رهينة جماعة 'أبو سياف' هرب يوم رحيل مانديلا... حوار مع مراسل 'العربية' بكر عطياني

بكر عطياني, قناة العربية

11 فبراير 2014

هل تصنع الجدران سجناً ... أو هل تصنع الغابة سجناً؟ لم يخضع مراسل قناة "العربية" بكر عطياني لحمية غذائية حين فقد 30 كيلوغراماً من وزنه. وهو في طريقه إلى لقاء جماعة "أبو سياف" خُطف، فامتد اللقاء، تعلّم أطباقهم وعلّم أطفالهم. يظن بكر عطياني أنه وقت كافٍ ليكتب عنهم الكثير ويتعلم منهم حساء السمك الذي طبخه لزوجته. أحداث توالت وهو خارج العالم، "رحل" المصري محمد مرسي وجاء الإيراني محمد روحاني... وأعلنت هيفاء وهبي طلاقها أيضاً. كلها أحداث تختلف معها معاني الرحيل والعودة ووزن المأساة والرهينة الهاربة ربما. رحل نيلسون مانديلا يوم عودته إلى الحياة هارباً من الموت، تاريخ غاب فيه "ماديبا" وعاد فيه بكر عطياني من غابة بعد 18 شهراً .  


هل كانت لتقابلك مجلة نسائية لو لم تخطفك جماعة "أبو سياف"... من هو "أبو السبايا"؟

لا شك أن قصتي يطغى عليها الجانب الإنساني والإجتماعي. "أبو السبايا" هو اسم حركي لشخصية قديمة في جماعة "أبو سياف". لم يعد على قيد الحياة. (يضحك).

هل تصنع الجدران أو الغابة سجناً؟
لا، قد تصنع سجناً للروح وليس للجسد بالتأكيد.

كيف بدأت رحلتك المهنية وأخذت قرار الذهاب إلى جنوب الفيليبين؟
كنت أعد وثائقياً عن أزمة جنوب الفيليبين أو ما يعرف بـ "ميندناو". وصلت إلى الفيليبين ونسقت مع أحد المنتجين هناك على أن يرتب لي بعض اللقاءات مع أطراف الأزمة ومن ضمنهم جماعة "أبو سياف". وكنت قد نظمت لقاءاتي ابتداءً من مانيلا إلى مدينة زامبوانغا في جنوب الفيليبين ثم جزيرة سولو.

هل كانت المرة الأولى التي تؤدي فيها مهمة في الفيليبين؟
لا، أغطي آسيا، بما فيها أندونيسيا وماليزيا وتايلاند والفيليبين وباكستان وأفغانستان منذ حوالي 15 عاماً. أعرف الفيليبين جيداً، لكن جزيرة سولو لم أزُرْها إلاّ مرتين. الأولى عام 2000 في ظل أزمة خطف رهائن من ماليزيا إلى الجزيرة. والثانية حين أصبحت أنا الحدث والمخطوف. ذهبت إلى الجزيرة، وكنت أنتظر السيارة التي ستقلني إلى الغابة حيث تعيش جماعة "أبو سياف". حين وصلت إلى المكان، تبين أن لا لقاءات يمكن إجراؤها بل أنا مخطوف ورهينة.


حين عدت إلى المنزل طهوت لزوجتي حساء السمك وقد أعجبها!


أدركت أنك ستتمكن من لقاء الجماعة، وهذا إنجاز مهني. كيف تصف لحظة تلاشي هذه الفرصة واكتشاف المأزق الذي وقعت فيه؟

في البداية، لم أصدق أنني مخطوف وحاولت ممازحتهم ومناقشتهم. لكنهم أصروا على الأمر وطالبوا بالمال. كانوا على ثقة بأنني جئت من خلفية قادرة على دفع المال. شعرت بأن الأمور ستحل في الأيام الثلاثة الأولى، لكن المدة طالت. كانت صدمة كبيرة، لقد بقيت رهينة طوال 18 شهراً.

