فيينا: الوجهة المثالية لنهاية العام

فيينا- جولي صليبا 28 ديسمبر 2022

مع اقتراب نهاية العام وبداية سنة جديدة، نبحث جميعاً عن وجهة مميزة نقصدها للتسوّق وقضاء أوقات ممتعة خلال فترة العطلات. ومن منّا لا يحلم بزيارة فيينا، تلك المدينة النمسوية التي تذهل زوّارها بالتقاليد الإمبراطورية والذوق الحضري النابض بالحياة والفنون الراقية، والمشهد الموسيقي الكلاسيكي والمقاهي الشهيرة؟هناك الكثير من التجارب المميزة التي يمكن الاستمتاع بها في فيينا مع وجود الكثير من المتاحف، والمواقع التراثية، والمتنزّهات الخضراء، وأحياء التسوق الحصرية... لذا، وافقت فوراً على الدعوة التي تلقيتها من هيئة السياحة الوطنية في فيينا لزيارة العاصمة النمسوية واكتشاف أروع ما فيها والاستمتاع بأسواقها المميزة الخاصة باحتفالات نهاية العام.


وصلتُ إلى مطار العاصمة النمسوية فيينا قرابة الظهر، وكانت السيارة في انتظاري لتقلّني فوراً إلى فندق "زاخر" الواقع في قلب المدينة، وتحديداً في منطقة أنرشتات على بُعد خطوات قليلة من متحف ألبرتينا وقبالة دار الأوبرا ومباشرةً بجانب شارع كارنتنير شتراسه. وتبعد محطة مترو كارلبلاتس التي توفّر محطات ربط إلى كل أنحاء مدينة فيينا مسافة دقيقتين فقط سيراً على الأقدام من هناك.

إقامة راقية

يسهل الوصول إلى فندق "زاخر" من طريق مطار فيينا الدولي بحيث يبعد عنه17 كيلومتراًفقط. كمايعتبر موقع الفندق متميزاً لأنه على مقربة من عدد من محطات الجذب السياحية، ولاسيما دار الأوبرا ومتحف ألبرتينا،والقبو الإمبراطوري،وكاتدرائية سان ستيفن، والقصر الإمبراطوري هوفبورغ. كما يمكن الزوّار الاستمتاع بزيارة أهم معالم المدينة مثل موزيكفيرين ومركز تسوّق ستيفل، بينما يتواجد الفندق على بُعد 800 متر من فيينا فولكسغارتن، أحد أبرز معالم المدينة.

تم تجهيز الفندق الذي تم افتتاحه عام 1876 بتحف ثمينة وأثاث أنيق ومجموعة من اللوحات الشهيرة، وزُيّنت كل غرفة بشكل خاص باستخدام المواد الثمينة.كما تتوافر مرافق القهوة والشاي في كل غرفة، ومختلف المشروبات غير الكحولية من الميني بار مجاناً. وقد احتفظ هذا الفندق التاريخي بالفخامة الكلاسيكية التي اشتهر بها منذ تأسيسه، لكن أناقته المعاصرة ووسائل الراحة الحديثة فيه توفران تجربة فاخرة مثالية.

يضمّ فندق "زاخر" قاعة Marble Hall حيث يتم تقديم الفطور، إضافة إلى مطعم Rote Bar حيث يمكن تناول الوجبات النمسوية المحلية، إضافة إلى مقهى Café Sacher Wien الذي يقدّم الحلويات النمسوية الشهيرة وكعكة ساخر تورت الأصلية والمشروبات الساخنة. كما يحتضن الفندق سبا ساخر الذي يقدّم مجموعة متنوعة من علاجات المساج والتجميل والعافية.


