«المنصة حقها»... صرخة نسائية ضد التمييز

القاهرة - جمال سالم 12 يناير 2020
رغم نيل المرأة كل حقوقها في كثير من الدول، بما فيها الحق في تولّي كل المناصب، لا يزال واقع الحال في مصر محيراً، فهناك تمييز ضد المرأة برفض تعيينها في القضاء الإداري في مجلس الدولة والنيابة العامة بدون سند من الدستور. من هنا تأتي أهمية الصرخة النسائية التي تُطلقها الدكتورة أمنية جادالله، صاحبة مبادرة "المنصة حقها"، التي عانت من الظلم ولا تزال، وتضامنت معها شخصيات حقوقية وناشطات نسائية، فما هي قصة هذه المبادرة؟ وما هي الخطوات التي قامت بها والنتائج التي توصلت إليها؟


عن بداية المبادرة وسبب إطلاقها، تقول الدكتورة أمنية جاد الله: "أسّستُ المبادرة في عام 2014، بعد أن حصلت على "الليسانس" عام 2013 بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وتقدّمت لشغل المنصب القضائي في مجلس الدولة، أسوة بزملائي من الخرّيجين، بناءً على إعلان رسمي صادر عن المجلس بتاريخ 30 كانون الثاني/يناير 2014. وفي الموعد المحدد سحبتُ ملف المجلس لشغل وظيفة مندوب مساعد في مجلس الدولة، لكنني فوجئت بتجاهل طلبي وعشرين طلباً تخصّ زميلاتي، ولم يُسمح لنا نحن الخرّيجات بسحب الأوراق التي تقدّمن بها، على عكس الخرّيجين الذكور الذين لم يواجهوا أي مشاكل، فرفعتُ أنا وزميلاتي دعاوى قضائية للحصول على حقوقنا، لكن للأسف الشديد خسرنا الدعوى الأولى عام في 2017، ولا تزال الدعوى الثانية قيد التداول وتنتظر تحويلها الى المحكمة الدستورية العليا، لكنها تؤجَّل عمداً ولفترات طويلة، بحيث وصلت مدة التقاضي الى ست سنوات حتى الآن. ولهذا تعمل مبادرة "المنصة حقها" على دعم خرّيجات كليات الحقوق من الدفعات اللاحقة، لسلوك المسار القانوني والقضائي اللازم للحصول على حقوقهن المشروعة في اعتلاء المنصة، وذلك بدعم من القانون، ونأمل في حصول المرأة على حقوقها الدستورية والإنسانية واعتلائها المنصة، فالقضية تحتاج الى دعم حقيقي وتضافر الجهود، لأن الوصول الى الهدف في تلك القضية لا يتحقق بجهود فردية، وإنما بخطوات تراكمية تصنع الفارق وتوصلنا الى المبتغى. وأنا أؤمن بأنه ما ضاع حق وراءه مطالب، وما ضاع وطن أعلى من شأن دستوره وقوانينه، التي تساوي في الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء".

عوائق اجتماعية كثيرة

تعرِض الدكتورة أمنية جاد الله لتفاصيل مبادرة "المنصة حقها" قائلةً: "هي مبادرة حقوقية توعوية، تهدف الى مكافحة التمييز في ما يتعلق بحرمان المرأة المصرية من تولّي القضاء، وتؤمن المبادرة بأهمية اعتلاء المرأة المنصّة في كل المؤسسات القضائية بلا تمييز، كالرجل تماماً، ومدى انعكاس ذلك على المؤسسات القضائية خصوصاً، والمجتمع وقضية التنمية عموماً، وأهمية ذلك في تعزيز سيادة دولة القانون، وترسيخ مفهوم الحيادية والاستقلال للسلطة القضائية، والتزامها بنصوص الدستور والقانون، التي أقسم أعضاؤها على احترامه وإعلاء شأنه".

وتشير الدكتورة أمنية إلى أن المبادرة تؤمن بأن اعتلاء النساء المنصة وشغلهنّ مناصب إدارية بارزة أمر غاية في الأهمية، حيث ترى النساء أنفسهن من خلال تلك النماذج الناجحة والمتميزة، ومن خلال الإيمان بقدرة النساء على تحقيق النجاح المهني على أعلى المستويات، مما يؤدي إلى التحرر من الأفكار النمطية لصورة المرأة.

وتثق الدكتورة أمنية أن في إمكان المجتمع ككل أن يحقق استفادة قصوى من مناخ تتساوى فيه الفرص لجميع الأفراد، بغض النظر عن جنسهم، لكسب الاحترام والارتقاء بالمسؤولية والعائد المادي، اعتماداً على قدراتهم وكفاءتهم، لكن للأسف لا تزال المرأة تصارع ضد التوجهات الاجتماعية التي تضع العوائق في طريق وصولها الى أهدافها، ورغم ذلك تثق المرأة بأن النجاح يعود في جزء كبير منه الى تغيير طريقة التفكير في المنازل والشوارع وأماكن العمل، وليس فقط من خلال التشريعات أو المحاكم، فلكل منا دور يلعبه في تنفيذ هذه المهمة.

