انا هنا انا لبنان انا السلام

السفارة الباكستانية في بيروت, مايا دياب, مروان خوري, أحلام, زياد الرحباني, حفل غنائي, فتحي عبد الوهاب, جومانا بو عيد, منصور الرحباني, جوليا بطرس, ميشال المر, زياد بطرس, فيروز, نضال الأحمدية

08 أكتوبر 2010

... وأطلّت.
بكلّ ما فيها من شموخ وتواضع، وبكلّ ما تحمله من كبرياء وخجل.
حنت رأسها احتراماً وهيبة وحيّت الجمهور وهمست: "سلّملي عليه"، أول أغنية قدّمتها في تلك الليلة الحلم التي أقفلت بسببها شوارع العاصمة بيروت.
وقفة تاريخية سجّلتها في تلك الليلة.
وقفة عزّ وانتصار على كلّ معاركها التي أدخلها فيها الآخرون. فحضر الجميع وشاركوها النصر ووقفوا معها وبجانبها وصفّقوا طويلاً لمجرّد أنها أطلّت.
هي لم تكن حفلة حضرناها وغنّت فيها، بل اختصار للتاريخ والحاضر، وللحرب والسلام، ولجنس البشر الذين سكنوا في وطن النجوم.
ما سمعناه كان أشبه بالهمس رغم أن أكثر من سبعة آلاف وخمسمئة شخص احتشدوا في الصالة، وجميعهم من كبار الشخصيات إلى سائقي التاكسي والعمّال وربّات المنازل وصبايا العشرين، أتوا ليسمعوا صوتها الذي لا يعلو فوقه أي صوت. فكانوا لا يأتمرون إلاّ بإشارة منها ولا يتنهّدون إلاّ بعد إذن منها، ولا يصفّقون إلاّ لغنائها وصمتها.
نعم صمتها، لأن ذلك الجمهور العاشق والمحبّ الذي حضر من كل مناطق لبنان ومن الأردن ومصر وسوريا وبعض دول الخليج ودول الاغتراب، لم يكن يصفّق إلاّ بعد أن تُنهي جملة، ويتوقف الجميع في وقت واحد وكأنهم "أوركسترا" مدرّبة، بمجرّد أن تبدأ جملة أخرى مخافة أن يفوتهم شيء من همسها وروعة غنائها.
عندما يصفقون ويصرخون تخال نفسك في إحدى مظاهرات شوارع بيروت. وعندما يصمتون لتغنّي هي، تُصبح في مكان مقدّس، لا صوت فيه إلاّ صوتها وهمسها.
"صوتها" عاد إلى بيروت ليُعيد إليها مجدها وليُعلن أن لبنان وطن جبران وعاصي وزكي ناصيف، بعيدٌ جداً عن قرع طبول الحرب، بل يعيش في زمن السلام. فهكذا هو الحال عندما تغنّي هي، ضمير الفن ووجدان العمالقة.
من الصعب فعلاً أن تكتب لتصف غناءها أو تستعرض مجريات حفلة لها، لأن الكلام يصمت عندما تغني. متى سمعتها، لا بدّ أن تكون قد انتقلت إلى عالم آخر لا يكون فيه الغناء مجرّد غناء، بل صلاة ربما وأجواء خشوع وتأمّل رغم الهتاف والتصفيق والصراخ. وبمجرّد أن تنتهي وصلتها وتعود أنتَ إلى كوكب الأرض، ستبقى منبهراً لساعات وستنسى كلّ شيء، باستثناء بعض الذكريات والهمسات.
لأنك لن تتذكر سوى أنّك عشت لحظات رائعة وغير عادية اختلجت خلالها كلّ مشاعرك المتناقضة. ولن تتذكر سوى أنك ضحكت وبكيت وتنهّدت وصرخت الآه تلو الآه وصفّقت وصمت واستمعت... بكلّ جوارحك، إلى صوت هو الوحيد القادر على فتح فجوة أمل وسط جدار الحزن، والوحيد الذي يستطيع أن يقول "أنا هنا، أنا لبنان وأنا السلام"، والوحيد الذي يُمكن له ملء قلوبنا بالدفء والطمأنينة في أيام الظلمة والإنكسار.
وكعادتها، تُسعد قلوب محبّيها على مدى فقرات وليس دفعة واحدة. كنت أسأل نفسي سابقاً "لماذا"؟ لأني لم أكن أستوعب لماذا تطلّ على المسرح وتنسحب لتعود مجدداً بعد استراحة.
إلى أن حضرتها للمرة الأولى وفهمت.
قد أعجز عن الشرح ربما، لكن ما لمسته أن هذه الهيبة المُسيطرة على كلّ من حولها، وذلك السحر الغريب الذي يفوح كعطر الربيع ونسيم الصيف، هو دون شك لا يشبه إلاّ فيروز.
وكما أطلّت غادرت، بعزّتها وشموخها وتواضعها وكبريائها وخجلها. فوقف كلّ من في الصالة، أيضاً من الكبير إلى الصغير وكانت زوبعة من الهتاف والتصفيق.
ثم عادت وغنّت مجدداً لكن قليلاً، فهي تعرف أننا عشنا معها لحظات تُنسى ولا تُنسى، ومن الصعب استرجاعها بكلمات وأوصاف ومفردات، بل فقط بهمسات وتنهيدات نبعت من القلب لتبقى فيه دون أن تفارقه مجدداً.
ثم رفعت يديها ولوّحت وغادرت...
تلك كانت حفلة السيدة فيروز بعد طول غياب وانتظار ليل السابع من تشرين الأول/ أوكتوبر في "البيال" وسط العاصمة اللبنانية... بيروت.

