موسم الهجرة انتهى وعاد الطيّب من الشمال إلى الجنوب

شِعر, هجرة, زاهي وهبي, حسن داوود, الطيّب صالح, حسن عبدالله, رحيل, عبد الرحمن الأبنودي, فوزية أبو خالد

30 أبريل 2009

حين يخطف الموت أُناساً قدّموا إلى الحياة إبداعاً خالصاً لا يشيخ ولا يترهّل، يشعر الواحد منّا بنوع من الكآبة والحسرة... وفي عالمنا العربي شهدنا رحيل «عظماء» من كلّ جهة ومجال. فلم نكن قد أفقنا من صدمة رحيل محمود درويش ويوسف شاهين حتى تجدّدت أحزاننا بموت منصور الرحباني وأخيراً الطيّب صالح... وقد لا تُدرك الأمّة العربية حجم «هذه الخسارات المتلاحقة» بفقد رجالاتها الكبار من أهل الفكر والإبداع إلاّ بعد أن تبقى أمكنتهم شاغرة دون إيجاد من يسدّ الفراغ الذي خلّفوه... رغم ذلك يبقى موت القامات السامقة بحجم هؤلاء الكبار موتاً جسدياً لأنهم يولدون عند كلّ قراءة أو مشاهدة أو سماع لإرثهم الثقافي الذي لا ينضب... 


عندما نقول السودان يتبادر إلى الأذهان مباشرة إسم الطيّب صالح وعندما نذكر الطيّب صالح نذكر تلقائياً روايته الأشهر على الإطلاق «موسم الهجرة إلى الشمال». إنها الرواية التي رفعته وفي الوقت عينه ظلمته. فمن خلالها انتشر اسمه بسرعة البرق وصار علماً من أعلام بلاده وروائياً كبيراً مؤثّراً في تاريخ الرواية العربية، وكذلك هي التي حكمت عليه أن يكون صاحب الرواية الوحيدة رغم أهمية كل ما كتبه قبلها وبعدها مثل «عرس الزين» و«مريود» و«دوما ود حامد» و«بندر شاه»... وتتميّز كتابة الطيّب صالح بتكاملها إن من حيث الشكل أو المضمون أو البعد الحضاري، ونقطة الإختلاف في أدبه أنها تُزاوج جمالية الأسلوب وشعرية اللغة وقوّة المبنى وعمق المعنى. والخصوصية في كتابة الطيّب صالح أنّه يُطِلق المحلّي في الكوني وينطلق من المحدود إلى اللامحدود بأسلوب فنّي رمزي جميل. دُرّست أعمال الطيّب صالح في العديد من الجامعات كما ألهمت العديد من كتّاب الدراما. واعتُبرت روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» كمصدر للمعرفة البحثية المتعلّقة بدراسات ما بعد الإستعمار.

«موسم الهجرة إلى الشمال»:
نشرت في البداية في مجلّة «حوار» عام 1966 ومن ثمّ نُشرت في العام نفسه في كتاب مستقلّ عن دار «العودة» للنشر في بيروت. وقد يكون أكثر ما ساهم في شهرة هذه الرواية أنها عرضت للمرّة الأولى في العالم العربي العلاقة الجدلية بين نحن (العرب- أهل الجنوب) والآخر (الغرب- أهل الشمال). ومن خلال أسلوب فنّي شيّق ينسج الطيّب صالح علاقة «الجنوب» العاطفي المليء بعوالم السحر والغموض و«الشمال» العقلاني الواضح المنفتح، وهي علاقة فيها الكثير من التناقضات الغريبة مثل الحب والكراهية والصداقة والعداء... الرواية عبارة عن تناول فنّي لموضوع الصدام بين الحضارات وموقف إنسان «العالم الثالث ـ النامي» ورؤيته للعالم الأول المتقدم، ذلك الصدام الذي يتمثل في شخصية البطل الإشكالي «مصطفى سعيد». ووُصِفت هذه الشخصية في خاتمة الدراسة  التي نُشرت أخيراً في سلسلة حوليات كلية الآداب التي يصدرها مجلس النشر العلمي ـ في جامعة الكويت بعنوان «رؤية الموت ودلالتها في عالم الطيب صالح الروائي من خلال روايتي: موسم الهجرة إلى الشمال، وبندر شاه» للدكتور عبد الرحمن عبد الرؤوف الخانجي، الأستاذ في قسم اللغة العربية ـ كلية الآداب جامعة الملك سعود، بأنّ مصطفى سعيد هو «عطيل» القرن العشرين الذي حاول عقله أن يستوعب حضارة الغرب دون أن يُبالي أو يهاب، مع قدرته على الفعل والإنجاز ومحاربة الغرب بأسلحة الغرب. فهو طالب عربي سوداني يصل من الجنوب (إفريقيا) أي من المنطقة البعيدة عن ثقافة الغرب وتطوراتهم وإنجازاتهم إلى «لندن» بصفة طالب، ومن ثم يحصل على وظيفة كمحاضر في إحدى الجامعات البريطانية ويتبنى قيم المجتمع البريطاني ويتزوج من جين موريس، الفتاة البريطانية. القصة نفسها تُروى بأوجه مختلفة على لسان الراوي والبطل. إنها رواية عربية تحمل قضية إنسان العالم الثالث الذي تأملّه الطيّب صالح عن قُرب وعبّر عن همومه وآلامه وأفراحه وإحباطاته.

