لبنانيات يجاورن الخطر...

التصوير الفوتوغرافي, خطر, صور فوتوغرافية, الصحافة المغربية, المرأة اللبنانية / نساء لبنانيات, ليال نجيب

19 سبتمبر 2011

يُحكى كثيراً عن البسالة، لكنها نادراً ما تستخدم بصيغة أنثوية «كون المواجهة بمفهوم الثقافة العربية المنفصمة أحياناً فضيلة ذكورية» قد تنسب إلى حركة لا امرأة. وهنا اخترت كلمة أنثوية لا نسائية لما تحمله من مشاعر الأمومة والعاطفة والرأفة الفيّاضة. هنّ نساء لبنانيات اخترن درباً صعباً وعشن أوقاتاً حرجة حتى انقطاع النفس. المصوّرة الفوتوغرافية ليال نجيب وفريق تفكيك الألغام وتطهير الأرض من القنابل العنقودية الإسرائيلية بقيادة لميس الزين ورحّالة مناطق الكوارث الطبيعية والأزمات لينا أبي رافع. رسائل لبنانية مفادها كم لإسرائيل من أثر بربري في معادلة الخطر فيها! اخترن التحدّي وخضن المخاطرة والمجازفة إيماناً بقضية. تحية لهن.


المصوّرة الفوتوغرافية ليال نجيب شمالية المولد جنوبية الشهادة

إخترتُ أن أبدأ بها هذا التحقيق. فهي امرأة جريئة حتى الشهادة. استفزتها يوميات تموز/يوليو 2006 وغُبارها حتى الموت. هي شهيدة الصحافة اللبنانية ليال نجيب التي سعت إلى حتفها ولم يباغتها. سلّمت عدستها لكنها فارقت الحياة. قد أكون جنوبية كوني بدأت هذا التحقيق بشهادة جنوبية، لكن ليال شمالية، جنوبية الشهادة. هي مفهوم جديد للانتماء إلى الوطن. ابنة الـ23 ربيعاً استقلت سيارة أجرة سرّاً تجاه الجنوب الجريح، ولم تكتفِ بالضاحية الجنوبية موقعَ تصوير مدججاً بالمرافقة. شاءت لإطاراتها الفوتوغرافية أن تتحرّر كما حلمها الذي لطالما أسهبت بالحديث عنه مع صديقتها ورئيستها في مجلة «الجرس» اللبنانية الإعلامية نضال الأحمدية التي قالت الكثير عن قليل عاشته ليال.


كانت متورّطة بالأجواء الفنية المقاومة وتملك حماساً ثورياً رومانسياً

«بدأت ليال العمل في الجرس عام 2003، بدأت كمساعدة لي ومتدربة إلى جانبي تشارك في إعداد الملفات وتفريغ المواد الصحافية. عشت معها أياماً حلوة في المكتب. انتسبنا معاً إلى كلية العلوم الإجتماعية. أفكارها الوطنية كانت تقنعها بألاّ تهتم بمظهرها الخارجي وأظافرها. كانت تردد إذا كنا نريد أن ندافع عن لبنان مش ضروري نكون مرتبين، هذا ما منحها الحافز. لم تكن تعمل لتقاضي راتب بل بإيمان. كانت تحب التصوير وأهديتها كاميرتي. وقلت لها أن تعيرني إياها إن احتجتها. في المرحلة البدائية الأولى كنت أعلّمها تفاصيل غير محترفة، كضبط الكادر والإضاءة. كانت تصوّر في المكتب كل شيء حتى المقابلات الفنية. تصور من كل الزوايا. كما كانت تخرج ليلاً لتتعلم تقنية التصوير الليلي، كانت تعشق الكاميرا. كنت أسعد حين أناقش معها السياسة خصوصاً أننا في مكتب تحرير فني. كانت تملك حماساً ثورياً رومانسياً عن تشي غيفارا الذي كان بالنسبة إليها نموذجاً أعلى. كان عندها استعدادات خطرة. وهذا كان يخيفني.

