الفنان التشكيلي والموسيقي وكاتب السيناريو أيمن الدقر: المرأة سيدة القصيدة والشعر والفن

دمشق - آمنة بدر الدين الحلبي 04 يونيو 2021

في أعماله تسابيح الإنسانية، ومن كل أيقونة تصوغها أنامله، تدق أجراس الفن لتهزَّ دقائق الأثير معلنةً بدء الحياة في معبد الجمال. أجراسٌ سبكتها الفرادة في عالم فني وأدبي وموسيقي، ورسمت أجمل قصائد في عمره الممتد على معابر الحياة بكل ألوانها وأشكالها، وعلى همس نقشه تصدح تراتيل الشاعر نزار قباني معلنةً العشق الشامي لكل ذرة تراب تفوح منها رائحة الياسمين، ولكل بناء قديم تعرّش على حيطانه كروم العنب في الحارات الدمشقية القديمة. الفنان السوري التشكيلي العالمي أيمن الدقر هو خريج كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وحائز جوائز عدة في تصميم الأوسمة في سورية، وكان رئيساً للمكتب الفني لدورة حوض البحر الأبيض المتوسط العاشرة التي أقيمت عام 1987 في اللاذقية، وقُلِّد منصب نقيب الفنانين التشكيليين في الجمهورية العربية السورية. "لها" زارت الدقر في الاستديو الخاص به، وجالت بعدستها بين ردهاته لتغوص في عالم هذا الفنان متعدد المواهب.


- في عالم الفوضى، ما الذي يشغل هذا الفكر المشبع بالثقافة المتعددة والمتنوعة؟

يشغله الوجع والألم الذي استوطن في القلوب منذ أن بدأت الفوضى تعمّ سورية، بحيث فقدت توازني لفترة طويلة، وهجرت الفن، ولم تعد أناملي تعتلي فرشاة الجمال، وتوقفت كلياً عن الإنتاج الفني.

- كم استمرت تلك الفترة؟

أُصبتُ بصدمة استفقتُ منها بعد عام، ولم يعد في إمكاني استخدام الألوان، لأنني فقدت البهجة في الحياة بعد ما رأت عيناي، ولم أكن أصدّق أن ما يحصل على أرض الواقع حقيقي.

- بمَ تشعر حين تُمسك بالفرشاة وتبدأ برسم اللوحة؟

ثمة صورة للوحة تكون مرتسمة في ذهني قبل أن أبدأ برسمها، وبعد الانتهاء من الرسم تعدّل اللوحة نفسها بنفسها، لكن أحياناً تبدو اللوحة قريبة من الصورة الذهنية المُسبقة فأسمع صداها، وأكون راضياً عنها تمام الرضا، وفي أحيان أخرى أتفاجأ بما أنتجتْ، ولا أرضى عما قدّمت. ورغم ذلك، تنال لوحاتي إعجاب الكثيرين.

- ما سبب هذا الإعجاب في رأيك؟

الناس لا يعرفون شيئاً عن الصورة الذهنية المرسومة في ذاكرتي، وبالتالي لا يستطيعون الغوص في مجاهل اللوحة لاكتشاف ما خفي منها.

- تلك الصورة الذهنية التي لم يستطع المتلقي الغوص فيها، هل سمحت للمرأة بالتواجد في لوحاتك؟

المرأة هي سيدة القصيدة وسيدة الشعر وسيدة الفن، لذلك وُجدت في لوحاتي وفي حياتي، وبما أن معظم أعمالي التي تشكّلت باللونين الأبيض والأسود هي قصائد شعر للشاعر نزار قباني، فمن الطبيعي أن تبرز المرأة فيها.

- ظهرت المرأة في لوحاتك بأدق تفاصيلها الأنثوية، ما السبب؟

كفنان تشكيلي، انطلقت من ثقافتي ومن إيماني القوي بالمرأة وبكل تفاصيلها الأنثوية، فالمرأة لم تغب عن لوحاتي، سواء اللوحات السابقة المفعمة بالألوان، أو الحالية بالأبيض والأسود، وبالتالي فالأفكار التي أؤمن بها تنعكس على لوحاتي، لأن اللوحة ليست وسيلة إيضاح بمقدار ما هي مضمون وقيمة جمالية، ولذلك أصبُّ فكري الثقافي في اللوحة.

