3 نساء ليبيات يتحدثن عن مشاعرهن لحظة عودتهن لديارهن بعد سنوات من النزوح

ملك بوزيان (اللجنة الدولية للصليب الأحمر) 07 يونيو 2022

عقب اندلاع النزاع في ليبيا عام 2011، أُجبرت آلاف العائلات في تاورغاء الواقعة شمال غربي البلاد على النزوح لسنوات عديدة. ومع توقف العمليات العسكرية، بدأ عدد متزايد من تلك العائلات العودة إلى ديارها، لتعاين آثار الفظائع التي خلفها النزاع ماثلة أمامها، تنطق بما شهدته هذه المناطق من أهوال. قدرة غالبية العائدين على التعافي هي شد معقدة, فالمنازل إما سويت بالأرض أو دُمّرت بعض أجزائهاجزئيا، ومرافق البنية التحتية والخدمات متدهورة، فضلًا عن وضع اجتماعي-واقتصادي هش.

ألقت ثلاث نساء ليبيات على مسامعنا قصصهن، ووصفن المشاعر التي اعترتهن فور عودتهن إلى مدينة تاورغاء مسقط رأسهن بعد سنوات من النزوح، وما رأينه من آثار النزاع. وكانت قصصًا تموج بمشاعر مختلطة جارفة.

في 2011، كانت كل من مريم، عايدة وفاطمة، من بين آلاف سكان تاورغاء الذين نزوحوا لسنوات إثر اندلاع العنف في منطقتهن . عادت المعلمات المدرسات الثلاث أخيرًا إلى الديار. ورغم أن لكل منهن رحلة نزوح مختلفة، فما يجمع بينهن هو مشاعر الحزن والألم التي صحبتهن طيلة هذه المحنة. وعند العودة اعتصر الألم قلوب ثلاثتهن، فالديار لم تعد كما كانت من قبل.

فقدت تاورغاء نحو 95% من سكانها منذ 2011. ولا تزال آثار الندوب التي خلفها عقد كامل من النزاع ظاهرة في جنبات المدينة؛ تُرى في ثقوب الرصاصات التي اخترقت الجدران الخرسانية واستقرت بها، وهياكل السيارات المتفحمة المتناثرة على جوانب الطرق، والشوارع الخالية التي كانت يومًا مسرح أحداث ساخنة. مشاهد تمثل اليوم تذكارًا ذكرى حيًةا ينطق تنطق بهول الفظائع التي وقعت هنا. في شارع صغير، حيث يشق جرس مدرسة قريبة صمت صباح شتوي مشمس.


عايدة: مشاعر مختلطة حول العودة إلى الديار

تقول عايدة التي تعمل مدرّسة في مدرسة القدس المحلية: "عندما عدت إلى منزلي عام 2019، اجتاحني مزيج من المشاعر المتناقضة، كان عدد العائدين قليلًا حينذاك. بدأت الحياة تدب في أوصال المدينة من جديد مع عودة النازحين إليها، ولكن مظاهر الدمار والخراب كانت تفرض على المدينة أجواء حزن وكآبة".

يذكر إحصاء لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين أن نحو 7,000 من سكان المدينة التي كان تعدادها يبلغ 40,000 شخص عادوا بحلول أيار/مايو 2021. ومن بين هؤلاء، يعيش كثيرون مع أقاربهم، في حين يعيش آخرون في منازلهم التي أُصلحت جزئيًا أو في فصول مدرسة حُوّلت إلى مركز إيواء لاستضافة الأُسر التي ليس لها مأوى.

تتذكر عايدة لحظة وصولها إلى المنزل قائلة: "عندما عدت ورأيت منزلي المحترق، ارتميت على الأرض كي أشعر بدفء كنف منزلي."

ظلت طيلة الأسابيع التالية تنتظر ظهور أي علامات تبشر بعودة الحياة في الحي الذي كانت تقطنه. وقالت: "بينما كنت منهمكة في تنظيف المنزل في يوم من الأيام، سمعت طرقًا في منزل قريب. بدا أن أحدهم كان يشرع في إصلاح منزله. ساقتني قدماي للخارج من فرط الحماس وتتبعت مصدر الصوت، وكم كانت سعادتي عندما وقعت عيناي على جيراني، فهرولت لأحتضنهم".


عاد سكان تاورغاء إليها بعد النزوح ليجدوا أن خدمات الكهرباء وشبكات المياه والغاز والنقل وجميع المرافق الأخرى متعطلة، ولا سيما مرافق الرعاية الصحية والمياه.

عمل الناس بجد من أجل استعادة بعض الخدمات الأساسية، في منازلهم على الأقل. فانكبوا على حفر الآبار وتوصيل خطوط الكهرباء، وأعادوا بناء منازلهم، غرفة غرفة. تزرع عايدة الخضراوات والكزبرة والبازلاء في حديقة منزلها.


فاطمة: لقد عدت إلى الدار! أخيرًا يمكنني أن أهنأ بنوم هادئ

تبتسم فاطمة وهي جالسة بجوار عايدة بينما تروي الأخيرة قصة عودتها. وهما تعرفان بعضهما من المدرسة التي تدرّسان فيها. غير أن ابتسامة فاطمة لم تكن تعبر عمّا تقوله نظرة عينيها. فنظرتها الشاردة تخفي وراءها جبالًا من الذكريات الحزينة. بعد عودتها إلى تاورغاء، توفيت ابنتها المعاقة ذات العشر سنوات بسبب البرد القارس الذي عايشته فاطمة وأسرتها أثناء مكثهم مع أقارب لهم في المدينة، إذ كان منزلهم بلا نوافذ ولا كهرباء.

