا تحضّ الرجل على ضرب المرأة منذ البداية لإخضاعها له حتى يستطيع السيطرة عليها، وهي عملية تسمّى في المجتمع بـ”ذبح القطة”، وكثر يرون أن عدم ضرب الزوج لزوجته لإحكام سيطرته عليها هو انتقاص من رجولته، فمشكلتنا في الأساس مشكلة ثقافة وتربية”. وتضيف: “في عملية العنف، لا يمكننا إلقاء اللوم على الفتاة لأنها لم تقاوم العنف الممارَس عليها، فهي تربّت في الأساس على هذا المبدأ، واعتادت على أن تُضرب من والدها أو أخيها، وحين تتزوج ويبدأ زوجها بتعنيفها لا تُصدم من فعلته هذه، فالعنف أمر طبيعي بالنسبة إليها، حتى أن بعض الأزواج يقنعون الزوجة بأنها هي المذنبة وتستحق الضرب، وللأسف إذا حاولت الاستنجاد بأي من أفراد أسرتها، يبرر لها العنف الواقع عليها، وخصوصاً أمها إذ تطلب منها التحلّي بالصبر والتحمّل حفاظاً على حياتها الزوجية، بل وتقنعها أحياناً بإرضاء زوجها بشتى الطرق خوفاً من الطلاق، لذا يجب إخضاع المقبلين على الزواج لاختبار نفسي، للتأكد من مدى قدرة الرجل على الحفاظ على زوجته، وعدم تعنيفها مهما كانت الأسباب”.

سيطرة كاملة

وعن الآثار الاجتماعية المترتبة عن العنف الأسري ضد المرأة، تقول الدكتورة سامية الساعاتي، أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس: “للأسف، كلمة “العنف” في مجتمعنا مرادفة لكلمة “التربية”، فحين تسأل أحدهم لماذا تضرب ابنك أو زوجتك؟ يجيبك بأنه يفعل ذلك من أجل تربيتهما، وهذه المعاني موجودة في كل المستويات المجتمعية، المتعلمة وغير المتعلمة، وفي الريف والحضر، إذاً فالأمر يتعلق أولاً بالثقافة السائدة، وللأسف غالبية الزوجات يخشين البوح بتعرّضهن للضرب، حتى أن من الأسهل على المرأة والأفضل لها أن تعتبر نفسها المخطئة وتستحق التعنيف. وبالنسبة الى الأبناء فضرب الأب لابنه في الصغر يجعله يتطاول عليه في الكبر، ويتعامل معه بمنطق الانتقام، فمن يزرع حبّاً وتفاهماً وصبراً في أسرته، يجني ثمار زرعه، والعكس صحيح”.

وتضيف الدكتورة سامية: “العنف متبادل بين الرجل والمرأة، لكن هذا لا يعني أن الرجل وحده هو من يمارس العنف، فالمرأة أيضاً عنيفة ولكن بنسبة ضئيلة جداً، وفي كلتا الحالتين هناك عنف أسري يدفع ضريبته الأبناء، والرجل الذي يضرب ابنته هو رجل يحب السيطرة، عصبي وسهل الاستفزاز، ويسعى دائماً إلى فصل زوجته عن المجتمع بنعت أهلها أو صديقاتها بالعيوب، حتى تشعر بالضعف ولا تستطيع اللجوء إلى أحد، وبالتالي يُحكم سيطرته عليها، وهذه من أخطر الحالات، إذ يتطور فيها الاعتداء بالضرب إلى القتل والتعذيب في كثير من الأحيان، وهنا يبرز دور المؤسسات المعنية بحقوق المرأة في توعية النساء بحقوقهن وتعزيز ثقتهن بأنفسهن، يليه دور القانون في سنّ تشريعات تقضي بإنزال أشد العقوبات على كل من يعتدي بالضرب على زوجته وأبنائه بداعي التربية والتهذيب، وأخيراً يأتي دور المدارس في تعليم النشء وتوعيتهم بمكانة المرأة في المجتمع، وبطرق التعامل الصحيحة بين أفراد الأسرة”.

قانون مشدّد

وعن أشكال حماية القانون لحقوق المعتدى عليه في قضايا العنف الأسري، يقول الدكتور أحمد مهران، أستاذ القانون العام، ومدير مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية: “قضية العنف الأسري بشكل عام تعتبر كارثة مجتمعية، ولكي نقوم بتغييرها فنحن بحاجة إلى إرادة مجتمعية أيضاً للفظ هذه التصرفات المشينة ضد المرأة والأطفال. وللأسف، ليس في القانون مادة تتعلق بالعنف الأسري بشكل قاطع وبعقوبة منفصلة، بل العنف موجود ويعاقَب عليه كجنحة تعدٍ بالضرب عادية جداً، تصل أقصى عقوبة فيها عند الضرب بآلة حادة إلى السجن 3 سنوات فقط، لكن لا بد من إنزال أشدّ العقوبات بكل معنِّف، فاعتداء الأب على طفلته أو طفله أو زوجته بالضرب المبرح الذي قد يؤدي أحياناً إلى الإصابة بعاهة مستديمة، يعتبر خيانة للأمانة، لأن الأب مؤتمن على أولاده، والزوج مؤتمن على زوجته، ولذلك لا بد من أن ينال أقصى عقوبة على ما اقترفته يداه”.

وعن تبرير المجتمع لتعنيف الرجل أبناءه وزوجته جسدياً، يقول مهران: “للأسف، يرتكز مجتمعنا على قاعدة أساسية يبيح ويبرر من خلالها تعنيف الرجل لزوجته وأولاده، وهي “الحق في التأديب”، بمعنى أن القانون يتغاضى عن الرجل الذي يضرب أطفاله وزوجته ضرباً مبرحاً، بذريعة أنه يربّي ابنه، أو يُحكِم سيطرته على زوجته من منطلق رجولته، وبالتالي تحتاج قضية العنف الأسري إلى تشريع محدد وقاطع، تُدرج فيه أشكال العنف الأسري المسكوت عنها، ولا بد من أن تكون هناك مدونة كاملة للأسرة في القانون، بدءاً من رفع الدعوى وصولاً إلى تنفيذ الأحكام، حتى تُحسم الأمور”.