- هناك فنانون يهتمون بالجمال المطلق، لماذا برأيك؟

تتعدّد الآراء حول الفن التشكيلي، فهناك من يتحدث عن الجمال المطلق، وآخر يتحدث عن التكوين، أما أنا فأرى أن اللوحة تتشكل من قيمة فكرية وجمالية مطلقة، وبالتالي القيمة الفكرية لا تكفي وحدها إن لم تتجسّد في الواقع بيد ماهرة تضفي عليها جمالاً.

- تبرز خطوط لوحاتك باللون الأسود، ويُشرق اللون الذهبي بين أركانها... ما سر هذا التناغم؟

هذا صحيح، فاللون الذهبي يرمز إلى الأمل المنشود، والأسود إلى القتامة، ولكنني لا أرى الحياة قاتمة بهذا الشكل، بل أنظر إليها بتفاؤل، ولذلك يبدو اللون الذهبي مشرقاً في لوحاتي ويضفي عليها جمالاً أخّاذاً، كما أنه يعطيني أملاً بغد أفضل.

- كل تفصيل في اللوحة يفوح منه عبق البيت الشامي، بأي لغة نترجم هذا العشق المصبوب في اللوحة؟

أنا دمشقي الأصل وجذوري تُحدّث عني، ومن الطبيعي أن يكون عشقي واضحاً وصريحاً لدمشق، والفنان الذي لا يتحسّس تفاصيل البيئة التي يعيش فيها، لا يمتّ الى الفن بصلة. وقد شاهدت أعمالاً لفنانين كثر تنتمي الى المدارس الأوروبية، ورغم جمالها لم تقنعني، بحجة تلمّس الأجواء المعاصرة، فمن لا يتحسّس البيئة القريبة لا يمكنه تلمّس البيئة البعيدة بكل ما فيها. وبالتالي العالمية تأتي من المحلية وليس العكس.

- تسرقك قصائد الشاعر الدمشقي نزار قباني فتترجمها أيقونات مميزة، وخاصة القصيدة الشامية التي يقول مطلعها:

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ إنّي أحبُّ وبعـضُ الحـبِّ ذبّاحُ؟

يشرّفني أن أتشارك مع الشاعر نزار قباني عشق دمشق وتكريم المرأة كإنسان، لأنني أقرأ قصائده ليس كما يقرأها الآخرون، وعلى سبيل المثال لا الحصر حين يقول: زيديني عشقاً زيديني يا أحلى نوبات جنوني

وضعيني مشطاً عاجياً في عتمة شعرك وانسيني

فتلك فلسفة خاصة بالمرأة، وعليّ تحليلها وترجمتها بأسلوبي المميز، حتى أستطيع قراءة المشط العاجي في عتمة شعرها. وما يرمي إليه نزار، حين يرجو المرأة أن تزيده عشقاً وتضعه مشطاً عاجياً في عتمة شعرها، هو الاحتفاظ برجولته، لأن "العاج" دلالة على صفة الرجل الكريم والنبيل، أي السالب والموجب، المرأة والرجل، ولذلك تتطلب قراءة شعر نزار وعياً ثقافياً وفكراً فلسفياً، وعدم اعتبار قصائده الشعرية السهل الممتنع، بل الممتنع جداً.


- وهل استلهمت من العناصر الدمشقية؟

كل من يُمعن النظر في لوحاتي، يجد فيها العناصر الدمشقية التي كان يردّدها دائماً نزار قباني في قصائده، لأنه كان يرسم قصائده بالكلمات. وكفنان تشكيلي، عليّ تنفيذ تلك التفاصيل الصغيرة بدقة، فحين أرسم أشعر أنني في حضرة مادة ثرية استطعت الغوص بين ثناياها، ونبشت المعنى الحقيقي لكل تفصيل فيها.

- ماذا علّمتك دمشق؟

علّمتني دمشق الحب والانتماء، وزادتني ثقافة ومعرفة، وسمحت لي الظروف العائلية بأن أتعلّم أكثر، وأثقّف نفسي أكثر، لأن والدي حقوقي مثقف، ووالدتي امرأة عظيمة وأستاذة متخصصة في شؤون الشرق القديم، فكيف لا أتغذّى علماً ومكتبة المنزل كانت تغصّ بمختلف كتب الأدب والثقافة والفنون؟!