أسواق احتفالية

تشتهر العاصمة النمسوية بصخب شهر الأعياد، ومجيء السيّاح إليها من شتى بقاع العالم. وتتميز فترة الاستعداد لأعياد نهاية العام في النمسا بطابع خاص رغم أن الاحتفالات التقليدية تنشط في أكثر من عاصمة أوروبية. فأسواق فيينا تبقى مقصداً أساسياً للتسوّق قبل احتفالات نهاية العام،وهي من أشهر الأسواق في أوروبا حيث تجتذب ملايين الزوّار سنوياً.

تُعد أسواق الأعياد في فيينا تقليداً قديماً جداً، تعود بجذورها إلى القرون الوسطى، عندما منح الملك ألبريتش الأول فيينا في العام 1298 صلاحية إقامة سوق ديسمبر أو كريبين ماركتKrippenmarkt.وعلى مرّ السنين، تغيّرت طبيعة هذه الأسواقومواقعها، واليوم تضمّ فيينا 17 سوق أعياد Advent تبيع مروحة واسعة من الهدايا الموسمية والحلويات اللذيذة.

تتوزّع الأسواق في المناطق المزدحمة وبالقرب من القصور والمعالم التاريخية وتُضاء بآلاف المصابيح الكهربائية. وما يميز هذه الأسواق أنها عبارة عن أكشاك خشبية يُباع فيها كل ما يخطر على بال السيّاح مثل المشروب التقليدي الساخن الذي يُباع في ما يشبه الحذاء الأحمر، والحساء داخل رغيف خبز كروي، والملابس المنسوجة يدوياً. وتجذب هذه الأسواق مئات آلاف السيّاح بالتزامن مع سهرات ثقافية وعروض مسرحية وأوبرالية. تجدر الإشارة أيضاً إلى أن الأسواق الموزعة في أحياء فيينا ليست حكراً على الشركات، بل بعضها أكشاك يستأجرها حِرفيون مبدعون في مجال معين بحيث يعرضون ما لديهم على الجمهور الزائر.

دار الأوبرا

دار الأوبرا في فيينا من أقدم دور الأوبرا في العالم ومن أهم المعالم السياحية في النمسا نسبةً الى الفنون والعروض الراقية التي تقدّمها، بحيث تستقطب المئات من الزوار يومياً من داخل البلاد وخارجها.

هذه الأوبرا هي من أكبر المسارح وأكثرها روعةً في العالم، إذ استضافت أبرز الملحّنين والعازفين وفِرق الأوركسترا والراقصين في العالم، وتُقام العروض فيها على مدار 300 يوم في العام؛ وقد تم الانتهاء من بنائها عام 1869 على يد المهندس المعماري جوزيف هلافكا على الطراز المعماري الفرنسي من عصر النهضة، فنجد فيها الرخام الأبيض، والنوافذ المنحنية الجميلة، والقباب الخضراء الزمرّدية الرائعة؛ وهي تتسع لـ2211 زائراً ولـ 110 موسيقيين في الوقت ذاته.

تتميز دار الأوبرا بفنّها المعماري الجذّاب الذي يعكس العمارة الباروكية من الزمن الإمبراطوري، حيث تم تشييدها بأمر من الإمبراطور في نهاية ثمانينيات القرن التاسع عشر، ويتميز المبنى من الخارج والداخل بزخارف ونقوش جميلة جداًوذهبية اللون جعلت من المكان أكثر هيبةً وفخامة.

هناك العديد من التماثيل والمنحوتات داخل دار الأوبرا في فيينا، تستحق التوقف عندها وتأملها بمتعة، إضافة إلى العديد من الصور التي تعود الى فنانين سابقين أتاهم شرف الغناء على مسرحها والانطلاق منها إلى العالم.

أُتيح لنا حضور عرض أوبرا "ويرثر" Werther التي توزعت على أربعة فصول، وهيدراما غنائية للمؤلف الموسيقي الفرنسي Jules Massenet مستوحاة من الرواية الرساليةThe Sorrows of Young Werther للمؤلف Johann Wolfgang von Goethe.تمعرض هذه الأوبرا للمرة الأولى في 16 شباط (فبراير) عام 1892 على المسرح الإمبراطوري هوفوبر في فيينا، وباتت منذ ذلك الحين أوبرا رائجة جداً.


