ميونيخ الألمانية حيث العصر يجاور التاريخ ...

فندق / فنادق, نظارات شمسية, تاريخ, ألمانيا, الحديقة السرية , شاشة الكمبيوتر, قطار بيروت, مقاهي , أعمال فنية, مياه معدنية, أسلوب, متنزه, بادن- بادن, بايرن ميونيخ

26 أكتوبر 2011

كيف ستكون ميونيخ؟ هل تستطيع أن تحتل جزءًا من ذاكرتي كغيرها من المدن الألمانية التي تعرفت إليها وسكنت في جعبة ذاكرتي المحشورة بالصور الجميلة؟ أسئلة انهالت علي مدة أربع ساعات كانت تفصلني عن ميونيخ في قطار كان يسابق الزمن ويتحدى المسافة بينها وبين بادن - بادن.

 
ولميونيخ في ذاكرتنا الحاضرة صور نادي فريق بايرن ميونيخ لكرة القدم، الذي يعود تأسيسه إلى عام 1900 وصاحب كأس أوروبا لكرة القدم أربع مرات.

أما في التاريخ فقد ارتبط اسمها باتفاقيات ميونيخ عام 1939 حين اجتمع قادة فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا، من أجل إيجاد حل لأزمة جبال زودتن بين ألمانيا وجمهورية تشيكوسلوفاكيا.

وسواء اتفقوا أو نكثوا العهود، فمما لا شك فيه أن ميونيخ فيها الكثير مما يجعلها غير آبهة بأحكام صفحات التاريخ، تستمتع بموقعها الجغرافي الذي جعلها في قلب العالم الأوروبي.

أبطأ القطار حركته، ها قد وصلنا إلى ميونيخ، نزلنا في المحطة التي كانت تعج بالمسافرين عند السادسة مساءً، يُسرعون الخطى ليلحقوا بركب الزمن المتجسد في القطار، وبعضهم تنفّس الصعداء وأبطأ خطاه مجرد أن وصل إلى المدينة، مثلنا نحن الذين تدللنا على المدينة وأردنا اكتشفاها بتأنٍ، فمشينا سيرًا على الأقدام نحو فندق سوفيتيل المجاور للمحطة، يستعرض بأبهة هندسته الخارجية ذات النمط القوطي.

عند بوابة سوفيتيل رحّب بنا موظف الاستقبال. لفتت نظري الإضاءة الخفيفة لبهو الاستقبال والهندسة الداخلية العصرية التي تتسرب في أحضانها عطر الشرق، إذ يبدو أن غالبية نزلاء الفندق عرب هذا ما لاحظته من سماتهم وهمس أحاديثهم في البهو.
تسلمت مفتاح غرفتي المشرفة على ميونيخ، أنبأني المشهد من النافذة الزجاجية العملاقة بأنني سوف أمضي ثلاثة أيام وسط متحف مفتوح، فأسطح الأبنية تتوجها أعمال فنية لا تخشى الزمن وحوادثه الطبيعية.
في ميونيخ السير على القدمين يتحوّل هواية لا يمكن تفويتها، ففي الأمسية الأولى توجهت وزملاء الرحلة إلى ساحة ماريان، عبرنا إشارات المرور من دون أن نشعر بأننا قطعنا مسافة طويلة فدهشة اللقاء الأول بهذه المدينة ألغت وهمي الزمن والمسافة.
كل شيء جميل، الأبنية الحديثة تجاور الأبنية العتيقة بفخر، وينابيع دائرية شغلت بفن متقن رميت وسط الطريق تدور حولها السيارات، والزمن الذي ربما داخ أثناء محاولاته الالتفاف حولها.
بعد العبور وصلنا إلى ساحة ماريان، Marien Platza.

ورغم أن الليل أسدل ستارة عتمته فإنه لم يستطع حجب الفن المتناثر كيفما جال نظري في هذه الساحة، أبنية شاهقة تعود إلى عصر النهضة صُممت على نمط النيو- قوطي تنبثق منها مجسمات فنية وقوفها يخطف الأنفاس، ويجعلك تسأل نفسك كيف استطاع فنّانو ذاك الزمن أن ينحتوها على هذا العلو وبهذه الضخامة، وإذ بنا ندخل إلى جوف هذا المبنى حيث توجد باحة مزنّرة بأبنية لا تقل إبداعًا عن مثيلاتها المتجاورة وسط الساحة، دخلنا مطعم راتس كيللر Ratskeller الذي جاء تصميمه قوطيًا مطعّما بلمسة شرقية فريدة من نوعها، جلست في جوف التاريخ المتناثر في كل أرجاء ميونيخ.

