سيول أرض المهرجانات والتكنولوجيا

ثقافة, منكوبي السيول, الوخز بالإبر, التدليك, الحداثة, تصميم أزياء, رقص, مهرجان أبوظبي الدولي لأفلام البيئة, مهرجان الموسيقى العريقة, تاريخ, سياحة, زها حديد, حميد القصري, كوريا الجنوبية, عرض ازياء تراثية, الإسلام وحوار الثقافات, متحف ميتروبوليتان الني

01 سبتمبر 2009

تختلط معالم الماضي والتاريخ بالحداثة والتكنولوجيا قي هذه المدينة الصاخبة والمليئة بالألوان والأضواء وتتقاطع فيها القصور والبوابات التاريخية مع ناطحات السحاب والمصانع الألكترونية. انها سيول عاصمة كوريا الجنوبية التي تقع على مسافة متساوية بين طوكيو وبكين مشكّلةً مزيجاً من ثقافات الشرق الأقصى. غزاها اليابانيون في الماضي وتحاملت عليها الصين أبان الحرب الكورية. نفضت عنها غبار الحرب عام ١٩٥٣ وبدأت النهضة العمرانية والاقتصادية والصناعية والثقافية.  تكللها الجبال الخضراء من كل الجهات ويقطعها نهر الهان الى قسمين: قسم  شمالي وآخر جنوبي، ويقطنها حوالى ١١ مليون نسمة. شعب ودود ومحترم، ويعمل بجهد لتكون سيول الافضل. 

وصلت أخيراً الى مطار سيول الدولي (انشون) بعد رحلة طويلة من بيروت الى سيول مروراً بمطار دبي استمرت حوالي ١٣ ساعة.

انطلقت بنا الحافلة متجهة الى جبل نام أو «نامسان» باللغة الكورية، حيث يرتفع برج سيول. وصلنا بعد حلول الظلام وصعدنا اليه عبر «كيبل كار» وشاهدنا المدينة من فوق حين كانت أضواء المباني والجسور متلالئة تزين نهر الهان. ومن فوق أيضاً رأيت مبنى ٦٣ وبديهيا سمي كذلك بسبب عدد طوابقه الـ٦٣، وهو الأعلى والأهم لكونه مجمعاً سياحياً ويطل على المدينة.

بعد متعة النظر حان دور متعة الذوق في مطعم (هانكوك) الموجود في البرج العالي حيث قدمت لنا الأطباق الكورية. كانت غريبة طبعاً، لكنها لذيذة وصحية، استنشقت الروائح الزكية وحملتها معي إلى الأسفل لمشاهدة عرض الليزر.

أضواء وألوان استعرضت أمامي أدهشتني وأفرحتني وأعطتني فكرة عن التكنولوجيا المتقدمة التي تتسم بها هذه المدينة.

عيادة الطب الشرقي «لي اون مي»

كان الاستقبال في العيادة حارا وودوداً. شربنا الشاي الكوري التقليدي بالجنسينغ (وهي جذوز نباتية يستعملها الكوريون في جميع اطباقهم وفي الشاي، وحتى يصنعون منها كريمات تجميل، فهي حسب قولهم غنية بالفيتامينات ومفيدة جداً للجسم).
وبينما كنت أستعد لطرح بعض الأسئلة، فوجئت بإخبارهم لي أنني وبعض زملاء الرحلة سنخضع لعلاج تقليدي تجميلي. لم أتردد لحظة في خوض هذه التجربة واستمتعت بالتدليك (الماساج) من أيد خبيرة والكريمات والقناع البارد، وأخيراً الوخز بالإبر الذي يساعد في تنشيط الدورة الدموية ويضفي ألقاً وإشراقاً على الوجه، وهذا ما اختبرته بالفعل. فالنتيجة كانت فورية وهو أمر ما كنت لأصدقه لو لم أجربه بنفسي.