تحضير الحلويات في Vollpension

تحتضن مدينة فيينا فكرة مبتكرة تتمثل في مكان تجتمع فيه الجدّات وكبار السنّ لتعليم تحضير الحلويات النمسوية التقليدية للجيل الجديد. الهدف من هذه الفكرة هو المحافظة على إرث الوصفات النمسوية، ومساعدة الكبار في السنّ على الخروج من وحدتهم ودعمهم مادياً من خلال دفع المال لهم مقابل كل جلسة تعليمية. بالفعل، نجح Vollpension في إخراج الكبار في السنّ المهدّدين بالوحدة من أماكن عزلتهم، وساعدهم على الاندماج مجدداً في المجتمع، وعقد صداقات جديدة، وكسب بعض المال الإضافي لاستكمال مدفوعات المعاش التقاعدي غير الكافي في معظم الأحيان.كما نجح Vollpension في تشجيع التمكين الذاتي من خلال نشاط هادف بدل المعاناة من فقر الشيخوخة، وتعزيز الحوار بين الأجيال، وبالتالي سدّ الفجوة المتزايدة بين كبار السنّ والشباب.

تعلّمتُ مع زملائي في الرحلة تحضير الكعك النمسوي التقليدي، وكانت الجلسة التعليمية في غاية الروعة لأنها لم تقتصر على الإرشادات النظرية، وإنما تضمنت أيضاً جلسة تطبيقية بحيث خبزنا الكعك بأنفسنا في الفرن قبل الاستمتاع بطعمه الشهي والمميز.

كما يستقبل مقهى Vollpension جميع الراغبين في تذوّق المأكولات النمسوية التقليدية التي تحضّرها الجدّات مع جرعة كبيرة من الحب، بحيث يمكنهم الجلوس مع أحبّائهم والاستمتاع بتدليل الجدّات لهم. كما في استطاعتهم مشاهدةالجدّات والأجداد وهم يخبزون الحلويات في المطبخ ومن ثم تذوّقها مباشرةً فور الانتهاء من خبزها في الفرن.

كاتدرائية سان ستيفن

كان فندق "زاخر" قريباً جداً من كاتدرائية سانت ستيفن St. Stephen’s Cathedral ولذلك كانت زيارة ذلك الصرح المهيب أمراً بدهياً. الكاتدرائية عبارة عن بناء تاريخي شهير يعتبرهالنمسويون من أهم المزارات والمعالم السياحية في النمسا. إنها نُصب تذكاري رائع يعكس التاريخ والقدرات المعمارية المعقّدة للنمسويين، وتمّ بناؤها على الطراز القوطي في القرن الثالث عشر، وغالباً ما يُشار إليها باسمها الألماني "ستيفانسدوم".

تقع الكاتدرائية في ستيفان سبلاتز في ساحة كبيرة وحيوية تشترك في اسمها، ويساعد السقف القرميدي الملون للكاتدرائية في تحديد المبنى الجميل من كل أنحاء فيينا.

قمتُ بجولة في الكاتدرائية للتعرّف على تاريخ المبنى والمراحل التي مرّ بها وأهميته لدى السكان المحليين والأُسر الحاكمة، وأبهرني جمال العمارة والتصميم الفريد حيث الألوان والزجاج الملون والمصابيح واللوحات والمنحوتات داخل المكان. كما توجّب عليّ صعود 343 درجة من سلّم الكاتدرائية للاستمتاع بمشهد خلاّب لمدينة فيينا بأكملها. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الكاتدرائية ليست مكاناً للصلاة فقط وإنما هي أيضاً نموذج جميل عن فن العمارة والتاريخ النمسوي القديم وشاهد على أجمل عصورها ومراحلها التاريخية.