عن واقع القاضيات في مصر، تقول الدكتورة أمنية: "للأسف، نسبة القاضيات متدنية جداً، ولا تتناسب مع قَدْر مصر كرائدة عربياً وإفريقياً وإسلامياً، فالأرقام تؤكد أن نسبة القاضيات المصريات تبلغ 0.5%، بواقع 66 قاضية مقابل 16 ألف قاضٍ، لشعب تعداد سكانه 104 ملايين نسمة، وتُمنع المرأة المصرية من اعتلاء منصة مجلس الدولة منذ إنشائه عام 1946، وهو ما يُعرف بالقضاء الإداري، كذلك تُمنع من شغل مناصب في النيابة العامة منذ إنشائها عام 1881، رغم أنها تمثّل أولى درجات القضاء العادي، والغريب أن هذا يحصل في ظل نصوص دستورية صريحة تكفل حق المرأة في التعيين في مختلف الجهات والهيئات القضائية بدون تمييز ضدها، واعتبار التمييز جريمة يعاقب عليها القانون، في حين فاقت بكثير نِسب القاضيات في دول عربية وإفريقية أخرى نظيرتها في مصر، فمثلاً نجدها 38% في غانا، 60% في لبنان، 36% في جنوب إفريقيا، 48% في تونس، 39% في رواندا، و42% في الجزائر...".

وتُنهي الدكتورة أمنية كلامها مؤكدةً أنها رفعت مبادرتها إلى أعلى المستويات في الدولة، وفي كل المنظمات والهيئات النسائية، لكن للأسف هناك صمت مريب وعدم رد بأسباب هذا التمييز ضد الحقوقيات المتفوّقات لشغل مناصب قضائية في مجلس الدولة والنيابة العامة، اللتين تمنعان تعيين النساء بدون سند من الدساتير، وآخرها دستور 2014 الذي كفل صراحة حق المرأة في التعيين في كل المناصب القضائية، وتعهد مجلس الدولة آنذاك بأنه سيتم قبول الخرّيجات في مجلس الدولة، لكن هذه الوعود ذهبت أدراج الرياح، ليس في مجلس الدولة فقط، بل في النيابة العامة أيضاً، رغم أن الدستور المستنير يقر حق المرأة في التعيين في كل المناصب القضائية (المادة 11)، ومبدأ عدم التمييز (المادتان 9 و53)، بالإضافة إلى الاعتماد على الكفاءة كمعيار وحيد للتعيين في الوظائف العامة (المادة 14)، التي هي تكليف وليست تشريفاً لنوع دون غيره، وتلك الحقوق الدستورية التي تتسق مع الاتفاقيات الدولية التي انضمت مصر إليها وصادقت عليها وأصبحت جزءاً من تشريعها الداخلي، بل وتسمو عنه إذا تعارضت معه، وخصوصاً اتفاقية الأمم المتحدة للقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة "السيداو" وغيرها، بحيث يجعل انتهاك هذه الحقوق الأساسية مصر مخلّة بالتزاماتها الدولية، بما لا يليق بها.

نعم لإنصاف المرأة

تُعلن الحقوقية الشهيرة الدكتورة منى ذو الفقار عن تضامنها مع المبادرة قائلةً: "شاركت في لجنة الخمسين لوضع الدستور المصري لعام 2014، وكنت مهتمة كثيراً بصياغة المادة 11 من الدستور، والتي تنص على "أن تكفل الدولة للمرأة حقها في تولّي الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا في الدولة، والتعيين في الجهات والهيئات القضائية بدون تمييز ضدها". وجاءت هذه المادة لتكفل حق المرأة في العمل بمختلف المجالات، إلا أن هناك "تعسفاً" في تطبيق هذه المادة، رغم معاناتنا في صياغتها، بحيث دقّقنا كثيراً في الفواصل وعلامات الترقيم وحروف الجر لئلا يتم التلاعب بهذه المادة".

وتطالب الدكتورة ذو الفقار بإنصاف المرأة في تولي مختلف المناصب القضائية، لأنه لا يوجد مبرر قانوني للتسويف وتضييع الوقت وحرمانها من حقها الدستوري، خاصة في ظل نجاحها في مختلف المناصب القيادية التي تشغلها، بما فيها توليها القضاء، باستثناء القضاء الإداري والنيابة العامة، رغم العدد القليل للعاملات في سلك القضاء، مقارنةً بأعداد القضاة الرجال، لهذا نطالب بالعدل والإنصاف الكامل للمرأة بناءً على الكفاءة فقط وليس أي معيار آخر.

