قصة "سيدة التسامح": استشهد طفلها في جريمة ثأر... فشكّلت أول لجنة نسائية للمصالحة

القاهرة - جمال سالم 01 سبتمبر 2019

في سابقة هي الأولى من نوعها، أعلنت المستشارة أماني أبو سحلي، وزوجة النائب حمزة أبو سحلي، عضو مجلس النواب عن محافظة قنا في صعيد مصر، عن تأسيس أول لجنة نسائية للمصالحة شعارها "صعيد بلا ثأر"، بعدما فقدت فلذة كبدها، ابن الـ15 عاماً، في خصومة ثأرية قبل سنوات عدة، فكسرت القيود الصعيدية بأن عدم الأخذ الثأر عار، بعد أن تسلّحت بالتسامح، وكلها أمل في أن تحقن الدماء البريئة. فما هي قصة هذه المبادرة النسائية الجريئة؟ وكيف تم تحويلها من حلم إلى واقع؟ وهل تستطيع المبادرة القضاء على الثأر؟ وما هي ردود الفعل عليها؟

تروي المستشارة أماني ماهر أبو سحلي، قصّتها قائلةً: "في يوم عصيب من عام 2014 فقدت نجلي "محمد" في خصومة ثأرية، وهو بعد في سنّ الخامسة عشرة، حيث تربّص له أفراد من عائلة أخرى في أثناء عودته من المدرسة مستقلاً دراجته النارية مع آخرين من أبناء عائلته، فأمطروه بالرصاص، ونزف كمية كبيرة من الدماء أدت الى وفاته، كما أُصيب عدد من أفراد عائلتنا بإطلاق النار العشوائي، ذلك لإصرار الخصوم على الأخذ بالثأر، الذي تحرّمه كل الأديان السماوية".

تتذكر المستشارة أماني تلك اللحظة باكيةً، وتقول: "جاء شبان عائلتي إلينا، وأكدوا أن انتقامهم سيكون موجعاً، حتى لو وصل الأمر إلى قتل العشرات من الخصوم، ثأراً لمقتل ابني، وتحركوا غاضبين واحتجزوا سيارة فيها ثمانية أشخاص من العائلة الأخرى تمهيداً لقتلهم جميعاً، إلا أنهم فوجئوا برفضي أنا وزوجي استمرار "سلسال الدم"، وأخبرتهم أنني سأبلّغ الشرطة عن مخطّطهم، لأنني احتسبت ابني شهيداً عند ربّي الذي أنزل الصبر بلا حدود والرضا بقضاء الله وقدره، وقررت الذهاب الى الأراضي المقدّسة لأداء مناسك العُمرة، لأتحلّى بالصبر أنا الأم المفجوعة على فلذة كبدها، وقد استجاب الله لنا وأنزل في قلوبنا السكينة والتسامح لحقن الدماء، والمحافظة على الأرواح البريئة في العائلتين، وعلى رأسهم ابني الآخر وأختاه ليعيشوا في سلام".

وتكمل المستشارة أماني حديثها موضحةً: "أنا على قناعة تامة بأن الخصومات الثأرية والدم لا يجلبان إلا الدمار والخراب للجميع، خاصة مع امتلاك الكثيرين للسلاح بكل أنواعه، بحيث أصبح عنصراً أساسياً في استمرار "حمّام الدم"، ولهذا يجب التسلّح بالحكمة والعقلانية والصبر والعفو والتسامح مع الآخرين، فبذلك فقط تُطبَّق تعاليم الأديان السماوية، حيث يقول الله تعالى: "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ على اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"، ولهذا لا بد من اتّخاذ خطوة جريئة بإعلان الثورة على الأعراف والتقاليد لوقف هذه الخصومة، التي راح ضحيتها قرابة العشرين من خيرة شباب عائلتَيْ "السحالوة" و"المخالفة"، وساعدني في ذلك أن استشهاد ابني حقق المساواة في عدد الضحايا من العائلتين".

من محنة الى أخرى

توضح المستشارة أماني أنها وزوجها النائب حمزة أبو سحلي حوّلا "المحنة" إلى "منحة"، من خلال دعوتهما للتخلص من الثأر ورفض الرغبة بالانتقام. وتضيف: "فكرنا معاً فوجدنا أن المرأة الصعيدية هي أكثر من يُشعل نار الثأر أو يكتوي بها، ومن هنا عملت على تأسيس أول لجنة نسائية للمصالحة في تاريخ الصعيد، وعرضنا الفكرة فلاقت حماسة شديدة من محافظ قنا اللواء عبدالحميد الهجان، وقيادات وزارة الداخلية ولجان المصالحة الرجالية، الذين رأوا في مبادرتي تمهيداً للوصول الى التسامح والعفو، لأن الواقع يؤكد أن المرأة الصعيدية هي المحرّض الأول على الأخذ بالثأر، سواء في العلن أو في السرّ، حيث تردّد دائماً على مسامع أولادها الجملة الشهيرة "الثأر أو العار".