بروفايل
ولد الطيّب محمد صالح  أحمد في مركز «مروى»، المديرية الشمالية- السودان عام 1929. عاش طفولة عاديّة كتلك التي يعيشها عادة الصبية في قريته: رعاية الغنم وجمع التمر والزرع في الحقل. تلقّى تعليمه في وادي سيدنا وفي كليّة العلوم في الخرطوم. مارس التدريس ثمّ عمل في «هيئة الإذاعة البريطانية» لفترة طويلة قبل أن يتركها في العام 1974 ويسافر إلى قطر حيث عمل مديراً لوزارة الإعلام. نال شهادة في الشؤون الدولية في انكلترا ومن ثمّ شغل منصب ممثّل اليونيسكو في دول الخليج بين عامي 1984 و1989. زار بيروت للمرّة الأولى عام 1985، وتعرّف هناك إلى يوسف الخال وأدونيس ومن ثمّ أقام في لبنان فترة لا بأس فيها وصرّح غير مرّة أنّه عشق هذه المدينة بناسها وطبيعتها وشوارعها. كما أنّ بيروت لعبت دوراً مركزياً في شهرته وانتشار أعماله. إلاّ أنّ حياته الطويلة التي قضاها متنقلاً بين دول العالم لم تُنسه يوماً وطنه الأم ولم تُفارقه صورة بلدته الدبّة في مروى- شمال السودان حيث ولد وترعرع. توقّف عن الكتابة الروائية منذ أكثر من 25 عاماً دون أن يفقد يوماً تألقّه لأنّه عرف كيف يصنع لنفسه من خلال عدد ضئيل من الروايات مكانة كبيرة في حقل الإبداع، كما أنه سرعان ما أصبح «عبقري الرواية العربية». وفي عام 2002 تمّ اختيار روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» ضمن أفضل مائة رواية في التاريخ الإنساني، وفق قرار اتخذه مائة من كبار الكتّاب الذين ينتمون إلى 54 دولة. وفي آذار/ مارس 2007 مُنح الطيب صالح جائزة ملتقى القاهري للإبداع الروائي. وأكثر ما تميّز به الطيّب صالح عن غيره من الروائيين العرب أنّه غاص في يمّ الأدب العربي بكلّ ما فيه من غنىً وجماليات وكذلك تماهى مع الثقافة الغربية ولا سيّما الأدب الإنكليزي، ما أعطى إلى كتاباته تنوعاً وخصوصية بالغتين. تزوّج من سيّدة بريطانية وأنجب منها زينب وسميرة وسارة. توفيّ الكاتب الكبير الطيّب صالح عن عمر ثمانين عاماً في العاصمة البريطانية لندن حيث عاش. ومن ثمّ نُقل جثمانه إلى العاصمة السودانية الخرطوم. وقبل رحيله بنحو شهرين كانت مجموعة من المؤسسات الثقافية في الخرطوم بينها اتحاد الكتاب السودانيين قد بعثت برسالة إلى الأكاديمية السويدية ترشح صالح لنيل جائزة نوبل

