محمد جبارة الدراجي: المرأة والطفل هما محور أعمالي

كارولين بزي 09 ديسمبر 2018

هو “ابن بابل” وصانع “الأحلام” وسط الأزمات، غادر في “رحلة” عبر الزمن التقى فيها المجتمع عند محطة القطار، هناك حيث غاص في عمق المشاعر الإنسانية، وتعرّف إلى معنى الحياة، بسؤال “هدى” عن والديها، برد “علي” على شقيقته، بـ”سلام” النصّاب الطيّب، بـ”سارة” الانتحارية التي عادت إلى إنسانيتها وربما لم تعد، لكنها توقّفت عند محطات الحياة فساعدت واعتذرت... “سارة” في “الرحلة” هي تلك الفتاة التي قرأ عنها المخرج العراقي محمد جبارة الدراجي في الجريدة في العام 2008، وهي تلك الانتحارية التي التقاها في العام 2012 في سجن النساء، “سارة” هي امرأة وإنسان قبل كل شيء...  المخرج العراقي محمد جبارة الدراجي يتحدّث عن فيلمه “الرحلة” الذي يمثل العراق في جائزة الأوسكار، في هذا الحوار...


- ألم يقلقك أن يملّ المشاهد من ساعة ونصف الساعة في محطة قطار؟
هذا أصعب ما واجهته، لأنني صوّرت الفيلم السابق “ابن بابل” في سبع محافظات في العراق، مع طاقم كبير وبين عامي 2009-2010 أي في عزّ الأزمة العراقية، وفيلم “أحلام” صورته في بغداد بين عامي 2003 و2004 خلال الحرب على العراق. “الرحلة” كان صعباً جداً لأننا في موقع واحد وزمن واحد ومكان واحد، ومحور العمل يدور حول شخصين. من الناحية الفنية وصناعة السيناريو، كانت الصعوبة في كيفية استغلال محطة القطار سينماتوغرافياً وإدخال الجماليات إلى العمل. في المحطة 16 خطاً للقطار، التنقل بين أبعاد خطّ وآخر وفق ما أريد كان يتطلب منا ثلاثة أيّام لكل مشهد. لكن الفريق الذي تعاونتُ معه كان جبّاراً، وهم مجموعة شباب من المركز العراقي المستقل، طلّابي، ومعدل أعمارهم هو 20 سنة وكانت أول تجربة سينمائية لهم. والشباب الذين أدّوا أدوار أفرادٍ من القوات الأميركية أتوا من خارج العراق، ومدير التصوير عراقي-كندي، إلى جانب موظفي المحطة... كلهم كانوا رائعين، وقد استجابوا لمتطلبات السينمائيين الصعبة جداً وأدّا عملاً جماعياً رائعاً. أُنجزت صناعة الفيلم بين نهاية 2015 وبداية 2016.

- بالعودة إلى فيلم “أحلام”، أيّة أحلام يمكن أن تكون في خضم الحرب على العراق؟
أحلام مجانين، والسؤال: من هو المجنون... ذلك الذي يصنع الحرب أم المريض النفسي أو الذي وُصف بالمريض النفسي؟

- متى تدور أحداث الرحلة؟
ليلة إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين في العام 2006، عندما جاءت “سارة” إلى محطة القطار كانت الساعة 6:25 دقيقة، وأعتقد أنها لحظة مهمة في تاريخ العراق الحديث. أردت أن أسلط الضوء على الأمور بعيداً عن التفاصيل.

- لماذا اخترت الانتحاريّ امرأة لا رجلاً؟
في “أحلام” كانت الضحية امرأة، في “ابن بابل” كان الضحية رجلاً لكننا لا نراه، بل نتابع رحلة أمّ مع حفيدها يأتيان من كردستان العراق بحثاً عن ابنها الذي اختفى قبل 11 سنة في الجنوب.

- أي أن المرأة هي محور أعمالك؟
المرأة والطفل هما محور أعمالي. في العام 2008، كنت أصوّر فيلم “ابن بابل” في بغداد، جلست أتصفّح الجريدة، شاهدت صورة فتاة عراقية في السابعة عشرة من العمر، رُبطتْ إلى سياج مركز الشرطة وقد مُزّقت ملابسها، فيما جنديّ عراقي خائف يحاول قص الحزام الناسف الذي ترتديه، وبدورها تنظر إليه بخوف، فأثارني الموضوع. كانت في طريقها إلى تفجير مركز الشرطة في ديالا وقبل خمس دقائق من التفجير الموقوت أخبرت الشرطة أنها ترتدي حزاماً ناسفاً وبأنها تراجعت عن تنفيذ العملية، وأمامهم خمس دقائق لتفكيك الحزام الناسف. هذا الخبر صدمني، سألت نفسي كيف لفتاة بهذه السن أن تفجّر نفسها؟ المرأة بالنسبة إليّ هي ضحية الحرب. أثار المشهد في نفسي أكثر من سؤال عن المرأة الجانية والضحية.