زياد حضر لحناً وغاب عزفاً
غاب الفنان زياد الرحباني نجل السيدة فيروز عن الحفل، بينما توقّع الجميع أن يرافقها عزفاً على آلة البيانو. لكنه لم يكن موجوداً، وحلّ مكانه العازف والموزّع الموسيقي ميشال فاضل الذي سبق وأن شارك في حفلات لفيروز. بعض المصادر ذكرت أن سبب غياب هو أنه مُرهق، وهو السبب ذاته الذي جعله يُلغي حفله المقرر في مهرجانات "بيت الدين" في موسم الصيف المنصرم، وليس لأن هناك خلافات مع والدته كما روّج البعض بسبب الخلاف الواقع بين فيروز وورثة منصور الرحباني. هذا إضافة إلى أن زياد لا يشارك في الحفل إلا من خلال شروطه وهي لم تكن متوفرة حالياً، وأبرزها الوقت الطويل للتحضير والبروفات. لكن زياد كان حاضراً وبقوّة من خلال الوصلة الأولى لفيروز التي قدمت خلالها عدداً كبيراً من أغنياتها التي ألّفها "العبقري" زياد، إضافة إلى أغنيات ألبومها الجديد الذي صدر بعنوان "إيه في أمل" وهو موقّع باسم زياد. أما باقي الأغنيات فكانت أغلبها من فترة الستينات وللأخوين رحباني مثل "عالطاحونة" و"يا ريت" و"أمي نامت ع بكّير" و"سطيحاتك حمرا" وغيرها. أما الختام فكان مع "بكرا برجع بوقف معكن". ووسط كلّ هذا، لا بدّ من ملاحظة حرفية وإبداع الفرقة المصاحبة للسيدة فيروز والتي تألّفت من 82 عازماً وعشرة مغنين (كورس). كانوا يعزفون بشكل رائع ومميز ويُسمّى في لغة الموسيقى "العزف النظيف"، وكأنك تستمع إلى تسجيل استوديو وليس إلى عزف حيّ مباشر.

جمهور غلب عليه طابع الشباب
كان ملفتاً جداً أن القسم الأكبر من الحضور كان من الشبان والشابات الذين قد يشير مظهرهم وطريقة لباسهم والأقراط في آذانهم، إلى أنهم لا يسمعون سوى موسيقى "الروك" الصاخبة وأنهم لا يعرفون أن هناك مطربة اسمها فيروز. وهذا أكبر دليل قادر على تكذيب كلّ من يدّعي أن الجيل الجديد لا يكترث إلاّ للرقص وضوضاء الموسيقى العالية، من منطلق تمرير وتبرير ما يقدّمونه من إفلاس فني للجمهور. ودليل أيضاً على أن رقيّ الفن لا يعرف حدوداً ولا هو مخصص لكبار السنّ أو قسم محدد من الأجيال. بل انه فقط يصل إلى قلوب الكلّ وذاكرتهم نقياً كما الهواء وواضحاً مُشعّاً كما هي أشعّة الشمس. ولهذا كان ذلك منظر الجمهور المُخيف والجميل في آن، والذي تنوّع بين الفئات والأعمار والطبقات وأيضاً الجنسيات.

شخصيات حضرت
وجوه معروفة كثيرة كانت حاضرة في حفل السيدة فيروز، وأبرزها النجم المصري عادل إمام والوزيران فادي عبود وجبران باسيل والمطربة جوليا بطرس وشقيقها الملحن زياد، ، والممثل فتحي عبد الوهاب والمطربة أحلام والإعلاميات يمنى شري ونضال الأحمدية وجومانا بو عيد، والملحن مروان خوري ومايا دياب وتركي شبانة وأحمد ناقرو من روتانا وميشال المرّ رئيس مجلس إدارة "ام تي في" وشخصيات أخرى كثيرة فضلاً عن حشد إعلامي غير مسبوق من ممثلي مختلف وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية.

صدور ألبوم فيروز ليلة الحفلة التي لم يُعلن عنها
هي طبعاً المرة الأولى التي نرى فيها حفلاً تنفد فيه البطاقات قبل أيام دون أن يتمّ الإعلان عنه حتى. بل مجرّد أن ذّكر على الصفحة الخاصة بالسيدة فيروز على موقع "فايس بوك" أنها ستحيي حفلتين في "البيال" حتى توافد الناس لشراء البطاقات التي بيعت بالكامل وللحفلتين. والحال ذاته ينطبق على الألبوم الجديد الذي طال انتظاره، وقد صدر في اليوم ذاته للحفلة الأولى وخُصصت له نقطة بيع في مركز "البيال" في الوقت ذاته لحفلها. أما الألبوم فهو يحمل عنوان "إيه في أمل" ويحمل توقيع زياد الرحباني كملحّن ومؤلّف كل أغنياته باستثناء "بكتب اساميهن" من ألحان الأخوين رحباني، و"الأرض لكم" (كلمات جبران خليل جبران)، والأغنيات هي:
قال قايل"، "قصّة زغيرة كتير"، "كلّ ما الحكي"، "كبيرة المزحة هاي"، "الله كبير"، "ما شاورت حالي"، "إيه في أمل"، "بكتب اساميهن"، "الأرض لكم"، "ديار بكر" (موسيقى)"، "تلّ الزعتر" (موسيقى)، و"البنت الشلبيّة" (تراث شعبي) التي سبق أن غنّتها فيروز وتُعيدها اليوم مع توزيع موسيقي لزياد.