المرأة والحياة العسكرية العميدة دلال الرحباني: كنت أردّد دائماً على من هم أدنى رتبةً بأننا في مؤسسة عسكرية وقانوننا التراتبية، فأنتم تتلقون الأوامر من ضابط سواء كان رجلاً أو امرأة

تحقيق: طوني بشارة 04 مايو 2019

كان لـ"لها" جولة مع العميد المتقاعد في الأمن العام دلال الرحباني، فتحدثت عن دخولها السلك العسكري في العام 1974 وتدرّجها فيه وصولاً الى تسلّمها منصب المدير العام بالوكالة، متطرقةً الى اهتمامها بالمجال السياسي وترشّحها للانتخابات النيابية لغير مرة.


عن بدايات العمل في المجال العام، سواءٌ العسكري أو السياسي، تقول العميدة: "لا بد من توافر التربة الخصبة التي تهيئ أياً منا لهذا النوع من الاتجاه، وأقصد العمل السياسي، وهذه التربة تبدأ من سنّ الشباب، والخوض فيها ليس مجرّد هواية أو تسلية، إنما هو انغماس والتزام وجدّية وإصرار على تحقيق الهدف. بالنسبة إليّ، منذ أن كنت تلميذة، انخرطت بالأنشطة الثقافية، ثم التحقت بالكشافة، وعندما انتسبت الى الأمن العام عام 1974 في عهد الرئيس سليمان فرنجية، كان ميداناً صعباً والظروف استثنائية لكنني خطوت الخطوة الأولى... واستمررت بهذا العمل على مدى 35 سنة متواصلة".

وتضيف: "قبل دخولي السلك العسكري، كنت أزاول مهنة التعليم في القطاع الرسمي، وفي الوقت ذاته كنت أتحضّر لدخول معهد القضاة، لكن شاءت الظروف أن أتقدّم لامتحان الدخول إلى الأمن العام بصفة ضابط اختصاص، وصدرت النتائج قبل إجراء امتحان الدخول إلى معهد القضاة، وهكذا أصبحت ملازماً أوّل في الأمن العام، ثم ترقّيت الى رتبة عميد، وتوليت أعلى منصب في الهرم، أي المدير العام بالوكالة، بموجب مرسوم جمهوري موقّع من مجلس الوزراء، واستمررت في هذا المنصب لحين التقاعد وذلك في العام 2009، وكنت أعمل حتى في العطل الرسمية لأنه لم يكن هناك من فرص سنوية خلال فترة الحروب، ولم أتغيّب يوماً عن عملي، وأذكر أنّ المجلة الإنكليزية "إنتلجينس أونلاين" نشرتْ آنذاك مقالاً عن "أوّل سيدة لبنانية" تتسلّم منصب نائب المدير العام للأمن العام في الشرق الأوسط".

- كيف كان رد فعل الوالد على دخول ابنته إلى السلك العسكري؟

في البداية عارض أبي دخولي سلكاً عسكرياً، ثم رضخ للأمر الواقع عندما لاحظ إصراري، فدخلت إلى السلك وتابعت دورة تدريبية عبارة عن سنة دراسية في فرنسا، عدنا بعدها إلى لبنان مع بداية الحرب اللبنانية.

- كيف تخطّت "السيدة دلال" المراتب وأصبحت نائب المدير العام للأمن العام؟

طوال مسيرتي العسكرية كنت أمارس عملي بعقلانية وإنسانية لا مثيل لهما، وكنت أعالج الأمور بعمق، تقلّبت في مناصب عدة، فعملت في قسم المعلومات، ثمّ عُيّنت رئيسة شعبة الفنانات، كما تسلّمت مركز الأمن في بيروت. لاحقاً عملت في مركز المعلومات السرية في الأمن العام ورأست هذا المركز طوال ثلاثة عهود رئاسية وكنت أول امرأة ترأس هذا المركز. كذلك رأستُ دائرة الأجانب والهجرة غير الشرعية والأموال والشؤون الإدارية، وفي الوقت ذاته كنت أترقّى عسكرياً إلى أن حزتُ رتبة عميد، عندها وفي عهد الرئيس لحود، صدر مرسوم جمهوري بتعييني مديراً عاماً بالوكالة، وبقيت في منصبي هذا حتى انتهاء خدمتي.

- هل واجهت صعوبات معينة مع المجتمع الذكوري كونك سيدة تولّت هذا المنصب؟

لم أتساهل يوماً، ولم يكن لديّ مشكلة في كوني سيدة في هذا المنصب، وكنت أردّد دائماً على من هم أدنى رتبةً بأننا في مؤسسة عسكرية وقانوننا التراتبية، فأنتم تتلقّون الأوامر من ضابط، سواء كان رجلاً أو امرأة، وطالبت مراراً بمحاسبتي ليس كامرأة إنّما وفقاً لأعمالي، لا سيما اذا أخطأت في مكان ما، ولم أتساهل بحقوقي على الإطلاق، وتجنّبت اللجوء إلى الطرق الملتوية في معالجة الأمور، وكافحت ذلك على الرغم من شيوع هذه الآفة في معظم المؤسسات اللبنانية، وحافظت على الالتزام بالقيّم والمبادئ الأخلاقية على الرغم من الخصومات التي سبّبها لي سلوكي مع الكثيرين.

