كما في فرنسا في العالم العربي أيضاً سيدات يقتحمن مهن الرجال بنجاح

فرح جهمي – فرنسا 16 مارس 2019
أكثر ما يلفتني خلال تنقّلي في شوارع مارسيليا الفرنسية، مشاركة العديد من النساء في أعمال ومهن لطالما رسخ في مخيلتي أنها حكر على الرجال بسبب الموروثات الاجتماعية والمعتقدات السائدة.


عند زاوية منزلي، وبالقرب من محطة المترو، تستوقفني كل يوم سيدة أربعينية كسرت بمهنتها كلّ الأفكار المُسبقة عن عمل النساء، حيث إنها تعمل في تصليح الأحذية القديمة وخياطتها وإعادة صبغها. وفي مجتمعاتنا العربية، من المعيب أن تمارس النساء هذه المهنة، ذلك أنها تقلّل من شأنهن وتسيء إلى سمعة أسرهن، كما أنها تحتاج إلى مجهود بدني كبير، وتلطّخ اليدين والملابس بالأوساخ.

تعمل هذه المرأة في محلها الصغير الذي لا تتعدّى مساحته الثلاثة أمتار، وتجلس خلف طاولتها الخشب وأمامها «ترايبود الإسكافي» والأصباغ الملوّنة ووسائل القصّ واللصق وغيرها من الأدوات البسيطة التي تستخدمها لتصليح مختلف أنواع الأحذية بهدوء ودقة. ولدى سؤالها عن سبب اختيارها هذه المهنة، تؤكد قائلةً: «أعمل على تجديد الأحذية القديمة، وهذا عمل دقيق، وفي إمكان أي سيدة أن تقوم به، لأن المرأة بطبعها أكثر دقةً وتركيزاً من الرجل».

وفي الجهة المقابلة للشارع العريض، تمارس فرنسية أخرى مهنة «صبّ المفاتيح»، فتنسخ وتطبع كل أنواع المفاتيح بطريقة فنية. تلفّ المفتاح بيدها بحِرفية عالية، تطبع «أسنانه» بهدوء، والابتسامة على وجهها، فالمهنة التي تمارسها تقتصر على الرجال في مجتمعاتنا العربية.

واللافت أن السيدة هذه كانت أستاذة محاضِرة في الجامعة وتدرّس مادة «الفونولوجي». إلا أنها قررت قبل 10 سنوات التخلّي عن وظيفتها هذه والتفرّغ لمشروعها الصغير، أي صبّ المفاتيح، وهي تصنّف عملها هذا فنّاً.

لكن النظرة السائدة إلى الأعمال وتوزيعها بين الرجال والنساء باتت تتغيّر اليوم باضطراد في وطننا العربي، حيث كسرت نساء كثيرات حاجز «العيب» و«الممنوع» وبدأن مزاولة أعمال لطالما ارتبطت بالذكور، ومنها قيادة سيارة الأُجرة. وأذكر أن أمّاً لبنانية التقيتها العام الماضي روت لي كيف أُجبرت على استخدام سيارة زوجها المتوفى لتأمين احتياجات أولادها الأيتام، فقالت: «تعرّضت للكثير من التعليقات القاسية والمضايقات من السائقين الذين يرفضون انضمامي إلى صفوفهم في مهنتهم الحرّة».

ورغم كل الانتقادات التي تواجهها يومياً، كسرت هذه السيدة «التابو» وأفسحت في المجال أمام أخريات لممارسة العمل نفسه. ووصل الأمر إلى تسمية السيارات الخاصة بالنساء في لبنان بـ«السيارات الوردية». فقد أصبحت بعض النساء يزاولن مهنة توصيل الركاب بسيارات الأُجرة، وينقلن الفتيات إلى مختلف الأماكن، مما أدّى الى الحدّ من ظاهرة التحرّش التي كانت منتشرة، خاصة في الفترة المسائية.