- بالعودة إلى شخصية “سارة”، تحدثت عن أثر الحروب في النساء، كانت “سارة” تعيش مع والدتها وتتواصل معها وعلاقتها بها جيدة، فكيف لهذه الشخصية الإيجابية أن تصبح قاتلة؟
لم أشأ الدخول في الدوافع والخلفيّات، لأنني لم أكن أرغب بأن أمدّ المُشاهد بكل المعلومات، بل حاولت أن أحاكيه من خلال الأحداث التي يراها كمعلومات، لذلك عرضت تفاصيل بسيطة من الممكن أن تجعل المشاهد يرى سارة الإنسانة.

- صمت “سارة” كان مؤثراً جداً؟
بالفعل، عندما بدأت بكتابة النص، وكان بجانبي صديقي الفنان العراقي يحيي إبراهيم، تناقشنا ووضعنا خلفيّة لشخصية “سارة”، كنت كما محمد، أريد أن آخذ بالثأر من الإرهابيين وهي ردة فعل كل إنسان سويٍّ شاهد على ما يجري في العراق بل في العالم، من منا لم يفقد قريباً أو عزيزاً قتلوا فينا الحلم والأمل بقتلهم وتفجيراتهم. في العام 2012 وبعد كتابة ثلاث نسخ من الفيلم، جاءت الفرصة وقمت بزيارة سجن النساء والتقيت بعدد من الانتحاريات، بينهنّ فتاة جميلة جداً، خلال الحديث لم تحاول أن تكذب عليّ، كانت تنظر في عيني ولا ترمش، تخيّلتُ أن هذه الفتاة يمكن أن تكون صديقتي أو أختي أو أي إنسانة أعرفها، فهؤلاء بالنهاية بشر. كل ما نعرفه أن الانتحاري هو قاتل، ولكن هذا الانتحاري قبل أن يصبح كذلك هو إنسان له قريب أو حبيب أو عائلة. ثم طوّرت النص وعملت وطوّرت شخصية “سارة” بالتعاون مع زهراء.

- كيف شكّلت شخصية “سارة” المتناقضة؟
من خلال البحث الذي أجريته، وجدت أن العديد من الانتحاريين قبل 24 ساعة من عملية التفجير يجرون اتصالاً بشخص قريب منهم وفي الغالب تكون الأم، وعندما يهمّ هذا الشخص بالتحدّث مع والدته يعيش حالة تردد، ووفقاً لأيديولوجيتهم فنحن نراهم لا ينظرون إلى الأمور بواقعيّة، وحين يحين وقت التنفيذ ويقفون مباشرةً أمام الهدف يتوقّفون. عندما التقت سارة بالطفل لم تتأثر في البداية، ولكن في اللحظة التي طلبت فيها من “سلام” أن يطعمها، في تلك اللحظة بدأت تتغير الأشياء، وعندما أخذت الرضيعة إلى الحمام ومسحت على وجهها، هنا بدأت التساؤلات، هل ما تقوم به صحيح أم لا؟ إلى أن دخلت إلى المكان الصوفي وكان هذا مهماً بالنسبة إليها، ولهذا ترددت ولم تقم بالعملية.في الحقيقة لا مشكلة شخصيةً بين الانتحاريّ وبين الناس الذين يقتلهم، لا سبب محدداً لقتلهم، لا سبب إنسانياً أو مادياً ولا حتى دينياً، لكن كيف عنّ له أن يقتل هذه المجموعة؟ علينا أن نعلّمه أن ذلك خطأ من خلال تسليط الضوء على إنسانيته. السؤال الذي يُطرح هل يمكن أن نفكر بأن الإرهابي إنسان؟ لا شكّ في ذلك، لكنه في لحظةٍ، ضيّع إنسانيّته.