رغم أن الساعة تجاوزت الحادية عشرة كانت المدينة لا تزال تتماوج بالحركة على عكس المدن الأوروبية التي زرتها.


اليوم الثاني موعد مع سكان ميونيخ

بدأ يومنا الثاني في ميونيخ مشمسًا وبفطور شهي تناولناه في مطعم الفندق SCHWARZ & WEIZ، مما جعلنا نتوقّع مشاهد يومنا المتحرّكة في هذه المدينة.
دارت بنا السيارة ودرات معها دهشتنا من جمال المدينة الصباحي المنحوت منذ قرون، فأينما جال نظرنا كانت المباني الأشبه بالتحف الفنية متناثرة هنا وهناك، في المتنزّهات التي تضج بالأخضر ووسط الطريق وعند المنعطف، فاحتارت عدسة الكاميرا ماذا تلتقط. وأخيرًا توقفت السيارة عند بوابة سوق المدينة، فكما كل المدن الألمانية عند مدخل كل منطقة تاريخية توجد بوابة ولكل واحدة منها أميرها أو كونتها.

ترجلنا من السيارة ومشينا وسط سوق مفتوح على الهواء والتاريخ، أكشاك اصطفت بعضها يعرض الخضار وأخرى تعرض الأزهار، وبعضها التذكارات بأسلوب أنيق. وعند أقدام المباني التاريخية والعصرية تتجاور المتاجر بغض النظر عما تعرضه، فالجزّار يجاور بائع الجبن الذي يجاور بدوره بائع العطور.
وأثناء سيرنا تنبهنا أننا صرنا في ساحة ماريان، المشهد النهاري تغيّر بعض الشيء مع أمواج من الناس والسياح الذين كانت كاميراتهم تحاول تخزين التحف المتناثرة في الساحة.
هنا لست في حاجة إلى أن تكلف نفسك عناء شراء بطاقة لحفلة موسيقية، ففنّانو الشارع فرشوه بآلاتهم الموسيقية ليخرجوا منها أجمل الألحان ويكفي أن ترمي لهم بعض النقود في الصحن المعدني، كأنهم قصدوا المعدن حتى ترن القطع النقدية أثناء سقوطها فيكون للصحن موسيقاه أيضًا. لفتني وجود بيانو ضخم يعزف عليه شاب بشغف، أردت أن أسأله كيف تحمل عبء جلبه إلى الساحة، ولكن زملاء الرحلة نادوا علي للعودة إلى السيارة.
بعد الجولة في وسط المدينة، توجّهنا إلى متنزه الحديقة الإنكليزية English Garden لتناول الغداء في أحد المطاعم الموجودة فيه.
عند مدخل المتنزه تنتشر المقاهي، بعضها مقاه خاصة وأخرى عامة، وكما مشهد السوق فإنه في إمكان العائلة أن تأتي بطعامها لتتناوله إلى الطاولة المجانية، أو أن تدلل نفسها، إنه يوم الاثنين والكل يتنزه ويستمتع بيومه المشمس.
في طريق العودة إلى الفندق مررنا بالقرب من نهر آيس باخ، المتفرع من نهر إيسار Isar، حيث كان هواة ركوب الأمواج يمارسون هوايتهم على أمواج النهر الهدّارة، وبحسب أندريا أن معظم هواة هذه الرياضة يأتون إلى هنا سواء كانوا من ميونيخ أو لا، ففيها تحدٍ لوزن المياه المعدنية.


اللافت أن ضفتي النهر كانتا تضجان بهواة السمرة والسباحة النهرية التي ربما اختاروها قسرًا لأنه لا وجود للبحر في ميونيخ المدينة الثالثة في ألمانيا.

بعد الظهر موعد مع التسوّق
  من حسن حظي أن فندقSofitel موجود في وسط المدينة في شارع Bayerstrasse12 لذا قررت أن أجرّب هواية التسوق في هذا الشارع الذي تتجاور فيه كل أنواع المتاجر لجميع الميزانيات.
في متاهة الروائح والألوان والوجوه تنبّهت إلى الوقت وأن علي العودة إلى الفندق لأنني سوف أخوض تجربة سبا الفندق Laguna.
في السبا دخلت متاهة من أحاسيس تخدّرت بفعل خرير الماء المتناغم مع الموسيقى الهادئة والعطر الفواح. استقبلتني مدلّكة شابة ملامحها ألمانية بامتياز، سألتني بإلإنكليزية المنكّهة بالألمانية عما إذا كنت أعاني حساسية أو مرضًا مزمنًا، ونوع التدليك الذي أفضّله، واخترت طبعًا تدليك الكتفين نظرًا إلى جلوسي الطويل أمام الكمبيوتر.
اللافت في ميونيخ أنها مدينة كوزموبوليتانية بامتياز. ولعلّ الفندق نموذج لهذه الميزة فالعاملون فيه من جنسيات مختلفة إختاروا العيش في هذه المدينة التي تمنحهم كل مقوّمات الحياة الكريمة فلا يشعرون بالغربة.
على طاولة العشاء في جناح الـ VIP من مطعم SCHWARZ & WEIZ إنهالت علينا الأطباق اللذيذة، ورغم أن الكمية صغيرة شعرنا بالشبع، أدركت حينها أن مَهّمة الذوّاقة المحترفين صعبة جدًا خصوصًا إذا كانت جميع الأطباق التي تقدم لهم لذيذة وأظن أن حاسة الذوق لديهم تتخدّر.
انتهت أمسيتي الثانية في ميونيخ والصور التي خزّنتها ذاكرتي أكبر بكثير مما خزّنته ذاكرة كاميراتي.