تقول فاطمة التي لا يزال سقف بيتها المحترق تغطيه طبقة من السخام الأسود: "يعتصر الحزن قلبي كلما تذكرت ابنتي، لكنني أحمد الله على أنها ماتت في مسقط رأسها، ولأن عينيها رأت تاورغاء على الأقل ولو لأيام معدودات".

وتُضيف قائلة: "عندما عدت إلى منزلي أخيرًا، استطعت أن أهنأ بنوم هادئ لم أنعم به منذ وقت طويل، وكأنني لم أهنأ يومًا بنوم طيلة السنوات التي ابتعدت فيها عن منزلي. كان هناك حمل ثقيل يجثم على قلوبنا ولم يُرفع إلا عندما عدنا".

مريم: لم يكن هناك أبواب أو نوافذ ولكنني مع ذلك شعرت بالأمان

مريم هي الأخرى مدرّسة في المدرسة ذاتها، نزحت خمس مرات خلال ثماني سنوات. بالنسبة لمريم، لا شيء أكثر أهمية من الشعور بالاستقرار والأمان.

وهذا ما شعرَت به عندما وطأت قدماها عتبة منزلها المدمر في تاورغاء في 2019. تروي قائلة: "لم يكن هناك أبواب أو نوافذ، ولكنني مع ذلك شعرت بالأمان الذي كنت أفتقده." كانت مريم حاملًا عندما فرّت من تاورغاء عام 2011، تركت كل شيء خلفها باستثناء حقيبة يدها وشهادات ميلاد أطفالها.

كانت تظن – شأنها شأن كثير من السكان آنذاك – أنها ستعود في غضون بضعة أسابيع أو أشهر على الأكثر. بيد أن مريم تنقلت بين خمس مدن، ورأت صور منزلها المدمَّر في نشرة الأخبار على التلفاز.

تقول مريم وهي تقف أمام البناية التي كانت تؤوي منزلها وقد أصبحت مجرد أطلال : "عرفت أنها البناية التي كنت أسكن فيها عندما رأيت سيارة ابني الأصغر اللعبة بلونها الأحمر المميز في الشرفة. هنا كان المطبخ. هل ترى ذلك المكان؟ هناك كان الأطفال يلعبون".


سوق الاثنين الصاخب

بعد احتدام العنف في عام 2011، أُجبرت آلاف العائلات التي تسكن تاورغاء على النزوح، فترك الناس ديارهم وممتلكاتهم وأراضيهم وحياتهم ليبدؤوا رحلة نزوح طويلة ومضنية لا تزال مستمرة بالنسبة للكثيرين.

يوضح أسامة المبروك من اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) قائلًا: "بالرغم من توقف العمليات العدائية، فالناس الذين عادوا مؤخرًا هم غالبًا الأشد ضعفًا، لا سيما النساء وكبار السن."يُذكر أن اللجنة الدولية أجرت مؤخرًا عدة تقييمات للاحتياجات في المدينة ودعمت تعزيز بعض المرافق الحيوية، منها المدرسة التي تعمل بها فاطمة وعايدة . إذ تبرعت المنظمة بأثاث من قبيل الخزانات والكراسي والطاولات.

الاحتياجات الإنسانية في تاورغاء متنوعة ومتشابكة وهائلة. يقول غاجيك إيساجانيان، وهو أيضًا فرد في فريق اللجنة الدولية: "كلما جئنا إلى هنا لنجري تقييمًا نكتشف مزيدًا من التدهور في وضع الاحتياجات."

أثّرت سنوات انعدام الاستقرار والقتال تأثيرًا شديدًا على النسيج الاجتماعي-الاقتصادي في عموم ليبيا؛ وفي حين أن النازحين والعائدين هم الأشد ضعفًا، ليبيين كانوا أو غير ليبيين، تظل أنشطة الحياة اليومية صعبة بالنسبة للجميع، في ظل تعثر اقتصاد البلاد.

يكافح الكثير من الليبيين وخاصة العائدون من أجل لملمة شتات حياتهم والبدء من جديد، وسط أنقاض المنازل والأحياء المتضررة أو المدمَّرة، وعلى خلفية اقتصاد متدهور أنهكه النزاع.


ومن المشاكل التي تعلم كل من فاطمة وعايدة أبعادها جيدًا قلة فرص العمل. يضيف أسامة: "تمثل البطالة عامل مثبطًا يرغِّب الشباب عن العودة".

"عدم وجود فرص عمل يعني عدم وجود حياة،" هذا ما أكدته كل من فاطمة وعايدة وهما تستحضران حال المدينة المفعمة بالحياة والنشاط الاجتماعي قبل 2011، ولا سيما سوق الاثنين بصخبه ونشاطه اللذَين لا يهدآن، حيث الأكشاك التي تبيع السلال التقليدية المنسوجة من سعف النخيل، والحُصُر والمشغولات اليدوية ذات الألوان الجذابة. تقول عايدة: "عندما أذهب إلى السوق اليوم أسترجع ذكريات حياتي السابقة".