- قلت إن قصيدة نزار قباني الشعرية تحرّضك على الرسم، كيف؟

كلما قرأت قصيدة لنزار اكتشف فيها معاني جديدة وجميلة، وإذا كانت القصيدة مؤلفة من ثلاثين بيتاً فهي تحتاج إلى ثلاثمئة لوحة، لأن قصائد نزار تغصّ بالصور البلاغية.

- ما كل هذا العشق للغة العربية؟

عشقت اللغة العربية منذ نعومة أحلامي، وكنت أواظب على القراءة وأتعمّق في المفردات العربية، حتى لهجتي العامية تتجلّى فيها بعض الكلمات الفصحى بشكل لا إرادي.

- شاركتَ في معارض محلية وعربية وعالمية، أي المشاركات كانت الأقرب إليك؟

شاركت عام 1983 في مهرجان الشباب العربي في الرياض، وكنت الفنان العربي الوحيد الذي بيعت لوحاته، علماً أن مشاركتي في هذا المهرجان لم تكن بهدف بيع لوحاتي، كما أقمتُ معرضاً في دبي في صالة موزار عام 1998، وأنا أفتخر كثيراً بهاتين المشاركتين العربيتين، إضافة الى معارض كثيرة شاركتْ فيه لوحاتي فقط وغبتُ أنا عنها.

- أقامت جمعية "شموع السلام" بالتعاون مع وزارة الثقافة والكثير من التشكيليين معرضاً فنياً وندوة بعنوان "تحية إلى أيمن الدقر"، ماذا يعني لك هذا التكريم؟

أعتبره أجمل وأرقى تكريم من جمعية أهلية، فهو يتميز بصدقية عالية، وأفضل من أي تكريم رسمي، وأتمنى أن يُكرّم كل فنان جدير بالتكريم وهو على قيد الحياة.

- لم تكتفِ بالفن التشكيلي ودخلت إلى الشاشة الزرقاء وكتبت سيناريو مسلسل "حارة المشرقة"، ما كل هذا الشغف بالفن؟

الفن لا يتجزأ، لكن قد يمتلك فنان أكثر من أداة للتعبير في الفن، وبالتالي هذا كله يصبُّ في بوتقة الفكر والعطاء من الرسم إلى الموسيقى إلى الكتابة، والذي يعود الى ثقافة البيئة التي ترعرعت فيها، ولديّ متسع من الوقت أسخّره لخدمة مجتمعي ووطني، كوني أحرص على تنظيم وقتي.

- في مسلسل "حارة المشرقة" قدّمت المرأة الشامية بأسلوب مغاير للبيئة الشامية أيام الحرب، لإبراز التشوّهات التي شابت المجتمع، فما السبب؟

هذا صحيح، ففي كل مجتمع نجد المرأة الفاضلة ونقيضتها، ومهما تحدّثت عن المرأة الشامية الفاضلة، يجب عليّ إبراز الوجه الآخر للمجتمع، وتسليط الضوء على الفساد بأنواعه، الذي عشّش في المجتمع في تلك الفترة العصيبة. ولم أكتفِ بكتابة السيناريو، بل لحّنت شارة المسلسل، وهي من كلمات الشاعر حسين حمزة رحمه الله، وتلك الأغنية تعود الى عام 1996 حين شاركت في مهرجان الأغنية العربية السورية.

- عزفت على العود والكمان وتركت بصمة في سماء التلحين من خلال مسرحية "سلطان بالزور" من تأليفك وإخراجك، فماذا تتضمن؟

تتضمن المسرحية حالة نقدية معينة أخذتها من قصة ألف "ليلة وليلة"، وهي عبارة عن مملكة مات ملكها، وكي لا تختلف الرعية في اختيار الملك، قرّر أفرادها تنصيب أول غريب يدخل المملكة ملكاً عليها، وكان الغريب في الواقع لصّاً هارباً من سجن قرية أخرى. وخضت من خلال هذه المسرحية تجربتي الأولى في التأليف، وكنت لا أزال طالباً في كلية الفنون الجميلة ، كما لحّنت كل أغاني المسرحية، وكان العزف مباشرةً على المسرح، بقيادة عبد الهادي بقدونس رئيس الفرقة الموسيقية.