وتكشف الملقّبة بـ"سيدة التسامح"، أنها شكّلت لجنة نسائية للمصالحة تضم رموزاً نسائية صعيدية، منهن أستاذات جامعيات ومثقفات وتنفيذيات، وقد عقدت اللجنة اجتماعات عدة ونجحت في إنهاء بعض الخصومات الثأرية؛ من طريق التقاء "سيدة التسامح" مع سيدات أطراف الخصومة، وسرد قصّتها الشخصية وتألّمها لاستشهاد ابنها البريء، وتسلّحها بالصبر وتعاليم الدين لوقف نزف الدماء، مما يجعل كلامها نابعاً من مأساة مماثلة، إن لم تكن أصعب، كما تعمد اللجنة الى "طرق أبواب" أصحاب الخصومات الثأرية لتقريب وجهات النظر بمحاضر عرفية، وتبدأ بالتحدّث الى النساء ومن ثم الرجال لتمهيد الطريق الى الصلح، وجارٍ حالياً التخطيط للتواصل مع الجهات التنفيذية والنسائية لإنشاء فروع لهذه اللجنة في مختلف محافظات مصر، سواء في الصعيد أو الوجه البحري، وتأمل اللجنة بتعميم الفكرة في الدول العربية، وليس في مصر وحدها، لأن عادة الثأر موجودة في كل المجتمعات العربية بأشكال ودرجات مختلفة.

تحرك ميداني

تؤكد المستشارة أماني أنها تعمل على نشر مبادرتها الإنسانية عبر اللقاءات الفكرية والتجمعات الشبابية في الصعيد، لتغيير أفكار النساء والرجال من مختلف الأعمار والمستويات الاجتماعية والثقافية، لأن ما تنادي به عمل نبيل يدعو الى حقن الدماء، ولهذا فإن التفرغ للمبادرة هو نوع من الجهاد الحقيقي، وهي تستحق الدعم من الجميع، لأننا نتحدث عن أرواح بريئة تُزهق باستمرار، خصوصاً أن المحاكمات القضائية تسير ببطء، مما يضاعف المشاكل، فيسقط المزيد من القتلى طوال فترة المحاكمة، ومما زاد الطين بلّة، صدور قانون يسمح للمحامين بالحضور بتوكيل من الجُناة في قضايا الثأر، فيبقى القاتل حرّاً طليقاً، ويشتعل غضب أهل القتيل فيفقدون صوابهم ويسعون الى الثأر منه.

تفعيل المبادرة

انخرط النائب حمزة أبو سحلي، عضو مجلس النواب، عن دائرة فرشوط في قنا، في البكاء عندما روت زوجته قصة قتل نجلهما "محمد"، وصراعهما لوقف "حمّام الدم"، قائلاً:" أصعب ما في الحياة هو فراق الابن، أو إزهاق أي روح بريئة، ولهذا لا بد من التحلّي بالصبر، والاستفادة من ثقافة التسامح لوقف سلسال الدم".

وأوضح أبو سحلي، أن عمل اللجنة النسائية للمصالحة مرتبط بعمل "لجان المصالحة الرجالية"، التي يشارك فيها كبار القيادات التنفيذية، وعلى رأسهم المحافظون ومديرو الأمن وعلماء الأزهر ورجال الكنيسة، بل إن هذه اللجنة الجديدة تسعى أولاً لنزع "الأفكار الشريرة" من رؤوس النساء صاحبات الدم، مما يؤثر إيجاباً في الرجال أصحاب الدم.

وأنهى حمزة أبو سحلي كلامه، كاشفاً عن مبادرة إيجابية أخرى قام بها بالتعاون مع زوجته، وهي إطلاق اسم ابنه الشهيد "محمد"، وابن أحد ضحايا الثأر من عائلة "المخالفة" على مدرستين كنوع من إثبات حسن النوايا، تزامناً مع المصالحة بين العائلتين لوقف سلسال الدم.