اليوم الثالث موعد مع الترف بكل وجوهه
صباح اليوم الثالث توّجهت بنا السيارة نحو قصر الملك لودفيغ الثاني. هنا في هذا القصر تعرف معنى أسلوب عيش الطبقة الأرستقراطية بكل ترفها. فالقصر وأجنحته رُميت وسط طبيعة غناء تزينت بالينابيع والبحيرات الصغيرة.
لفتني وجود طوابير التلامذة الصغار برفقة معلّماتهم يسيرون بانتظام ويضعون قبعات لكل مجموعة ألوان خاصة بها، ربما كي لا يتوهوا عن سربهم.
الدخول إلى القصر يبدأ من جناح بيع التذكارات من فناجين شاي وتحف من البورسيلين كلها طبعت عليها صور القصر. وفي أحد ممرات القصر استوقفتني سيدتان تسلقتا سلمًا متحرّكًا لتجريا ترميمًا لإحدى اللوحات.
بعد عالم الملوك عصر النهضة توجّهنا شمال ميونيخ نحو عالم العصر المخضرم، في المتنزه الأولمبي الذي شُيّد بمناسبة استقبال ميونيخ للألعاب الأولمبية الصيفية عام 1972.
في البداية كان هدف تشييد الاستاد فقط استقبال الألعاب الأولمبية ولكن قرّر مجلس المدينة البلدي أن يجعله مدينة رياضية ومتنزهًا يكون متنفس سكان ميونيخ، وبالفعل يضم المتنزه ملاعب تنس وأحواض سباحة وبحيرة صناعية واستاد للرياضات المائية وقاعة التزحلق على الجليد، ومقاهي.
كل هذا على مساحة 3 كيلومترات مربّعة. عند مدخل المتنزه استقبلنا برج التلفزيون الشاهق الارتفاع، كنا على موعد مع ارتفاعه لتناول الغداء في المطعم الدوّار على علو 293 مترًا. حملنا المصعد بسرعة ووصلنا إلى برج المراقبة.
هنا المشهد مهيب، بدت لي ميونيخ كأنها مدينة لا متناهية، أبنيتها التي أدهشتني بروعتها الفنية مجسمات صغيرة بالكاد أراها بعيني المجرّدتين، ولكن الأخضر فيها واضح وبدا لي في اللامتناهي يلتقي مع الأفق الأزرق، حسدت الصقر على عيشه فهو دائمًا يحلق ويرى ما لا نراه نحن البشر.
أما المتنزه فقد جاءت هندسة منشآته على شكل المراكب الشراعية. تنفست الصعداء ونزلت وزملائي إلى المطعم الدوّار حيث كان في استقبالنا مديره.
جلسنا إلى الطاولة وشعرنا بعد فترة بأن شيئًا ما يتحرّك خلسة، فانتبهنا جمعينا إلى أننا ندور، بالفعل مغامرة فريدة من نوعها أدخلتني ميونيخ في تجربتها.
بدأت غيوم سماء ميونيخ تنثر رذاذها إلى أن تحوّل وابلاً من المطر، فشعرت بأنها تريد أن تريني تعدد أمزجتها، فالشمس التي استقبلتني صباحًا أخلت الطريق للسحب لتودعني في آخر أمسية على طريقتها.
عند الصباح ودّعت ميونيخ وكانت رائحة الأرض المبللة تعطر المدينة والمحطة كانت الحركة فيها سريعة، أناس ينزلون فيها وآخرون يرحلون عنها، لكنهم من المؤكد لن ينسوا سحر عاصمة مقاطعة بافاريا.
ثلاثة أيام أمضيتها في حضن التاريخ الألماني حيث العصر يقف بحياء الطفل الفخور بأمجاد جدوده.