- هل ترى أن الدراما السورية عزّزت دور المرأة ورفعت من شأنها؟

إلى حد ما، لكنني لست مع مسلسلات البيئة الشامية، لأنها في معظمها تتناول قصصاً من نسج الخيال ولا تمتّ إلى الواقع بصلة. فدمشق في تلك الفترة لم تكن عبارة عن بائع "مسبّحة" أو حلاّق أو ما شابه، بل كانت تغصّ بالمثقفين والمفكّرين والمتعلّمين، كما كان فيها معهد للحقوق، ومدرسة لتعليم الطب.

- وهل السبب أن دمشق تفتقر إلى كتّاب سيناريو جيد؟

نعم، فاليوم لا نجد في الساحة إلاّ الكاتبين حسن م يوسف ونجيب نصير، وهما في رأيي أفضل كاتبين، وإن وُجد كتّاب سيناريو جيدون، فشركات الإنتاج تبخسهم حقّهم، ولا تعطي نصوصهم القيمة المادية المستحقّة، ولذلك أحجم البعض الكتّاب عن الكتابة، وبقيت غالبية السيناريوهات حبيسة الأدراج.

- ما جديد الفنان أيمن الدقر؟

أُحضّر لمسلسل جديد بعنوان "لعنة الأنا"، وهو ممتلئ بالإسقاطات السياسية، ويحكي عن الأنانية الإنسانية وما يتمخض عنها من سلبيات في المجتمع الشامي، ومنها أنانية الرجل وعدم اكتراثه للمرأة، وتضييعه معظم أوقاته خارج المنزل وبعيداً من أسرته للبحث عن المال والشهرة والسلطة.

- عُيّنتَ في منصب نقيب الفنانين التشكيليين في الجمهورية العربية السورية عام 1998، كيف تصف الحركة التشكيلية الشبابية اليوم في ظل الوضع الراهن؟

الحركة الشبابية نشطة، لكن بسبب افتقارنا إلى نقاد تشكيليين حقيقيين يتقنون لغة الفن، اختلط الغث بالسمين، حتى أصبحت الحركة الفنية مثل الحركة الشعرية، أي الكل شاعر والكل فنان، وهذا ناجم عن ركاكة الثقافة المجتمعية في فترة الحرب.

- من أهم أعمالك التوثيقية "فلسطين الأمس واليوم وغداً"، كيف جمعت تلك الوثائق وقدّمتها في المعرض؟

جمعت في هذا المعرض وثائق فلسطينية من الأرشيفين البريطاني والتركي، ومن مجلات وجرائد مختلفة، ووحّدت قياسات الوسائط بعد معالجتها على الكمبيوتر من خلال برنامج "الفوتو شوب"، ورسمت خرائط لكل المحافظات الفلسطينية، وجسّدت المعارك التي دارت على أرضها، حتى أصبحت الخريطة تُغني عن قراءة ألف صفحة، والمركز الفلسطيني لا يملك مثل تلك الوسائط.

- الفن غذاء الروح، لكن المدارس تقصّر تجاه الطلاب الموهوبين، فما السبب؟

هذا التقصير له علاقة بثقافة المعلّمين، وهم جزء من المجتمع، فما زالت حصة الفن تُهمَّش لصالح حصة الرياضيات، نتيجة الجهل بالتأثير الإيجابي لمادة الفنون في العملية التربوية، ودورها المهم في تهذيب الروح الإنسانية.

- لونان متضادان تربّعا على عرش السلطة الرابعة في مجلة "أبيض وأسود" الأسبوعية التي ترأس تحريرها، ما الذي أخذك الى مهنة المتاعب؟

أهوى الصحافة منذ كنت طالباً في الثانوية العامة، وكتبت مقالات في أكثر من مجلة وجريدة محلية وعربية، وهذا شجّعني على تأسيس مجلة أسبوعية بعنوان "أبيض وأسود" مع كمال تركماني في عام 2002، لكنها توقفت عن الصدور عام 2011 بسبب الحرب، وكنت أنا رئيسها ومدير تحريرها، كما كنّا نملك دار نشر وأنا أيضاً مديرها، وكانت المجلة وطنية بامتياز.

- بعد مسيرة طويلة، ما الرسالة التي توجّهها الى المرأة؟

كوني مؤمنة بنفسك ذاتك، واعملي من أجلها أولاً، لأنك السبب في عدم إنصافك، لا الرجل وحده، لاعتبارك بعض الأمور من المسلّمات.