أسبوع الموضة وعرض المصممة «لي يونغ هي»

أراد منظمو هذه الرحلة تعريفنا الى أوجه سيول المتنوعة، فكانت هذه المناسبة. وصلنا الى مبنى ضخم ترتفع أمامه اللافتات معلنة أسبوع الموضة.
دخلنا الكواليس وتعرفنا إلى المصممة الهادئة «لي يونغ هي»، والى مجموعتها الرائعة من الهانبوك  (الزي التقليدي الكوري) المصمم بطريقة عصرية من حيث الأقمشة والقصَات ليتلاءم مع متطلبات الحياة العصرية. حضرنا العرض الرائع وتمايلت الفتيات الكوريات الجميلات بأجسادهن الممشوقة. صفق الجميع للمصممة والعارضات، وخرجنا بانطباع راسخ عن الشعب المتعلق بتاريخه وعاداته والمنسجم مع العولمة والحداثة.

النهر الصناعي «تشونغ جي تشون»

عرض لنا شريط وثائقي يشرح كيف كان هذا النهر طبيعياً في الماضي ثم نزح إلى ضفافه عدد كبير من المواطنين إبان الحرب وقطنوا هناك. ومع مرور الوقت تلوثت المياه ثم نضبت مما دفع الحكومة عام ١٩٤٥ إلى إصدار قرار بردمه وتحويله إلى طريق سريع. استغرق العمل في المشروع مدة عشرين عاماً لإتمامه وبعدها ظهرت مشاكل تقنية عدة كادت تهدد السلامة العامة، مما دفع حكومة عام ٢٠٠٢ الى القيام بالمشروع الكبير لإحياء هذا النهر بما في ذلك من منافع طبيعية واقتصادية وبيئية. فكانت الورشة الكبيرة.

ينيت الجسور ومدت المياه من جديد الى مجرى النهر ووضعت الحيوانات المائية فيه وأقيمت الإحتفالات والمهرجانات احتفاء بهذا الحدث. المتحف الخاص مليء بالشواهد كالصور والخرائط والمجسمات التي تدل على كل مرحلة من تاريخ هذا النهر. خرجت أحمل معي كل تقدير لهذا الشعب الذي يسعى دائماً إلى الأفضل. 

قصر «جونغ هيو» وفن التايكواندو

واحد من أكبر القصور الخمسة التابعة لحقبة حكم سلالة جوسون ١٣٩٢- ١٩١٠. يعتبر الأهم بعد قصر كيونغ بوك. دمر كغيره من الإرث التاريخي خلال الاحتلال الياباني ثم أعيد بناؤه.أمام إحدى بواباته كان لنا فرصة تعلم بعض من تقنيات التايكواندو، الفن القتالي الكوري القديم الذي تحول مع الوقت ليصبح فناً راقياً للدفاع عن النفس. يثقف الجسد والروح ويحث على قبول النظام واحترام الغير.

وزعت لنا مرشدتنا «التوبوك» وهو الزي الخاص بالتدريب، احسست بفخر عظيم عندما ارتديته خاصة مع الحزام الأسود المطرز عليه اسمي. قمنا بتمرينات رياضية وبعض الحركات الخاصة بالتايكواندو، وكانت التحية في البداية والنهاية هي الأهم وهي الإنحناء أمام الشريك. وللمفاجأة وزعت لنا الشهادات التقديرية لانتهائنا من الدورة المصغرة في التايكواندو. 

عالم لوتي للمغامرات

تعد أكبر مدينة العاب مغلقة في آسيا الألعاب الأفعوانية، القطارات المعلقة، البواخر المتأرجحة بالإضافة الى الساحة الكبيرة المعدة للتزلج على الجليد. أما أكثر ما أحبتته فهو الفرقة الراقصة التي اطلت علينا بازيائها وزينتها وماكياجها لتقدم لنا رقصة المزارعين التقليدية.

فتيات جميلات يرتدين الثياب الملونة ويتزين بقبعات ذات شرائط بيضاء يحركنها حسب حركة روؤسهن. يرقصن بالصحون والعصي، ويقرعن الطبول وينفخن في المزامير. إنه عرض تقليدي كان يقوم به المزارعون القدامى لاعتقادهم أنه فأل حسن يضفي الخير على مواسمهم وكل ذلك على انغام موسيقى تقليدية رائعة تدخلك الى عالم يدهشك باختلاط الألوان والأصوات.