كلمات في الطيّب صالح
عن الطيّب صالح حُكي الكثير حتى قبل وفاته لأنه يُمثّل بحد ذاته قيمة ثقافية أدبية يُفاخر بها مجتمعنا العربي. ومن الكلمات الجميلة ما كتبه محمود صالح عثمان صالح على ظهر أغلفة «مختارات الطيّب صالح» التي خرجت عن دار الريّس للطباعة والنشر: «يزعم بعض الإنكليز أنّ مفردات لغتهم مصادرها ثلاثة: الإنجيل وشكسبير ولعبة الكرِكِت All Rounder أو «اللاعب الشامل»، وتطلق على اللاعب المكتمل اللياقة والذي يُجيد اللعب بمهارة في كلّ موقع. الطيّب صالح هو كاتب «شامل». مكّنته ثقافته العميقة والمتنوعة واطّلاعه الواسع باللغتين العربية والإنجليزية على علوم اللغة والفقه والفلسفة والسياسة وعلم النفس وعلم الأجناس والأدب والشعر والمسرح والإعلام... أن يروي ويحكي ويُخبر ويوصّف ويُحلّل وينقد ويُترجم بأسلوب سهل عذب ينفذ إلى الوجدان والفكر كما تشهد كلّ المجموعات من «مختارات الطيّب صالح»...

ومن الكتّاب والشعراء العرب الذين رثوا الطيّب صالح وأعادوا بعض ذكرياتهم معه

عبد الرحمن الأبنودي (شاعر مصري): الطيّب صالح قيمة إنسانية ووطنية وثقافية عظيمة
غياب الطيّب صالح يُعدّ خسارة فادحة بعد احتضاره الطويل وموقف بلده الملتبس تجاهه. وأوّد هنا أن أذكر أنّ شهرة هذا الأديب الكبير انطلقت بصفة أساسية في مصر بعد أن نشرت سلسلة «روايات الهلال» روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» في أوائل ستينيات القرن الماضي. وأذكر أيضاً أنّ نقاط الإلتقاء بين مصر والسودان كانت على رأس هواجسه، وهو كان من أوائل الذين أكّدوا فكرة استحالة التقاء الشرق بالغرب عبر روايته «موسم الهجرة إلى الشمال». كما أذكر تواضعه الجمّ عندما قال يوماً إنّه قرّر التوقّف عن كتابة القصّة القصيرة بعد أن قرأ ليوسف إدريس، وموقفه الوطني العظيم عندما قرّر ترك العمل في إذاعة «بي بي سي» احتجاجاً على مشاركة بريطانيا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

فوزية أبو خالد (كاتبة وشاعرة سعودية): انتهى مشروع الطيّب صالح في «موسم الهجرة إلى الشمال»
الطيّب صالح الروائي رحل من زمان، وبالتالي فرحيله لن يؤثّر في أثره الروائي كونه وضع بصمة روائية في السبعينيات. وهذه البصمة كانت من القوّة والجمال والتأثير وأهميّة الموضوع والشكل الفني، حيث استمرّت إلى يومنا هذا بعد أربعين سنة من إصدار «موسم الهجرة إلى الشمال» إحدى الروايات الأكثر شهرة وأهمية وانتشاراً على مستوى الوطن العربي. لقد انتهى مشروع الطيّب صالح في روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» وبالتالي فالأعمال الأخرى للطيّب صالح لم تُضف شيئاً لروايته الأثيرة. إنّ الطيّب صالح لا ينتهي بموته، كما أنّ حياته بعد روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» لم تضف شيئاً إلى الروائي الخاص به. كرمز لا يموت بموته، وكإنتاج توقّف من زمان.

