لماذا نخلع خصوصياتنا على أبواب فيسبوك؟

الفيسبوك,facebook

يارا علي (القاهرة) 03 يناير 2015

«أدعوا لأبي فقد دخل لتوّه غرفة العمليات»، «أنا الآن في المطبخ أعدّ الغداء لزوجي»، «اقرأوا معنا الفاتحة، اليوم خطوبة أختي»، «تعرضت لحادث، إليكم صور السيارة بعد الحادث»... إلى آخره من الجمل التي لن نقرأها إلا على صفحات التواصل الاجتماعي، لا سيما «فيسبوك»، والتي تصف حالة فقدان الخصوصية التي يعيشها مستخدموه. فبعدما كان التطبيق ذو الشاشة الزرقاء وسيلة لاكتساب أصدقاء جدد أو الوصول إلى أصدقاء قدامى تفرقوا في دنيا الحياة، فقد فيسبوك هذه الميزة، ليتحول إلى بوابة يخلع عندها معظم مستخدميه خصوصياتهم، بعدما انصرفوا إلى تدوين التفصيل الصغير قبل الكبير عن حياتهم الشخصية والعملية. فلماذا نفقد خصوصياتنا على فيسبوك؟ وهل افتقدنا من نفضفض له فلجأنا إلى فيسبوك حتى لو جعل حياتنا الشخصية مشاعاً؟

ميار محمد (٢٦ عاماً) محاسبة في أحد المصارف الحكومية، تقول: «هناك من ينتقد كتابة بعض الأشخاص أدق تفاصيل حياتهم اليومية على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يثير استفزاز الكثيرين من مستخدمي هذه الوسائل، انطلاقاً من أن هذه التغريدات أو الـ«status»، تجعل الحياة الشخصية مشاعاً للجميع، وهذا ما يرفضه البعض. لكنني أرى أن لكل مستخدم صفحته الخاصة به، فمثلما كان من حقه أن يكتب عليها ما يريد، فمن حق الآخرين أيضاً أن يتابعوا ما يكتبه أو يرفضوا قراءته، كذلك الـfeatures الجديدة التي استحدثها مؤسس فيسبوك مارك زوكربرغ، مثل التي تعبر عن الإحساس «feeling happy/ sad/ angry»، أو التي تحدد الكتب التي يقرأها المستخدمون، أو الأماكن التي يترددون إليها، أو نوعية المأكولات أو المشروبات التي يتناولونها، ساعدت من يفتقد ملكة التعبير على أن يعبّر، ومن لا يستطيع الكتابة على أن يكتب. فأنا لا أعترض على فكرة أن يعبر كل شخص عن تفاصيل حياته عبر صفحته، انطلاقاً من مبدئي بأن صفحتي هي قاعدتي، «my page is my rule». لكن أكثر ما يزعجني على صفحات فيسبوك انتقاد صديقة لي ما تكتبه الفتيات من مشاعر سلبية خاصة بتأخرهن في الزواج، أو انزعاجهن من نظرة المجتمع السلبية إليهن، أو انتقاد قيام صديقات أخريات بمشاركة لمقولات رومانسية لإحدى الكاتبات الشهيرات... أنزعج كثيراً من هذه الصديقة لعدم احترامها حرية الصديقات الأخريات، ونقدها اللاذع لاستخدامهن حقهن في حرية التعبير، وهذا أبسط حقوقهن في الحياة».