وتتابع الرحباني: كنت مقتنعة بما أقوم به، وأحفظ حقوق الناس ولا أقبل بالظلم ولا أتغاضى عن الخطأ. وعندما تقاعدت، كنت على يقين بأن هناك أناساً لا يحبّونني، ولكنني أدرك أنهم على الرغم من عدم محبتهم لي يحترمونني، هذه قناعتني ولن أتغيّر يوماً.

- معروف عن العميد الرحباني الالتزام والدقة وخصوصاً في المواعيد ودوام العمل، فكيف كانت ردود فعل الزوج والعائلة على هذا الأمر؟

بالنسبة إلى زوجي فهو عميد في الجيش ومنخرط في الحياة العسكرية، لذلك هو متفهّم تماماً لمبدأ الدقة والالتزام، ولكن أود أن أشير إلى أنني طوال فترة خدمتي اتّبعت مبدأ إدارة الوقت، فكنت أستيقظ صباحاً وأتولّى بنفسي إعداد الفطور لزوجي وأولادي، وأحرص على مرافقة أولادي في تمام السابعة والنصف إلى الحافلة أو الباص ومن ثم أنطلق إلى عملي، أغادر المديرية في تمام الساعة الثانية، أصل إلى المنزل قبل عودة الأولاد من المدرسة، أساعدهم في دروسهم، ثمّ أتفرغ وزوجي العميد غفري للقيام بالواجبات الاجتماعيّة. باختصار، الوقت مقسّم بين العمل، الأولاد، والواجبات الاجتماعية.

- الحياة العسكرية فيها نوع من التشدّد، فهل انعكس ذلك على تربية الأولاد؟

أولادي ولدوا في الثمانينيات، ونشأوا في ظل أجواء تفشّي المخدرات والاغتصاب والخطف وغيرها من سموم أجواء الحرب المدمّرة للأجيال، لذلك كنت متشدّدة في التعاطي معهم، أنا وزوجي، خوفاً عليهم، وهذا لا يتعارض مع مبادئ الحياة العسكرية.

- ما مفهوم العميد الرحباني للعنف الأسري، وهل اتّبعت العنف في تربية الأولاد؟

للعنف أو التعنيف أساليب عدة منها: بالإشارة أو النظرة الغاضبة، ثمّ الكلام الجارح، وأشدّها الضرب بالكلام الجارح، وفي رأيي أنّ الأسلوب الثالث أسوأ طرق التربية، وفي الواقع زوجي وأنا لم نمارس العنف مع أولادنا، ولم نحرمهم من أي شيء، وهذا لا يعني أننا لم نضربهم على الإطلاق، لا سيما أن الأم أو الأب يمكن أن يضرب ابنه او ابنته لا إرادياً في حالات استثنائية. إجمالاً، وفي بعض الحالات، لا بدّ من لفت النظر أو العقاب، "لولا المربّي لما عرفتُ ربّي".

- هل فرضت العميد الرحباني رأيها على أولادها في حياتهم الشخصية والعملية؟

كنت أستمع إلى خياراتهم وأستفيض بشرح هذه الخيارات ومناقشتها من أجل أن يكونوا قادرين على اختيار الأفضل. وبعد اتخاذ القرار كنت أنا والعميد غفري نتولّى دعمهم مادياً ومعنوياً لبلوغ هدفهم. وهكذا درس غسان إدارة الأعمال وهو حاليّاً مديرٌ لأحد المصارف، ولارا تخصّصت في الإدارة المالية وهي موظفة بالمصرف المركزي، وغديّ اختار أن يكون ربّاناً جوّياً "طيّاراً" في شركة طيران الشرق الأوسط "الميدل إيست".

- ما الأمر الذي حرمكِ منه كونك عميداً في السلك العسكري؟ وهل تشتاقين إلى الحياة المدنيّة؟

ابتعدت عن أمور عدة كنت أهواها أو أمارسها، وهي طبيعية أو مألوفة في الحياة المدنية، فقبل دخولي السلك كنت معروفة بأنني مرحة وعفويّة وأحب الحياة، لكنّ مركزي ونظرة المجتمع إليّ كـ"عسكريّة"، ألزماني بوضع إطار معيّن يحول دوني وما أهواه، أساسه الاحترام و"لكلّ مقامٍ مقال".