- هل هوجم الفيلم؟
بالتأكيد خلال النقاشات التي ثارت في العراق، سألوا: لماذا نعطيهم فرصة وهم لم يعطونا فرصة؟ حررنا العراق من داعش، ولكن الخلايا والفكر موجود. ثمة شخص تونسي كان في العراق وفجّرتْه جماعته عن بُعد فبترت رجلاه، قال حينها: لم أكن أنوي أن أفجر نفسي. دُمرت حياته ويقول إنه يعيش بعقدة الذنب، لو أعدنا تفكيرهم وأرجعناهم لإنسانيتهم، فسيكرهون أنفسهم، حتى أنهم يجتزئون آيات قرآنية لدعم فكرتهم. أهم موضوع بالنسبة إليّ أنني سأقوم بعروض للفيلم في المناطق المحررة في العراق، في الموصل وديالا في صلاح الدين، سننظم سينما متنقلة ونعرض الفيلم للناس، ومن المهم أن نلمس رد فعلهم.

- ما هي أهمّية الفرح وسط السوداوية الموجودة في الفيلم؟
عندما ننظر في ما تعرّضنا إليه من عنف في العراق وما حوله، ونرى أننا ما زلنا أحياء نفرح ويمازح بعضنا بعضاً. إعادة افتتاح المحطة وسط الحرب، معناه الحب والتوق إلى السلام والحياة، وبالتالي نأتي بفرقة موسيقية تعزف في محطة القطار.

- الانتحارية “سارة” حاولتْ أن تساعد الرجل الكبير خلال جنازة ابنه، كيف؟
بالفعل، ساندت والد الميت. حتى بعد مشهد الجنازة، شاهدنا زفاف تلك التي انتظرتْ حبيبها 22 عاماً في الأسر. محطة القطار هي محطة حياة، أطلقت عليها اسم العراق المصغّر أو الشرق الأوسط المصغّر، واخترت نماذج بسيطة من المجتمع. أردت أن أقول حتى إنّ سيّئي السمعة أو مَن ندعوهم أشراراً في المجتمع لا يستحقون الموت، مثلاً: “سلام” الذي حاول أن يتحرش بسارة، بالنهاية هو لم يؤذ أحداً. لم آت بمثقف ولا فيلسوف ولا برجوازي بل إنسان من الشارع. صار الموت عقاب كل مذنبٍ أو بريء.

- تم ترشيح الفيلم للأوسكار!
يمثل العراق في الأوسكار، هو ثالث فيلم لي يُرشح لجائزة الأوسكار. كما حاز الفيلم جائزة في مهرجان مسقط وفي المعهد العالمي العربي وفي شرم الشيخ ووهران.

- ما هي الجائزة التي يسعى إليها محمد من خلال هذا الفيلم؟
أود أن يشاهده كثيرون، ويتعلموا وتصل إليهم الرسالة. إذا استطعت أن أعيد أيّ متطرفٍ أو إرهابي إلى إنسانيته، إذا استطعتُ أن أثني أيّ مجرم عن فعلته تكون جائزتي قد وصلتْ. نحن نصنع أفلام ونطرح تساؤلات ونحاول...

- في العام 2008 قرأت الجريدة، في العام 2012 غيّرت السيناريو وتم تصوير الفيلم بين 2015 و2016، لماذا استغرق الفيلم كل هذا الوقت؟
الفيلم صعب. الإنتاج والميزانية في العراق، وبسبب دخول داعش إلى العراق ضعفت، ثم تحولنا إلى الإنتاج المشترك مع هولندا وفرنسا وبريطانيا، وأفدنا من لبنان إذ لا صناديق دعم في العراق.

- كيف تصف المرأة العراقية، وما هو دورها في ظل الحروب؟
المرأة العراقية إنسان قوي وجبّار. أمّ وأخت.

- هل هي ضحية؟
هي ضحية نفسها والمجتمع، لا تطالب بحقوقها الحقيقية. أمّي قوية جداً، لكن أخشى أن تكون أمهات الجيل ضحايا. الحرب ليست في جبهات القتال فقط، الحرب دمرت مجتمعات. الحروب التي مرت على العراق أصابت جيلين من نساء العراق، المرأة هي نصف تعداد العراق، لكن لا دور حقيقيا لها في بناء المجتمعات، علماً أنّ هناك قوانين تساعد المرأة العراقية، لكن علينا إيجاد المزيد منها. والعبرة في التنفيذ.

- ما هي الصعوبة التي تواجهها المرأة العراقية في تربية الجيل الجديد؟
الجيل الصاعد هو جيل الحصار والحروب، والمرأة التي ستربيه هي أيضاً تربت في مرحلة الحرب العراقية-الإيرانية وحروب الخارج والداخل و”داعش”. المهمة دونها صعوبات لا صعوبة، لكن الأمل قائم وحان أوان العمل.