واقع مرير

تُبدي الناشطة النسائية الدكتورة مُزن حسن، مؤسّسة ومديرة "نظرة للدراسات النسوية" دهشتها من هذا الموقف المتعنّت المخالف، ليس للدستور المصري فقط، بل للاتفاقيات الدولية المنصفة للمرأة والرافضة لكل أشكال التمييز ضدها.

وتطالب مزن حسن مختلف المنظمات الحقوقية المحلية والدولية بمساندة مبادرة "المنصة حقها"، لأن الهموم النسائية في العالم كله واحدة، ومن المؤسف أن دولاً ليست بمكانة مصر المرموقة سبقتنا في دعم حقوق المرأة، ولديها أضعاف ما لدينا من قاضيات، ولهذا لا بد من تنسيق وتوحيد الجهود النسائية لتنال المرأة حقها في تولّي كل المناصب القضائية بلا استثناء.

وتختتم مُزن حسن كلامها مسلّطةً الضوء على واقع المرأة في القضاء المصري منذ 22 كانون الثاني/يناير 2003، حين صدر قرار جمهوري بتعيين المستشارة تهاني الجبالي، نائب رئيس المحكمة الدستورية، ضمن هيئة المستشارين في المحكمة الدستورية العليا كأول قاضية مصرية، حتى عام 2007، حيث عُيّنت في ذاك العام 32 قاضية في القضاء العالي، مما أبقى القاضية تهاني صاحبة أعلى منصب قضائي تحتلّه امرأة في مصر، وكان ذلك قراراً سياسياً، بعدما وقّعت مصر على اتفاقية "السيداو" العالمية، التي تنص على إلغاء كل أشكال التمييز ضد المرأة في عام 1980، وجرى التصديق عليها في العام 1981. وحتى النساء اللواتي يُعَيَّنّ في الهيئات القضائية يتم تجاهلهن في الترقيات، إذ كشفت دراسة إحصائية أجراها مركز "نظرة للدراسات النسوية" عام 2017، أن ترقيات النساء في هيئة قضايا الدولة كان صفراً في المئة في السنوات الثلاث الماضية، مما يؤكد أن واقع المرأة مأسوي في مجال القضاء، ويجب تغييره الى الأفضل.

دعم بلا حدود

تؤكد الدكتورة هدى بدران أنها متضامنة قلباً وقالباً مع مبادرة "المنصة حقها"، وقد سبق للاتحاد النسائي المصري والعربي أن استضافها مراراً لعرض مشكلتها، مما يؤكد الوقوف الإيجابي معها ومع مثيلاتها، لأن المشكلة لا تتعلق بالدكتورة أمنية جاد الله وحدها، بل تطاول أجيالاً من الحقوقيات المتميزات الباحثات عن حقوقهن في منصة القضاء مثل الرجال تماماً.

وترفض الدكتورة هدى بدران كل المبررات الصادرة عن مسؤولي مجلس الدولة، الذين يفترض أنهم "حماة الحق" بلا تفرقة بين الرجال والنساء، لكن للأسف يبدو أن الفكر الذكوري لا يزال مهيمناً على مجتمعاتنا العربية، حتى سبقتنا دول كثيرة هي أحدث منا تاريخاً وحضارة، حيث تولت المرأة الفرعونية أعلى المناصب بدون تمييز، ويذكر التاريخ من تولين الحكم وليس القضاء فقط.

تعنت غير مبرر

يقول المستشار محمد سمير، نائب رئيس هيئة النيابة الإدارية والمتحدث الإعلامي باسمها، وأستاذ القانون الدستوري والنُّظم السياسية: "لا شك في أن المرأة الحقوقية المتفوقة في دراستها ستضيف نجاحاً وتميزاً لأي هيئة أو جهة قضائية تعمل فيها، ولهذا من الظلم التعنّت في حقها ومنعها من اعتلاء كل المنصات القضائية، وتغيير ثقافة المجتمع، وتحديد أسباب المشكلة وحشد الرأي العام لحلّها".

ويضيف المستشار محمد سمير قائلاً: "من حيث المبدأ، ليس هناك دستور أو نص شرعي يمنع المرأة من اعتلاء المنصات القضائية، فكيف يُسمح لعضوات هيئة التدريس في كليات الحقوق والشريعة والقانون بتدريس القانون للطلبة والطالبات، ثم يتم التمييز ضد الدارسات وعدم مساواتهن بزملائهن الذين تعلّموا القانون على يد عضوات هيئة التدريس؟!".




CREDITS

تصوير : تصوير - أحمد الشايب