حسن عبدالله (شاعر لبناني): «صيدا» سبب تعرّفي إلى الطيّب صالح
منذ أكثر من عشرين عاماً وبينما كنت في «دار العودة للطباعة والنشر» في بيروت صودف وجود الكاتب الراحل الطيّب صالح الذي وجد أمامه على الطاولة مجموعة ورقية تصل إلى 42 صفحة بعنوان «صيدا»، وهي قصيدتي الطويلة التي كان من المقرّر أن تصدر عن «دار العودة». حمل الطيّب صالح الورقة الأولى في يده وبدأ بقراءتها ومن ثم أخذ يقرأ الثانية والثالثة وأنا أراقبه بانتظار أن يوقف قراءته نظراً إلى طول القصيدة وظروف المكان، إلاّ أنّه أخذ يُتابع القراءة بدهشة وإعجاب دون أي توقّف إلى أن وصل إلى نهاية القصيدة فسأل عندها الموجودين عن إسم صاحب القصيدة. عندها نظرت إليه وسألته مبتسماً ما إذا كانت القصيدة قد أعجبته، فأجابني دون تردّد أنها أجمل ما قرأه من قصائد طويلة. وهكذا تعرّفت إلى الطيّب صالح الذي لمست لديه منذ اللقاء الأوّل حبّه للشعر وذائقته الشعرية المميّزة. كما أنّ هناك حادثة طريفة أذكرها عن الطيّب صالح وهي أنني في إحدى زياراتي إلى قطر قرّرت أن أزوره في مقرّ عمله في وزارة الإعلام القطرية، ولمّا سألت عنه أخبروني أنه مسافر خارج قطر. ومرّت عشر سنوات ولم ألتق بالطيّب صالح إلى أن رأيته بالصدفة في مناسبة ثقافية في مصر على ما أتذكّر، وهناك إقترب منّي وسلّم عليّ بحرارة قائلاً: « اعذرني، أعرف أنّك مررت بي في قطر إلاّ أنني كنت موجوداً آنذاك في لندن». عندها ضحكت وتفاجأت كيف أنّه لم ينس الأمر رغم مرور سنوات عديدة على الحادثة، وعرفت وقتها أنّه إنسان مُحّب وحسّاس وخلوق وحافظ للمعروف. وكان الطيّب صالح بالفعل  قيمة إنسانية كبيرة تماماً كما كان قيمة إبداعية كبيرة.

زاهي وهبي (شاعر وإعلامي لبناني): الطيب صالح... إسمه يختصر مزاياه
عرفت الطيّب صالح روائياً مبدعاً شأني في ذلك شأن الملايين الذين قرأوه في «موسم الهجرة إلى الشمال» و«عرس الزين» وسواهما من أعمال، لكنني حظيت بفرصة معرفته شخصياً ومحاورته على الملأ في برنامج «خليك بالبيت» من قرابة 8 سنوات، ما جعلني أكتشف أنّه كأي مبدع حقيقي إنسان متواضع وله من إسمه نصيب فهو طيّب صالح، طيّب القلب والمعشر، هادئ الطباع، دمث الأخلاق... هذا فضلاً عن مزايا أخرى كثيرة قرّبته إلى نفسي وجعلتني أحب هذه الشخصية التي تُمثّل نموذجاً حيّاً ومُضيئاً للشخصية السودانية بكل ما تتحلّى به من ذكاء فطري يمتزج بالبساطة والوداعة. تألمت لرحيل الطيّب صالح وتألمت حين رغبت بإعادة بثّ حواري معه، لكن للأسف وجدت أنّ النسخة الأصلية من حلقة «خلّيك بالبيت» احترقت في ذاك اليوم المشؤوم من أحداث أيار/ مايو 2008.

حسن داوود (كاتب لبناني): داخل الطيّب صالح هالة شعرية فائقة
كلّنا يعرف قيمة الطيّب صالح الروائي الذي خلّف لنا مدرسة في أسلوب الكتابة الروائية من خلال «موسم الهجرة إلى الشمال»، وهي الرواية التي أقول عنها دائماً إنها «رواية تأسيسية» أحدثت تحوّلاً في قراءة الرواية العربية والتي منذ صدورها في سنوات الستين لم تتوقف عن إبهار القرّاء بكافة أجيالهم، وإنما ما عرفته عن الطيّب صالح أيضاً أنّه عاشق وحافظ للشعر العربي، كما أنّه يلقي الشعر بمهارة عالية يجعلك تشعر أنك أمام شاعر مُلتصق بزمن الثقافة العربية القديمة. وعندما جلسنا مرّة في القاهرة وأخذ بقراءة الشعر القديم شعرت بأنه من الداخل شاعر أكثر من كونه روائياً. وأعتقد أنّ طاقته الشعرية برزت في الكثير من كتاباته وخصوصاً في رواية «مريود».