- كيف قرّرت الدخول في المجال السياسي وترشّحت للانتخابات النيابية أكثر من مرّة؟

سبق أن كنت مسؤولة عن شعبة المحفوظات السرّية في الأمن العام، وقد أحببتُ السياسة اذ كنت أتابعها وأطالع الصحف يومياً، وبعد التقاعد عملنا مع مجموعة من المفكرين والأدباء والأطبّاء والمهندسين ورجال الأعمال والإعلاميين والضباط المتقاعدين، ثمّ أسّسنا حزباً سياسياً أطلقنا عليه تسمية "تجمع لبنان الدولة"، وكان ذلك على أساس أن يحافظ الحزب على استقلاله، لكن دخلت المحسوبيات وعُلّق الحزب وذلك في العام 2011، وبعدها ترشحت للانتخابات النيابية في العام 2011 عن المقعد الإنجيلي في دائرة بيروت الثالثة ونجحت بالتزكية، ثم ترشحت في العام 2014 ويومئذٍ توجّهنا الى وزارة الداخلية وألقيتُ كلمة باسم السيدات المرشّحات، لكنّ تلك الدورة ألغيت، وترشحت العام 2018 وكنت على لائحة بيروت الوطن برئاسة الأستاذ صلاح سلام، لكن اللائحة لم تحُز الحاصل الانتخابي المطلوب.

- على الرغم من التأجيل والعراقيل أصررت على الترشح للانتخابات؟

هذا صحيح، وهذا هو الالتزام، فعندما أقرّر القيام بشيء أذلّل كل العقبات لأكمل المسيرة، فسيرتي الذاتية تخوّلني أن أمثل المرأة اللبنانية في البرلمان لأنني "ابنة الدولة"، وأعرف القوانين، وكيف لا تُطبّق، ولماذا لا تُطبّق، وكيف يصدر القانون، كما أعرف القوانين التي سأقترحها ومتى يجب أن تكون قابلة للتطبيق في مجتمعنا، وأحرص على أن يشمل القانون أكبر شريحة من الناس وألا يكون هناك أيّ استثناء، فالقوانين يجب أن تكون منصفة لكل الشعب اللبناني، وعلينا أن ندرك وضع اللبنانيين ونحسّ بألمهم، فعندما يضطر المواطن "الآدمي" لإجراء معاملة ما وينتظر دوره في الصفّ، يأتي أحدهم ويدخل مباشرةً إلى مكتب الموظف لكي ينجز له المعاملة، ويبقى المواطن العادي منتظراً ينظر بعينيه. هذا أمر غير مقبول. العدل في المساواة بين المواطنين، ويجب تطبيق القانون على الجميع ولو بالقوة عملاً بمبدأ "الظلم بالسوية عدل بالرعية".

- لماذا كل هذه العراقيل في طريق المرأة إلى البرلمان وغيره من المراكز؟

ما يقال شيء... وما يطبّق شيء آخر، فخلال حملة "الكوتا" مثلاً، وكنت من المساهمين فيها، عندما تحدثنا عن "الكوتا" كنا نسمع من المسؤولين أنهم معنا وسيدعموننا للوصول إلى البرلمان، وكانوا يقولون لنا إننا نمتلك المقومات، وأننا نحقق النجاحات في مختلف المجالات والاختصاصات ولا شيء يمنع دخولنا إلى السياسة. وعند التنفيذ... لم نجد أحداً معنا.

- ماذا تقولين للمراة العربية؟

بدايةً، على المرأة العربية أن تتحصّن بالعلم والمعرفة، ثمّ عليها بالجدية والرصانة. أخيراً عليها أن تلمّ بمفاهيم بيئتها ومجتمعها وبعاداته وتقاليده، وأن تسعى إلى تطوير هذه القيم والعادات وتصويبها بالاتجاه السليم. باختصار، أقول لأختي المرأة العربية: أقلعي عن استعمال أنوثتك للوصول إلى حقوقك، فهناك طرق أخرى أجدى وأهدى.


●أمضت العميدة دلال الرحباني 35 عاماً في خدمة الأمن العام اللبناني متدرّجة من رتبة ملازم أول إلى رتبة عميد، وتولّت منصب المدير العام للأمن العام بالوكالة، كما مثّلت المديرية في العديد من المؤتمرات الدولية والمحلية التي تطرقت إلى مواضيع حقوق الإنسان وقضايا المرأة فكانت خير ممثّل للوطن في تلك المؤتمرات، إن كان في الصين أو إيطاليا أو الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال.

● شغلت وظائف وأدّت مهمّات في القطاعات الأمنية والإدارية وشؤون الموظفين والجنسية والجوازات والفلسطينيين واللاجئين غير الشرعيين والأجانب، فأثبتت جدارتها في تلك المواقع ونجحت في الحفاظ على استمرارية الدولة في أشدّ الأزمات التي مر بها لبنان.

● وكما أدّت واجبها المهني في عملها الأمني والوطني بنجاح، أدّت دلال الرحباني الأم والزوجة والابنة دورها منطلقةً من كونها أنثى ومواطنة مسؤولة، متحصّنة بالجرأة والإصرار على تنفيذ القناعات الوطنية والأسرية والمجتمعية بكل عنادٍ وثبات.