طاقة سلبية

ترى مشيرة أحمد (٢٨ عاماً) التي تعمل في قسم الإدارة لإحدى الشركات الخاصة، أن ما يكتب على فيسبوك أصبح مبالغاً فيه، خاصةً إذا كان الأمر يتعلق بجمل مثل «أبي في المستشفى أدعوا له بالشفاء»، وأول شيء يتبادر إلى ذهنها هو «لماذا تكتب ذلك على فيسبوك؟ فمن باب أَولى أن تكرس وقتك لرعايته والاهتمام به». وتقول: «عندما أفكر أجد أن هذه حرية شخصية ومن حق كل فرد أن يفعل ما يريد».
وتضيف: «أكثر ما يضايقني من مستخدمي فيسبوك، خاصةً الفتيات، أن تكتب الفتاة أدق تفاصيل يومها: ماذا تأكل، ماذا تشرب وماذا تلبس، فهذا أجده أمراً مبالغاً فيه. وأكثر ما يغضبني بث المشاعر السلبية والشكوى في كل دقيقة من اليوم، ما يجعلني أكره نفسي، أو بالأحرى أكره صديقاتي اللواتي يصدّرن هذه الطاقة السلبية، وهذا كفيل بأن يجعلني أبدأ يومي بشكل سيِّئ. فإذا كنت تنزعج من شيء، عليك أن تحتفظ به لنفسك، ولا يكون هذا هو الأسلوب المتبع في كل الـstatus التي تكتبها، فلا ينبغي أن نسوّد اليوم على الآخرين بكتابة: «استيقظت من النوم على صداع... هو يوم باين من أوله»، أو «وصلت إلى العمل في ساعتين وتبدأ شتم العاملين معها في الشركة»، وطوال اليوم على هذا الشكل من الشكوى والتذمر. هذا ما أحاول أن أتجنب قراءته».

فراغ

يؤكد عمرو القصري (٣٠ عاماً، مهندس معماري) أن هناك نوعية مفيدة من الـstatus التي يتم تداولها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما فيسبوك، مثل تلك الجمل التي تعلن عن الوفاة وينعى فيها أحد الأشخاص والده أو والدته، ويخبر الناس بمواعيد الجنازة والعزاء، فبذلك ينتشر الموضوع أسرع من ذي قبل، وتعم الفائدة ويمكنه التغلب على عناء الاتصال بكل فرد لإخباره بالوفاة، ومن ثم يتيح لمن يريد اللحاق بصلاة الجنازة ومعرفة مكان العزاء. «وثمة حالات أخرى تستفزني كثيراً وأجد أن لا نفع أو جدوى منها، مثل قيام أحد الأشخاص بكتابة: «تعرضت لحادثة بالسيارة ونجوت بأعجوبة»، ويرفق كلامه بصورة للسيارة وهي متهالكة من أثر الحادث. أرى أن من يفعل ذلك يكون غرضه التسلية، فحتى هذه الحوادث فقدت تأثيرها في الناس، ففي الماضي كانت ستنهال على صاحب الحادث المكالمات للإطمئنان إلى صحته، أما لكثرة ما يُنشر على صفحات التواصل ففقد كل شيء معناه وقيمته الحقيقية. ما دام الشخص بخير ووضع صورة السيارة بعد الحادث على فيسبوك، فأنا أعتبر أنه يعاني الفراغ، وقطعاً لن يتصل به أحد للاطمئنان إليه، فقط سيعلقون له على صفحته. وأنا شخصياً لست مضطراً لمتابعة التفاصيل الدقيقة لحياة مستخدمي فيسبوك».

مشاعر خاصة

«ما الفائدة في أن يكتب الناس: استيقظت لتوّي، ومازلت على السرير، أو أنا في المطبخ! لا أعرف لماذا يكتبون مثل هذه العبارات!». هكذا استنكر ميشال رمزي (٢٦ عاماً، محاسب) ما يتداوله نشطاء فيسبوك من جمل تصف أدق تفاصيل حياتهم اليومية، ويستطرد قائلاً: «أكثر ما يزعجني هو قيام الفتيات أو النساء المتزوجات بكتابة status، مثل: «أنا في المطبخ وأعدّ الطعام الآن لأسرتي»، ثم تنصرف في سرد الأصناف التي تطهوها». فما هذا؟ وما النفع الذي سيعود علينا من معرفة الـmenu الخاص بها على الغداء؟». كذلك أرفض قيام أحد الشبان بعمل tag لكلمات خاصة جداً للفتاة التي يحبها، والتي لا يجوز تداولها على الملأ، والأجدر به أن يتصل بها ويعبر لها عن مشاعره، فلماذا تود أن تخبر الجميع بأنك تغازلها؟!».