شارع «ميونغ دونغ» ومهرجان هاي سيول

كان صباحاً مشرقاً، إنطلقنا فيه الى شارع ميونغ دونغ وهو أحد الشوارع الإستثنائية في سيول. المحلات التجارية تصطف على جانبي الطريق تعرض الأزياء من الماركات العالمية، تقام بعض مهرجانات الصيف والخريف في هذا الشارع.

فإقامة المهرجانات من أهم التقاليد التي تتمسك بها سيول، وأهمها مهرجان هاي سيول، وهو عبارة عن مهرجان الفصول الأربعة ويتوزع على عدة شوارع وأماكن ويقدم كل أنواع الفنون من موسيقى ورقص وغناء  ومسرح وأزياء، بالإضافة إلى احتفالات كثيرة كمهرجان الرباط العائلي ومولد بوذا والحصاد ومهرجان التقاليد القديمة وزهرة اللوتس وغيرها. وقد يستجد حدث ما تقام له المهرجانات في أي وقت. فسيول أرض المهرجانات. 

شارع ايتايون والمسجد المركزي

عبرنا شارع ايتايون المميز بتنوعه والذي تختصر فيه مطابخ العالم، فتجد المطعم الصيني والهندي والمكسيكي والفرنسي والاميركي وغيرها مما لذ وطاب، ومقاهي ومحلات وتذكارات لنصل بعدها إلى المسجد المركزي.

التقينا إمام المسجد «عبد الرحمن لي» الأمين العام للمركز الإسلامي في سيول. وقد اخبرنا عن دخول الإسلام إلى كوريا منذ حوالي خمسين سنة بعد انتهاء الحرب الكورية ودخول قوات الأجنبية ومن بينها الجيش التركي الذي عرف بالاسلام، ثم تحدث عن البرامج التي يقوم بها المركز لزيادة أعداد المسلمين. وكنا قد التقينا لحظة وصولنا ثلاثة شبان كوريين يتلقون دروساً في الاسلام.

رؤية مستقبلية

كان اليوم ما قبل الأخير رسمياً، فقد بدأ بزيارة عمدة سيول. الاستعدادات قائمة لاستقبالنا في مبنى البلدية، وقد ظهر مدى الاهتمام بالشرق الأوسط منذ اللحظة الأولى لوصولنا، فهم الذين وجهوا الينا الدعوة وعملوا ببراعة على تنظيم الرحلة.

دخل العمدة، رجل وقور وهادىء تتسم ملامحه بالجدية من دون ان تفارقه ابتسامة خجولة. تكلم على مشروعه الكبير لجعل سيول مدينة عالمية من خلال العمل على كل الصعد، خاصة الثقافة والتراث والفن والبيئة، وأخيراً التصميم (الديزاين) الذي قدمه لنا ليمهد لزيارتنا التالية المقررة إلى اولمبياد سيول للتصميم. 

أولمبياد سيول للتصميم 

اختيرت سيول لتكون عاصمة التصميم للعام ٢٠١٠ وبدأت العمل بوتيرة سريعة في هذا الاتجاه. نظم أولمبياد سيول للتصميم في ملعب «جامشيل» الرياضي حيث أقيمت الالعاب الاولمبية عام ١٩٨٨.

معرض ضخم تشارك فيه الدول من خلال تصاميمها الخاصة، ومصممون عالميون شاركوا أيضاً، مثل العراقية زها حديد، وشركات وطلاب غيرهم. تشاهد في هذا المعرض اشياء لم تخطر في البال، شعارهم: «التصميم كالهواء» فهو موجود أينما كان، لكننا لا نشعر بوجوده.

الرسالة الأولى تتلقاها قبل الدخول الى المعرض وتتمثل بالواجهة الخارجية المزينة بمخلفات المنتجات اليومية البلاستيكية التي جمعت بأعداد هائلة وصممت لتزين خارج المعرض. البيئة والتصميم يتكافلان ويتضامنان ليحولا سيول الى محور العالم كما يطمح الكوريون. رؤية مستقبلية تبشر بنتائج إيجابية.

