سوزان عليوان شاعرة القلوب والمدن الحزينة

سوزان عليوان, ديوان, قصائد, ديوان شِعري

04 سبتمبر 2014

تبدو سوزان عليوان في ديوانها الجديد «الحبّ جالس في مقهى الماضي» كأنها تبني عالماً شعرياً مختلفاً، بل متكاملاً، يتعانق فيه الخاص والعام. قصائد تمتاز بوحدة عضوية حتى لكأنها قصيدة واحدة يرتبط فيها التاريخ بالواقع والحبّ بالراهن والإنسان بالكون.
«باريس مطر يتساقط/ وها هم يسقطون معاً:/ الطغاة، والأطفال والمطمورون بثلج الطريق/ اللغة من حجر، اللغة معلّقة/ وليست النجوم مدافئ/ لملاجئ ترتجف على الحدود./ كلّ هذا الليل عيناك/ وهذه حصّتي من حصّالة القمر:/ قصيدة بصوتك المتّقد المتردّد/ أعلم أنك كتبتها لسواي» (ص25).

لا توحي كثرة الثيمات وتنوعها بأي تكلّف شعري، إنما تأتي الموضوعات الشخصية (الحبّ، الفراق، الذكريات) متصلّة بالموضوعات العامة (الثورات والحزن، الطبيعة)، وذلك بعفوية لافتة أثمرتها فنية الشاعرة في ربط الأفكار وصوغها.

تشتمل قصائد الديوان بمعظمها على أبعاد ذاتية وجماعية في آن واحد، بحيث تغدو الشاعرة العاشقة بقلبها الحزين هي نفسها المدينة في «بلادها الحزينة». هي امرأة- أو ربما مكانٍ- من رماد وموت وعدم: «أستيقظ كبلاد على رمادي/ أستيقظ كرماد على بلادي/ بلادنا الحزينة، بلاد العيون والأعمار العارية/ بأبواب مسجّاة/ على سطر طويل من حطب./ في زاوية، ملحمة على نصل مدينة/ طاولة من صحنين متلامسين/ شمعة زجاجة ومقعدان خشبيان/ لغريبين بوجهينا/ سواطير تلوح... لون آخر للدم». (ص 45)

مثلما تقف الشاعرة بدهشة أمام غرابة الوجود وغموض العالم وسوريالية الراهن، تقف أيضاً مدهوشة أمام تجربة عاطفية عابرة، تُفرحها حيناً وتكسرها في أحيان أخرى. وغالباً ما تتجلّى عليوان في قصائدها بوجه الطفل «المندهش» الذي ترسمه على أغلفة كتبها أو على جدار موقعها.
فهي لا ترتدي لبوس الشاعرة «العالمة»، بل إنها لا تنفك تكشف صدمتها إزاء واقع غريب تعيش فيه من غير أن تفهمه.
فلا تكفّ عن طرح أسئلة تكشف عن حيرتها تارة، وعن دهشتها طوراً: «إلى أين نذهب/ والنهر نفسه نبض توقّف؟ لا مقهى ولا حانة/ ولا شريطة شارع حتى... هل انتهى العالم؟» (ص62، من قصيدة عشرة عصافير في اليد)، وفي قصيدة أخرى تقول كاشفة عن الطفل الذي تكونه: «مثل حماقة/ تكررت الحكاية/ وفي كل مرة بحرقة بكيت/ كمن على كتف المرآة نفسها ينكسر./ هكذا الأطفال/ حتى تنضج قلوبهم» (ص88، من قصيدة ما ليس بوسع بحر).

تكثر في قصائد عليوان الإشارات المائية، فتكاد تكون كلمات «النهر»، «البحر»، «الدمع»، «المطر» حاضرة في كل قصائد الديوان، وهنا تتكرّس علاقة الإنسان المتوازية مع الكون.
وفي كل مرة تحمل الإشارة المائية دلالة جديدة ومختلفة، فمرّة تعني التطهير وأخرى الولادة ومرّات الغرق أو ربما الحلول. هي لا ترسم المدن إلاّ تحت المطر، ولا العيون إلاّ وفي جوفها الدموع، كأنّ الأشياء تغدو بالماء أوضح وأنقى. «الرابعة والربع فجراً،/ بيروت بعد المطر:/ شوارع بعيون غرقى/ ليل مورق بإشارات مرور/ كلب يتعكّز على كتف ظلّه/ بائعة مناديل/ بسبات مصطبة على رصيف» (ص29، من قصيدة كلما أهديتك كوكباً).

كعادتها، اهتمت سوزان عليوان بموسيقى الكلمات، فجاءت عباراتها إيقاعية أشبه بمقطوعات تصبغ القصائد بنَفَسٍ صوفي يدعو إلى الحلم والسفر والطيران، مثل: «ظِلّ ظَلّ على الإسفلت طفلا، مدن وناس من أسمال الدى» أو «كما يخلع إنسان كلامه/ لأيّ لهب تَهَب ذهبها؟» أو «حيث لا ارتواء/ واليأس فأس لا تكسرنا... لو أنّ يدي فرشاة/ والملامح فراشات/ لو أنّ أطفالي الورقيين/ ألوان تطير».

«الحبّ جالس في مقهى الماضي» ديوان بديع تتأرجح قصائده بين عالمي الشاعرة الداخلي والخارجي، من غير أن يهدم جدران العزلة أو الوحدة التي طالما ظلّلت تجربة عليوان الشعرية.