وحدة

أما ماكرينا ريمون (٢٧ عاماً، طبيبة أسنان) فترى أن هناك الكثير من الناس لا يستطيعون التعبير عن أنفسهم بالكلام، لذلك تأتي  طريقة ثانية للتعبير وهي الكتابة، إضافة إلى أن هناك أشخاصاً كثيرين يعيشون بمعزل عن الآخرين، لذلك يلجأون إلى هذه الطريقة للتعبير، لكن هناك من يبالغون في ما يكتبون: «أنا دخلت الحمام، أنا أكلت، أنا ذهبت إلى الكوافير». كل هذا يخرج من منطلق أنهم يعانون الوحدة، والكتابة على فيسبوك هي السبيل الوحيد للفرار منها، أما الناس من نوعية من يكتبون: «أُدعوا لأبي فهو يرقد في المستشفى وستجرى له عملية»، فهؤلاء يشعرون بألم دفين وفي الوقت نفسه لا يستطيعون التعبير سوى بالكتابة على فيسبوك. وهناك قطاع آخر من مدمني التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي، وهم مدمنو خانة «الملاحظات» على فيسبوك، فإحساس المستخدم بمدى تفاعل أصدقائه معه يشعره بنشوة عارمة، ويدفعه لكتابة المزيد من الـstatus، حتى أدق التفاصيل وأتفهها، لينعم بعدد «ملاحظات» أكثر فيصبح انتشاؤه أكبر.

وجع وظلم

المدرّسه فاطمة محمد (٥٥ عاماً) أنشأت قبل أشهر قليلة حساباً على فيسبوك، تقول: «أحب أن أعبر عما يجول في خاطري من خلال فيسبوك. قطعاً لا أرى أنني أجعل حياتي مشاعاً للناس، وأنني أنتهك حياتي الخاصة، لكن فقط أحب التعبير عن الحالات التي نمّر بها كبشر، من ظلم وإحباط وعوائق، فمثلاً كتبت اليوم في صفحتي على فيسبوك آية من القرآن الكريم استوقفتني عند القراءة: «ولا تحسبنَّ الله غافلاً عمَّا يعملُ الظالمونَ، إنما يُؤخِّرَهُم ليومٍ تشْخصُ فيه الأبصارُ». كنت أشعر بأنني موجوعة وبداخلي نار ممن ظلموني، فأردت أن أذكرهم وأذكر نفسي بأن لكل ظالم نهاية، لكن كل شيء بميعاد، وأردت أن أوجه رسالة للناس وأحذرهم من اقتراف الظلم على خلق الله، لأن عقابهم سيكون عسيراً».  وتابعت: «أود أن أقول إنني لست بحاجة لأن أفضفض على فيسبوك، أنا لدي من الجرأة والشجاعة ما يتيح لي أن أواجه الناس، لكن أود أن أبعث إلى الناس جميعاً رسالة تذكرة وصحوة في النفوس والضمائر».

الملاذ الوحيد

بينما ترى عفاف توفيق (٤٨ عاماً) أن مشاغل الحياة والضغوط اليومية تجعلها تلجأ إلى أي وسيلة يمكنها من خلالها أن تعبر عن مشاعرها، تقول: «كل يوم أتعرض لضغوط، سواء في العمل أو في المنزل، لم أعد أقابل أصدقائي منذ سنوات، لم أجد أي شخص حولي يشاركني همومي، لم يعد أمامي سوى الفيسبوك كملاذ لأخرج من أحزاني وأنفس عمَّا بداخلي. لا أرى أنني أجعل بذلك حياتي الخاصة على مرأى ومسمع من الجميع، فقط أمارس حقي الطبيعي في التعبير عن رأيي بحرية».