كنت أشعر بأنها حماسها هذا قد يقودها إلى مكان ما ولم يكن هذا المكان هو الموت. كانت عنيدة بأسلوب لطيف وحساس. فتاة بمفردها، كانت تحت حمايتي خصوصاً أنها تقطن في منطقة الحمرا في شقة مشتركة. هي فتاة مثقفة جداً وتقرأ كثيراً. حين أطلب منها تصوير بعض الفنانات كانت تنجز المهمة وفور انتهاء التصوير تقول لي: «صوّرتلك هول» وتطلب مني التحقق من حِرَفية الصور والإضاءة. كانت أرشيفنا لزياد وفيروز والشيخ إمام. كانت المختلفة في المجلة. هي متورطة جداً بالأجواء الفنية المقاومة كانت تُنظّر بضبط كل المعادلات السياسية والوطنية. كلمة الشهادة كانت لديها كجرعة الماء، كانت تفاجئني بوعيها السياسي. كانت مقربة من مديرة التصوير في المجلة باتريسيا، المصوّر حنا نعمة الذي كان يصطحبها على دراجته النارية ويدربها على التصوير أيضاً.

تعلمت الكثير وكانت لقطاتها مميزة حتى أن وكالة فرانس برس الفرنسية اشترت 20 لقطة من صورها خلال سلسلة الإغتيالات التي تتالت عقب اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وخلال حرب لبنان 2006. كنت على الدوام أداهمها باتصالي وهذا ما أفعله مع كل الزملاء في المجلة. في 2006 أجرينا في المجلة تغطية خاصة. شاركنا ميدانياً وخرجنا إلى الضاحية الجنوبية وكانت ليال ترافقنا ضمن فريق. كانت مهمتنا آنذاك إنسانية بالتنسيق مع بعض الفنانين الذين ساهموا في تقديم بعض المساعدات، أذكر منهم راغب علامة. 90 في المئة من صورنا في الضاحية التقطتها ليال.


كانت تغني في أخطر اللحظات

يوم 22 تموز/يوليو اتصلت بها وكنت أشعر بشيء غريب، لأنها قد تخدعني. في اليوم التالي لم ترد على اتصالاتي فشعرت بقلق كبير. اتجهت إلى مكان سكنها وكنت على وشك البكاء. كان الوقت ظهراً. كنت على الدوام أحاول الإتصال دون جدوى وظننت أنها لا تجيب لأنها نائمة كونها كانت تحب السهر. لم أجدها. عرفت خبر موتها من زميلتي ديانا وهبة. لقد سلكت طريقاً لم يسلكه زملاؤها. لقد صوّرت كل الطريق تجاه مدينة صور  والقرى المجاورة وكانت تسجل المناطق على دفترها الصغير. لم تخبر أحداً بمشوارها. فارقت الحياة في سيارة الأجرة التي أصابتها طائرة حربية اسرائيلية فيما نجا سائق الأجرة الذي قابلناه لاحقاً. روى لنا عن ليال الكثير...

كانت تغني على الطريق وتأمره بأن يتوقّف لتلتقط صورها. لقد اندفعت كثيراً تجاه حلمها، ولم تكن تعنيها المادة بل تصوير الحقيقة. كانت حساسة جداً، تمنح راتبها للفقراء، وتجادل زميلاتها إن طلبن طعاماً جاهزاً، كانت لفتاتها الإقتصادية إنسانية. عالمها كانت الفئات المقهورة والمضطهدة، وكنت على الدوام أقول لها إنها يمكن أن تكون ثورية دون أن تتقيّد بلباس الشيوعيين القدامى. كانت تدعوني إلى احتساء القهوة في زوايا صغيرة، وتسخر من بعض المثقفين الذين يترددون إلى مقهى Café de Paris. كانت تقول أن بعضهم قد يستغني عن مبادئه لقاء مبلغ 300 دولار. كانت متنقلة شغوفة بين المجتمعات. درسنا معاً في كلية العلوم الإجتماعية ورسبنا في مادة الإحصاء. كانت صديقتي ومحاورة من الطراز الرفيع.

كانت تفاجئني بقراءاتها من انتصار العقيل إلى سيمون دو بوفوار إلى ألبير كامو إلى تولستوي إلى جون ريد وكتابه «عشرة أيام هزت العالم». هي امرأة «بتشهي براسها». هي قيمة فقدناها وبحاجة إليها. لقد سجلت نقطة لصالح المرأة التي تعتبر مواطنة درجة ثانية. المرأة التي انضمت إليها المناضلة سهى بشارة (متزوجة من سويسري) لانتزاع حق المرأة في منح جنسيتها لأطفالها. لقد أطلق اسمها على شارع في طرابلس كما خصصنا جائزة باسمها على صعيد نقابة المصوّرين، ووضع اسمها في أعماق بحر جبيل حيث ترقد آلية اسرائيلية. وهذا العام، سننظم مشروع تشجير باسمها في كل المناطق اللبنانية».