كانت لديك فكرة عن هذه الجماعة من خلال صور أو بحثت عنهم، لكن من هم عن قرب؟
حين ذهبت إليهم كنت أظن أنهم طرف أساسي في الأزمة ودون شك أنهم يشكلون أزمة في الجزيرة وفي جنوب الفيليبين بشكل عام لكن ليس بالصورة التي نظنها. هم أزمة لأنهم عصابات أو جماعات تعتمد على عمليات الخطف وسرقة الأموال على خلاف الفهم الخارجي بأنهم جماعات مسلحة ولديهم قضية هي مطالبتهم باستقلال الجنوب بحيث تكون دولة لمسلمي جنوب الفيليبين. قد يطالبون بخمسة آلاف دولار وقد يصل المبلغ إلى 25 مليون دولار لقاء إطلاق الرهينة. قضيتهم المعلنة ليست هماً من همومهم، بل الخطف وجمع المال وشراء السلاح وزيادة عناصرهم. وكل مجموعة تعتمد هذا الأسلوب محاولة أن تصنع لنفسها نفوذاً أكبر في الجزيرة، وتصبح المجموعة الأقوى. ثمة تنافس داخلي بينهم، إضافة إلى أن ثمة أطرافاً سياسية مستفيدة من عمليات الخطف من الشخصيات السياسية المسلمة وغير المسلمة في الجنوب.

كم يبلغ عدد عناصر جماعة "أبو سياف"؟
ألف عنصر بتقديري، هم موجودون في جزيرة "سولو" وفي الإقليم نفسه كذلك في جزيرة باسيلان. يقطنون الغابات والجبال بعيداً عن المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة.


"أدقق في علاقاتي المهنية عادة لكن يمشي الإنسان إلى قدره أحياناً "


كيف تصف الحياة في غابة؟

حياة بدائية من الدرجة الأولى دون كهرباء، تنقلت بين 11 مكاناً في الغابة. يجلبون الماء من النهر، أستحم من ماء الغالونات. كنت أقضي حاجتي في مكان ما في الغابة. لا مرافق، كنت أعيش في كوخ خشبي وسط عائلاتهم والتخلف. كنت أنام على سرير الأرجوحة ضمن حراسة مشددة، وأغسل ملابسي القليلة التي ارتديتها طوال فترة الاختطاف. كانوا قبيحين بصوتهم وليس بشكلهم، ولذلك كان الليل راحة بالنسبة إلي.

هل أعجبك طعامهم؟
أرز وسمك بنسبة 90 في المئة على الفطور والغداء والعشاء.

 فقدت الكثير من الوزن حسبما تظهر الصور؟
30 كيلوغراماً. استعدت 12 كيلوغراماً منها خلال أربعين يوماً.

من أنت قبل الاختطاف وبعده؟
أثرت فيّ هذه التجربة بشكل إيجابي. أصبحت أكثر ارتباطاً بمهنتي.

ألم تشعر للحظة بأنك أقدمت على مغامرة مهنية؟
ارتكبت خطأ. كان علي التأكد من هوية المنتج الذي رتب لي اللقاء مع جماعة "أبو سياف". لا أتهمه، لكن ثمة مجريات تشير إلى أنه متورط في خطفي. كان علي أن أتحقق من هذا الشخص أكثر خصوصاً أنني ألتقي شخصيات "مطلوبة". سبق أن التقيت أسامة بن لادن وزعيم جماعة "جند الله" الإيرانية عبد الملك ريغي الذي أعدم لاحقاً، وقيادات من حركة طالبان في أفغانستان وبعض العناصر الرئيسية من الجماعة الإسلامية في أندونيسيا التي كانت مسؤولة عن تفجيرات بالي وأعددت عنهم أفلاماً وثائقية. ساروني شعور داخلي في اليومين الأخيرين قبل لقاء الجماعة بأنني تساهلت وأقوم بمخاطرة كبيرة، لكنني تجاهلت هذا الأمر وفكرت أنني أريد الحصول على مكسب مهني كبير خدمة لوثائقي فيه شهادات متوازنة. فما من أحد التقاهم وجهاً لوجه من قبل عربياً ودولياً.


"لم تكن زوجتي تنتظر في حياتها إلاّ هذه اللحظة"


هل كنت منقطعاً عن العالم طوال 18 شهراً؟

عشت 18 شهراً دون أخبار. فوجئت بالتغيرات التي حصلت في العالم لاحقاً. كانوا يسمحون لي بإجراء المكالمات مع عائلتي مرة كل شهر وقد تطول المدة إلى أربعة أشهر، منعوني من معايدتهم في عيد الأضحى.

ما كان انطباع عائلتك طوال مرحلة الخطف؟
أنا متزوج ولدي أربعة صبية. كنت حريصاً على عدم التكلم مع الأولاد كثيراً لكي لا أضعف. كانت زوجتي تمنحني الأمل وتؤكد لي أننا سنلتقي مجدداً وبأنني سأعود إليهم في عمان. لم تكن تنتظر في حياتها إلاّ هذه اللحظة، وهذا أهم دعم نفسي تلقيته. منحني صوتها روحاً معنوية كبيرة.