كذلك تمكّنت المرأة العربية من مزاولة مهن غير مألوفة وتجرّأت على اقتحام الكثير من المجالات الصعبة والتي كان ممنوعاً عليها دخولها. غير أن هذا لم يحدث في لبنان فقط، بل شمل مصر أيضاً، وخير مثال على ذلك الشابة مروى السلحدار التي حققت حلمها وباتت أول قبطان (ضابط) في البحرية المصرية، وذلك بعد التحاقها بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، إحدى المنظّمات التعليمية التابعة لجامعة الدول العربية.

كما أن ضيق الحال دفع المرأة المصرية للقيام بعدد من الأعمال التي كانت تُعدّ غريبة على النساء ومن الصعب أن يتقبّلها المجتمع المصري، فقادت سيارة أُجرة لنقل الركاب، وعملت في صالون حلاقة خاص بالرجال، وشاركت في أعمال البناء ونقل الحجارة والإسمنت... فأثبتت قدرتها في مجالات كانت حكراً على الرجال.

أما المرأة التونسية فنجحت من خلال النظام المدني السائد في البلاد في استغلال الحرية الممنوحة لها لتمارس بجدارة أهم الوظائف والمهن «الرجالية»، إلى أن اعتاد المجتمع على ما تقوم به من أعمال، وانتفى الجدل حول قيادتها الطائرة والتاكسي والمترو والقطار والحافلة، وعملها في مجالات كانت برسم الرجل، كالميكانيك والكهرباء والسباكة.

وفي هذا السياق، أكد تقرير للأمم المتحدة صدر العام الماضي أن المرأة التونسية تعمل أكثر من الرجل، حيث يصل معدل عملها اليومي الى 7.2 ساعة مقابل 5.9 ساعة للرجال.

كذلك لم تعد المرأة الخليجية محرومة من المشاركة في الحياة السياسية والإعلانات والنشاطات العلنية التي كانت ممنوعة عليها بسبب سيطرة التقاليد الاجتماعية والمفاهيم الصارمة. وترافق كل ذلك مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي. فقد تحررت معظم السيدات من الكثير من المعوقات الحياتية التي كانت تعترض طموحاتهن في العمل الاجتماعي، وبتن من أشهر النجمات والمدونات والفاشينستات على «السوشيال ميديا»، ومن بينهن حليمة بولند ودانة الطويرش وفوز الفهد وبيبي العبد المحسن وروان بن حسين وفرح الهادي وغيرهن كثيرات ممن سطع نجمهنّ في العالم الافتراضي، وتحولت صفحاتهنّ إلى منصات للإعلانات لأهم الماركات العالمية وفي مختلف المجالات.

وأخيراً، تسلّمت مجموعة كبيرة من السعوديات رخصاً لقيادة السيارات، تطبيقاً لقرار يقضي بالسماح للمرأة بقيادة السيارة في المملكة العربية السعودية، في سابقة هي الأولى من نوعها. ومن المنتظر أن يفتح هذا القرار آفاقاً جديدة أمام المرأة للقيام بالكثير من الأعمال والمهن التي كانت محظّرة عليها قبل سنوات.

وبعيداً من ممارسة المرأة لمعظم الأعمال التي كانت حكراً على الرجال، اقتحمت السيدات العربيات أيضاً المجال الرياضي من أوسع أبوابه، وبتن يشاركن الرجل في بعض ألعاب القوى القاسية والفنون القتالية التي تحتاج الى جهد بدني كبير، إلى جانب دخولهن المنافسة في مختلف الرياضات مثل كرة القدم وكرة السلة وكرة الطاولة والتنس والسباحة والركض، وفوزهنّ بعدد من الجوائز والميداليات، وتحقيقهنّ أرقاماً قياسية في الكثير من البطولات العالمية.

في المحصلة، باتت المرأة العربية قريبة جداً من واقعها، وتضاهي المرأة الغربية في قدرتها على منافسة الرجل بالقيام بمختلف الأعمال متخطيةً حاجز الجندرية، والنظرة الدونية الى المرأة. وسيأتي يوم تصبح فيه ممارستها لكلّ الأعمال الموسومة بالطابع الذكوري مسألة عادية ولن تعاني أي تنمّر أو إزعاج في مجتمعها.