وبعد الانتهاء من زيارة كاتدرائية سانت ستيفن، استمتعتُ بالتجوّل على عربة تجرّها الأحصنة بحيث جعلتني التجربة أشعر كمالو أننيعدت بالزمن إلى العصور المنصرمة.

متحف ألبرتينا

يبعد متحف ألبرتينا خطوات قليلة عن مقرّ إقامتي في فندق "زاخر"، ولذلك توجّهتُ سيراً على القدمين لزيارة ذلك المتحف الذي تأسّس عام 1776، ويضم إحدى أهم المجموعات الفنية في العالم، مع لوحات فنية رائعة من دافنشي(Da Vinci) ورافائيل (Raphael) ومايكل أنجلو (Michelangelo) ودورير (Duerer) ورامبراندت (Rembrandt) وغيرهم. وتُعرض هذه المجموعات في معارض مؤقتة، بينما يتم عرض مجموعة من اللوحات الفنية لفنانين عالميين أمثال مونيه (Monet) وبيكاسو (Picasso) بشكل دائم، إلى جانب أهم الأعمال لفنانين من عصر الحداثة. كما حافظ المتحف على قطع أثرية فنيّة ذات قيمة تاريخية تم جمعها من مختلف أنحاء العالم ليُوفّر للزائر فرصة التعرّف على تاريخ الفنون.

تجوّلتُ بين مختلف أقسام المعرض واستكشفتُ الأعمال الفنية المعروضة فيه، وأيقنت أن هذا المتحف يضفي جواً من السحر الإمبراطوري على المدينة النمساوية.


قصر شونبرون Schoenbrunn Palace

لا يمكن زيارة فيينا من دون الذهاب إلى قصر شونبرون على التلال الموجودة في جنوب غربي فيينا، وكان سابقاً القصر الإمبراطوري ثم أصبح مقراً صيفياً للعائلة الحاكمة في البلاد. يعدّ هذا القصر السياحي من أبرز معالم النمسا الثقافية والتاريخية، ويتألف من خمسة أقسام رئيسة، هي: المبنى الرئيس للقصر والحدائق المُلحقَة به، والفناء الداخلي، وحدائق النباتات، وحديقة الحيوانات. ويحتوي القصر على 1441 غرفة تم فتح 45 منها للعامّة. هناك غرف مصمّمة بطريقة بسيطة ومتقشفة، ولكنْ ثمة غرف أخرى فاخرة جداً، مثل غرفة المليون التي تتضمن عدداً من الزخارف الشرقية، وقد تم تسجيل القصر كموقع للتراث العالمي لليونسكو.

بُني القصر بين عامَي 1638 و 1843، ويعتبر منذ ذلك الوقت من أهم القصور في النمسا بحيث يستقطب عدداً كبيراً من السيّاح. عند زيارة القصر الذي يمثّل تحفة معمارية رائعة، يمكن التجوّل في أروقته وتأمّل النقوش والزخارف على جدرانه. زرتُ أيضاً حديقة الحيوانات الموجودة ضمن حديقة القصر والتي تُعدّ أقدم حديقة للحيوان في العالم وتُعرف باسم "حديقة حيوانات شونبرون"، وكانت الزيارة أكثر من رائعة.

إلى اللقاء فيينا

أربعة أيام أمضيتها في العاصمة النمسوية فيينا أتاحت لي عيش روعة الفخامة الأوروبية والاستمتاع بعظمة القصور النمسوية المهيبة، وتذوّق الحلويات النمسوية اللذيذة،والتعرف على عراقة الفن والثقافة المتأصلة هناك. إلا أن تلك الفترة القصيرة لم تشفِ غليلي، لأن المواقع السياحية في فيينا أكثر بكثير من أن أستطيع حصرها في رحلة واحدة. لذا، قطعت وعداً على نفسي بأن أعود إلى فيينا في القريب العاجل لاستكشاف ما فاتني منها هذه المرة.