هل فقدت الأمل في العودة وعشت لحظة ضعف قاسية؟
شعرت بفشل المفاوضات خصوصاً أن المبالغ لم تكن محددة. تورط أكثر من طرف في عملية الخطف حسب ما تبيّن.

ما هي لغتهم؟
الوسيط كان يتكلم التاوسوك، هذه لغتهم. وهي تختلف عن التاغال التي يتكلمونها في مانيلا.

كيف كنت تتواصل معهم؟
ثمة من يتكلم الإنكليزية وآخر العربية معهم. لكن بت أفهم لغتهم لاحقاً، وأخفيت ذلك لإدراك ما يفكرون فيه.

هل ثمة من تعاطف معك؟
نعم، مجموعة منهم وهم من ساعدوني في محاولات الهروب الثلاث التي قمت بها.


"لم أشعر بالأمان فوراً وعشت مرحلة بين الحلم والحقيقة بعد الهرب"


كيف نجحت في المحاولة الثالثة خصوصاً أنك بتّ تعيش أزمة ثقة بالآخر؟

الفكرة الوحيدة لدى كل شخص مخطوف هي الهروب. تصبح اللحظات الحاسمة مع بدء تنفيذ العملية، في المرة الأولى كان التواصل مع الخارج عبر رسائل نصية. هربت لكنني شاهدت في الغابة من يحملون المصابيح فخفت وكان عليّ أن أقترب من مكانهم للخروج من المكان، زحفت وتقدمت ببطء. لكنني عدت. وقد تبين لاحقاً أنها المجموعة التي كانت تنتظرني وترتب خروجي. في المرة الثانية، ابتعدت عن مكان الخطف. لكن رآني رجل يتعاون معهم صرخ وبات يطلق طلقات إنذار فانتشروا بسرعة وأعادوني إلى المكان. كانت لحظات حاسمة في حياتي، إما أقتل أو تكتب لي حياة جديدة. فهم سبق أن قتلوا رهينة لديهم. ترددت في محاولة الهروب الأولى وعشت صراعاً داخلياً. لكنني استمريت. وكنت هادئاً في المرة الثانية حين سدّد السلاح إلى رأسي وتم احتجازي في مكان معزول طوال ثلاثة أشهر. أما المرة الثالثة، فقد تمت بعد ثمانية أشهر من العملية الثانية وحين أصبحت الإجراءات غير مشددة وبامكاني التحرك. ازداد عدد المتعاطفين معي، وقد استطاع الطرف الخارجي الذي يمثل "العربية" استمالة عدد أكبر أيضاً، كما استغلينا لحظة وفاة زعيمهم.

هل تخشى ذكر أسماء أو تتردّد بعد هذه التجربة القاسية؟
لا أبداً ! اسم الزعيم الذي مات هو كاسمان سواجان وهو كان المسؤول عن خطفي، وهو زعيم ثاني أكبر تجمع لجماعة أبو سياف في حزيرة سولو. حين مات كاسمان دبت حالة استرخاء لديهم وكانت فرصتي للإفلات منهم يوم الرابع من كانون الأول/ديسمبر قبل المغرب.


شرحت لأطفال جماعة "أبو سياف" كتاب قواعد النحو "متن الأجرومية"


متى شعرت بالأمان؟

بعد ثلاثة أو أربعة أيام من الهرب. لم أشعر بالأمان فوراً، ركبت مع دورية شرطة موجودة في الشارع الرئيسي بعد ركض استمر ثلاث ساعات. كان وضعي الصحي سيئاً في المستشفى، عشت مرحلة طويلة بين الحلم والحقيقة. لم أصدق أنني نجحت أخيراً.

متى قابلت عائلتك؟
بعد أسبوع من الهروب. بقيت في مستشفى الجزيرة ثلاثة أيام. فقد كنت أعاني ارتفاعاً في ضغط الدم. لكننا تواصلنا على الفور، بكت زوجتي من الفرحة وحاولت إقناعي بقدومها. إنها لحظات يصعب وصفها. اللقاء الأول كان في مطار عمّان. وقفت العائلة على مسافة مترين وكانوا يحدقّون إليّ ويتفرجون عليّ، صرخت شقيقتي حين رأت مظهري. فهم لم يشاهدوا أي صورة لي قبل لقطة المستشفى التي تناقلتها الصحافة.

هل رغبت يوماً في إنقاص وزنك؟
لا، فأنا أمارس الرياضة بشكل منتظم والفنون القتالية. كان وزني مثالياً. أضربت عن الطعام أكثر من مرة.