قصر كيونغ بوك

هو القصر الرئيسي لسلالة جوسون، بني في أوائل عهدهم حوالي عام ١٣٩٥. دمَره اليابانيون وأعيد بناؤه .

مراسم تسليم وتسلم الحراسة ما زالت تمارس أمام القصر، يتمتع بها الزائر قبل ولوج الباحة الداخلية، ليمر فوق مجرى نهر كانوا يعتبرون انه يطهر كل من يمر فوقه قبل دخوله إلى حضرة الملك. يقسم القصر إلى أقسام عدة، كجناح الترفيه وجناح العرش ومنامة الملك وجناح الملكة والباحات والبوابات وغيرها. وهو يمثل التراث الكوري العريق إن من حيث الهندسة المعمارية الخارجية أو الألوان والنقوش التي تزين جدرانه من الداخل.

المدينة الاعلامية الرقمية

إنه اليوم الأخير لي. انطلقت بنا الحافلة متجهة الى المدينة الإعلامية الرقمية وكان عليَ أن أخزن في ذاكرتي كل ما أشاهده، فمتعت نظري للمرة الأخيرة باللوحة الطبيعية لنهر الهان المحاط بسهول خضراء وأشجار ملونة وناطحات سحاب ولفتت نظري إحداها بشكلها العمودي المنحني من فوق، فسألت المرشدة وأجابتني أنها تابعة لإحدى أهم الشركات الالكترونية، وقد صممت كذلك عمداً لتظهر مدى احترامها لزبائنها. فكرة رائعة وقدرة على التعبير ترجمت بالتصميم. فلا عجب أن هذه المدينة ستكون عاصمة للتصميم ٢٠١٠. 

نسيت الحاضر والماضي وانتقلت الى المستقبل لحظة دخولى أحد مباني المدينة الاعلامية.  سيزود كل مواطن ببطاقة ممغنطة تخوله الدخول الى الكومبيوترات والآلات الحديثة، وسيزودون محطات الباصات والقطارات بشاشات رقمية يستطيع الأشخاص حاملو البطاقات استعمالها لمعرفة حالة الطقس في المنطقة التي يقصدونها أو حركة السير.

واختبرت أيضاً الكمبيوتر المستدير على شكل طاولة حيت مررت بطاقتي ووضعت كف يدي، وخلال ثوان حصلت على تقرير مفصل لحالتى الجسدية، ونصائح من طبيب يظهر على الشاشة. وستطور هذه التقنية الى محادثة بين الطبيب والسائل في المستقبل. وهناك رأيت الألعاب الغريبة العجيبة، والموسيقى التي تؤلفها بتحريك اجسام صغيرة أو تمرير الاصابع في الفراغ، فتسمع أنغام «الهارب» غير المرئي. وخلصت الى ان هذه المدينة تجمع بين الأعمال والتثقيف والمتعة بإطار ورؤية مستقبليين. 

عرض «نانتا» 

كان ختامها مسكاً. فبعد آخر وجبة كورية تناولنا خلالها الاطعمة التقليدية كال«بيبنباب» وال«كيمشي» توجهنا إلى مسرح يقدم عروض «النانتا». وهو عرض موسيقي راقص، فكاهي وغير ناطق. يقوم به أربعة فنانين «طباخين».

فديكور المسرح عبارة عن مطبخ فيه كل الأواني والأدوات اللازمة للعرض، بدءاً من السكاكين الى الملاعق والمقالي والطناجر وألواح التقطيع ومستوعبات المياه، تتنافس فيه الأصوات والأضواء والأجساد لتؤلف سمفونية رائعة. وتتصاعد وتيرتها مع مرور الوقت، فعلى الطباخين تحضير وليمة قبل الساعة السادسة. ويدعو الممثلون الجمهور الى مشاركتهم، مما يزيد الحماسة.

أما المشهد الأخير فهو الأروع: قرع على البراميل يترافق مع لعبة أضواء متناسقة ببراعة لا متناهية بما ينافس أهم موسيقيي الروك. عرض مميز من البداية إلى النهاية لا تفوته أبداً إذا قررت زيارة سيول يوماً ما.