جوع اجتماعي

ويعقّب الدكتور فؤاد الدواش، استشاري الصحة النفسية قائلاً: «مبدئياً هناك ما يسمى إدمان التواصل، أي حالة جوع اتصالي شديدة جداً، فنحن نعاني نوعين من الجوع: جوع بيولوجي وجوع اجتماعي، وعندما نكبر ونبدأ نعي العالم من حولنا، ننتقل من الجوع البيولوجي إلى الجوع الاجتماعي إلى الجوع الانفعالي، ما يحدث أن الشباب على الإنترنت يكتبون كل التفاصيل لأنهم يصلون إلى مرحلة إدمان التفاصيل التي هي جزء من إدمان الإنترنت، وأول علامة له تمضية ساعات طويلة على الإنترنت، واستغناء الشخص عن الواقع ليعيش في عالم الافتراض، وعندما يفتح صفحات التواصل الاجتماعي يود أن يعرف من ذا الذي أرسل إليه رسالة؟ ومن الذي علّق على الـstatus الخاصة به؟ ومن الذي أعجبته البوستات التي شاركها؟ ومن الذي غازله؟ ومن الذي استفزه؟ ومن الذي لم يرد على كلامه؟ فيتحول العالم الافتراضي إلى عالم واقعي، وهذا ما يسمى إدمان الإنترنت».
وبسؤاله عن مدمني خانة «الملاحظات» على فيسبوك، أجاب الدواش: «هذا جزء من إدمان الإنترنت، وتدخل فيه ميول استعراضية ورغبة في استدرار كم إعجاب كبير، بحيث لا يكتفي هذا المدمن بشخص أو اثنين أو ثلاثة، بل يطمح إلى كم أكبر من ذلك، لذا يقوم بإضافة عدد أكبر من الأصدقاء على فيسبوك من الذين يعرفهم أو لا يعرفهم، ليتابعوا البوست الذي يكتبه أو يعلقوا على صورته الجديدة. وفي النهاية أود أن أقول إن المجلة الأميركية لعلم النفس الاجتماعي والشخصية، ذكرت في مقالة تجاوزت الخمسين صفحة، أن الإنترنت يسبب حالة من التناقض النفسي، بمعنى الاتصال بكل أنحاء العالم، في مقابل الانفصال عن المحيط الذي نعيشه».

مؤشر

تقول الدكتورة نادية رضوان، أستاذة علم الاجتماع في جامعة قناة السويس: «ما نقرأه على صفحات التواصل الاجتماعي، من تغريدات أو Status، ما هو إلا مؤشر إلى الفراغ الذي يعيشه الشباب. لا عمل، لا مسؤولية، حتى لا هواية من الممكن ممارستها، فوقت الفراغ لا يعني أن يكون شغل الشباب الشاغل هو استغلال هذا الوقت في التفاهة. هناك فن في تمضية الوقت بعد العمل، أي أنه يتعين على الشباب تمضية أوقاتهم بما هو مفيد أو مُجدٍ. نحن قطعاً لا نملك هذه الثقافة، فما من أسرة تهتم بغرس هواية في نفوس أولادها باستثناء الرياضة، وبالكاد. كذلك التعليم له دور آخر، فنحن هنا لا نتحدث عن المناهج المدرسية، فالتعليم لم يعد يقدم كل ما يساعد على تربية الوجدان، مثل تعلم النوتة الموسيقية على أيدي محترفين، كذلك حصة الألعاب فقدت قيمتها وتأثيرها، إذ كانت المدارس تمتلئ بصالات الألعاب والآلات الرياضية، وكنا نتعلم اللياقة ونُخرج الطاقة السلبية، كذلك كنا نتعلم الأشغال اليدوية كشكل من أشكال الفنون. كل هذه الأشياء كانت ترتقي بالوجدان، نحن الآن مع الأسف هبطنا بمستوى التربية الوجدانية وصقل الروح، وبالتالي أصبح الشباب يعانون الخواء أو الفراغ ولا يستطيعون ملأه إلا بالتفاهات».
تكمل: «عندما اخترع مارك زوكربرغ فيسبوك كان يهدف إلى تعريف طلاب الجامعة بأماكن العمداء والأساتذة والمطاعم والمدينة الجامعية، فكان وسيلة لإيصال المعلومة إلى الطلاب من خلال سؤال يطرح على فيسبوك وتتم الإجابة عليه. لكن للأسف نحن لا نستخدم التكنولوجيا بالطريقة الصحيحة، لأنه قبل استخدامنا التكنولوجيا يجب أن نكون متطورين حضارياً وأكثر وعياً، فما الذي سيعود عليَّ بالفائدة اذا عرفت أن هذه الفتاة أو تلك قد أقامت حفلاً لعيد ميلادها وارتدت أبهى ثيابها؟ وماذا يفيدني إذا ذكرت إحدى الفتيات أنها سافرت إلى الخارج إلا إذا نشرت صورة جديدة للتعريف بمكان جديد؟! هناك أشياء لا معنى لها على الإطلاق. واذا أردت أن تثبت أنك موجود فعليك أن تفعل شيئاً مفيداً، ولا تلجأ إلى التفاهات بهذه الطريقة الفجة والخاوية».