كيف تصف الانتقال من الإقامة مع جماعة متطرفة إلى العيش مع العائلة مجدداً؟
كنت معتاداً على النهوض باكراً في الجزيرة عند الخامسة صباحاً، ولا أزال استيقظ في الموعد نفسه.

هل حاولت الكتابة خلال فترة الخطف؟
لم أتمكن من كتابة تجربتي. لكنني شرحت لهم كتاب قواعد النحو "متن الأجرومية" باللغة العربية مع أمثلة. كان أستاذ المادة يواجه صعوبة في تلقينها للتلاميذ. وأنا أحتفظ بنسخة من الشرح الذي قدّمته للأستاذ.

حتى كتابهم  يحمل ملامح الإجرام في عنوانه نسبة إلى مؤلفه الأجرومي ! (ممازحة)
نعم، الكتاب قديم جداً ولغته صعبة للغاية. عمره أكثر من 100 عام. كنت أعد كتاباً قبل الخطف عن تجربتي في باكستان وآسيا بشكل عام. وكنت قد انتهيت من الكتابة، لكنني سأضيف تجربتي مع جماعة "أبو سياف" إلى الكتاب بالتأكيد.

كيف تتطلع إلى تجربتك كرهينة ومحاولتك تسهيل حياة أبناء خاطفيك العلمية؟
أردت أن أكون إيجابياً، تعلمت منهم بعض الأطباق حتى، وحين عدت إلى المنزل طهوت لزوجتي حساء السمك مع الخضار. وقد أعجبها! تعلمت صيد الطيور بأسلوب بدائي أيضاً وصناعة البيوت الخشبية وتسلق الشجر لقطف جوز الهند. كان لدي الكثير من الوقت للتعلم والتأمل. تحديت نفسي وحاولت كتابة بعض أفكاري على أوراق شجر الموز. كسبت احترام بعض عناصر الحراسة من جماعة "أبو سياف".

 ما كانت كلفة هذه الرحلة المهنية؟
18 شهراً من الوقت وحصلت على الحقيقة التي كنت أبحث عنها. كنت حريصاً على لقاء جماعة "أبو سياف" والتعرف عليهم، أظن أنني عرفتهم جيداً. دفعت ثمناً غالياً هي حريتي لكنها تجربة شخصية إيجابية رغم التهديد بإطلاق الرصاص على رأسي وقدمَيّ لتخويفي. ربما انعكست التجربة سلباً على عائلتي، باتت زوجتي تخاف أن يصيبني مكروهاً. تطالب أن تقود هي السيارة بدلاً مني مثلاً. لم تسمح لي بالتحرك في الأسبوعين الأولين من عودتي. علمتني هذه التجربة أنني لم أكن أستغل وقتي بشكل كافٍ وأن قيمة الحياة أن أعيشها بشكل كامل.

لقد فارق الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا الحياة في اليوم الذي هربت فيه من جماعة "أبو سياف"...
فكرت كثيراً في هذه المصادفة لأنني حضرت وثائقياً عنه وعن تصميمه داخل السجن وإصراره على أنه سيخرج قائداً. تجربتي كانت سنة ونصف سنه بينما تم سجنه أعواماً طويلة. حرصت على أن تكون تجربتي ذات مردود إيجابي.

هل ستكمل الوثائقي الذي كنت تعدّه؟
نعم، بالتأكيد.

هل حياتك باتت أثمن من جرأة أم مغامرة مهنية اليوم؟
ما كنت أبحث عنه هو غاية نبيلة تخدم الناس. لكنني سأكون أكثر دقة لكي لا اتعرض للخديعة والخطر في المرة المقبلة. سأظل أمارس المهنة ذاتها وبالخط نفسه بحذر أكبر وتأنٍّ.

أي بكر عطياني صنع السجن الإنفرادي؟
كانت لحظات التأمل كثيرة، وبت أحرص عليها. فكرت في المستقبل كثيراً وراجعت نفسي.

هل كان خطفك لحظة الذورة المهنية في حياتك كمراسل لقناة "العربية"؟
لا أدري، فحين التقيت أسامة بن لادن ظننت أنني حققت إنجازاً مهنياً. خطفي هو إضافة إيجابية في حياتي المهنية.

أي أخبار عالمية فاجأتك حين علمت بها لاحقاً؟
انتخاب محمد مرسي رئيساً في مصر وخلعه لاحقاً. حين خطفت لم يكن موجوداً بل كان المجلس العسكري. كذلك الرئيس الإيراني الجديد. كما لم تكن جماعة "داعش" في سورية. وهذه خطوط عريضة مثيرة في العربية والإقليمية.

هل علمت بطلاق النجمة هيفاء وهبي؟
حقاً ! ماذا حصل؟