تضامن

تُعلن الدكتورة مايا مرسي، الأمين العام للمجلس القومي للمرأة، عن تضامنها مع اللجنة النسائية، التي تُعد بمثابة "حمامة سلام" لحقن الدماء وتهدئة الأجواء الانتقامية بين أصحاب الثأر، لأنها طرف أساسي في المشكلات الثأرية، وفي يدها نشر روح التسامح، أو إشعال نار الفتنة.

وتثمّن الدكتورة مايا ما قامت به المستشارة أماني أبو سحلي، داعيةً بقية النساء العربيات بعامة، والمصريات بخاصة، إلى أن يحذوا حذوها بما تملكه من إرادة صلبة، مكّنتها من التغلّب على التقاليد الدموية التي توارثتها الأجيال ويصعب تغييرها بين ليلة وضحاها، بل لا بد من اتخاذ قرارات جريئة وابتكار أفكار خارج الصندوق، كتأسيس مثل تلك اللجنة النسائية التي يبني عليها الجميع آمالاً عريضة في حقن الدماء، وإضعاف روح الانتقام، وتشجيع المصالحات النسائية والرجالية.

وتختتم الدكتورة مايا مرسي كلامها، مؤكدةً أن كل عضوات المجلس القومي للمرأة في مختلف المحافظات يتجاوبن مع اللجنة ومستعدات للمشاركة في تحقيق أهدافها النبيلة، للوصول إلى غاياتها "مصر بلا ثأر"، وإعلاء قيم الحب والتسامح والعفو والصفح.

دور الفن

وصفت الفنانة القديرة عبلة كامل، بطلة المسلسل الشهير "سلسال الدم"، المبادرة بأنها بداية لفجر جديد يبزغ في فكر المرأة المصرية والعربية بعامة، والصعيدية بخاصة، لأن عادة الثأر، ورغم تأصّلها في نفوس أهل الصعيد، منتشرة بدرجة أقل في بقية محافظات مصر، وكذلك في مختلف الدول العربية، ولهذا لا بد من وقفة جادة لوقف نزف الدم، الذي يحصد الأرواح البريئة، لأن الثأر المتبادل لا يتوقف عند قتل القاتل، بل يطاول أي فرد في العائلة الأخرى، خاصة إذا كان هدف الثأر شاباً ذا مكانة اجتماعية فيكون الانتقام مقيتاً.

وطالبت عبلة كامل بتوجيه الأعمال الفنية الصعيدية إلى تغيير أفكار النساء والرجال حول الثأر، مستشهدةً بدورها في مسلسل "سلسال الدم"، بدلاً من صنع أعمال فنية تروّج للثأر وتؤجّجه في نفوس أهل الصعيد، مؤكدةً أن عدم الأخذ بالثأر يجلب العار... وهذا يتطلب تغيير أفكار المؤلفين والمنتجين، وتشجيع الفنانين، ورصد جوائز قيّمة لأحسن عمل فنّي يهدف التي تغيير أي عادة سيئة في المجتمع بوسائل مقنعة.

مساندة نسائية

أعلنت نشوى سرحان، حفيدة الفنان شكري سرحان، التي تشغل منصب عُمدة قرية في محافظة المنيا، دعمها للمبادرة النسائية لمحاربة الثأر، لأن ما من عائلة في صعيد مصر لم تكتوِ بنار الثأر المتجذّر في نفوس النساء الصعيديات جيلاً بعد جيل، ولهذا فإن التركيز على تغيير أفكار المرأة الصعيدية يُعد خطوة مهمة للتخلص من هذه العادة الجاهلية، التي راح ضحيتها مئات الآلاف من أبناء الصعيد، وخصوصاً الشباب ذوي المكانة الاجتماعية، ليكون الانتقام موجعاً.

وطالبت نشوى الفنانات بتبني المبادرة من خلال الأعمال الدرامية لتغيير الأفكار، وهذا أمر صعب، لكن التركيز عليه فنياً؛ مع بيان أهمية الصفح والعفو في الديانتين، المسيحية والإسلام، يساهمان في اختفاء هذه العادة الجاهلية تدريجاً، خصوصاً في ظل انتشار الوعي، نتيجة ارتفاع معدلات التعليم بين نساء الصعيد.

وأنهت نشوى سرحان كلامها، موضحةً أنها بحكم منصبها كعُمدة، حضرت الكثير من الجلسات العرفية للصلح في قضايا الثأر، وكان لها دور في تهدئة نار الثأر في نفوس السيدات، من خلال إقناعهن بأن شلال الدم لن يتوقف ما دامت المرأة تشعل ناره.


CREDITS

تصوير : تصوير - أحمد الشايب