أدنبره: الجميلة التي تتنفس بهاء التاريخ وبذخه

اسكوتلندا,أدنبره,Tasting Scotland,بيت البستاني,المطعم,السوق

أدنبره- ديانا حدّارة 11 أبريل 2015

قبل ست سنوات زرت اسكوتلندا، في آب/أغسطس، وكان البرد الشتوي يغلّف البلاد في عزّ الحر الصيفي في بيروت، فكيف بطقس اسكوتلندا في أول آذار/ مارس الذي يبشّر بالربيع في بيروت! سؤال رافقني أثناء تحليقي بين بيروت ولندن، أجّلت الجواب عنه عند هبوطي في مطار هيثرو- لندن، لتعود وتحلّق معي أسئلة جديدة عن الطقس، وأدنبره العاصمة التي سأمضي فيها اليومين الأولين من الرحلة، وأخوض مغامرة تجربة المطبخ الاسكوتلندي على مدار ستة أيام.

حطّت الطائرة في مطار أدنبره الذي كان هادئًا مقارنة بمطار هيثرو، استعجلت الخطى لألتقي المدينة، ورحت أحدّق في اللوحات الصغيرة التي يحملها في العادة موفدو الشركات المضيفة أبحث عن اسمي بينها، لكن لم يكن في انتظاري أحد.

 لنصف ساعة أجول بناظري علّني أجد أحدًا، إلى أن طلبت مساعدة موظّفة في المطار. فما كان منها إلا أن أخذت مني ورقة البرنامج وراحت تتصل. للأسف كان يوم سبت ولا مجيب. لم تأبه للباوندات التي تخسرها، وكانت دائمة الابتسام وتقول: «لا تقلقي سنجد حلاً». واتجهنا نحو مكتب سيارات الأجرة الموجود في المطار، وطلبت منهم لورين توصيلي إلى فندق G&V في وسط أدنبره التجاري. معلّقة: «يا إلهي ستنزلين في أجمل فندق في أدنبره». 

رغم أن بداية اللقاء الثاني بأدنبره تعثرت بعض الشيء، فإنني كنت محظوظة بمصادفة لورين التي عبّدت لي الطريق بيُسر. لن أنسى اسمها ولا وجهها الضاحك.

دارت السيارة، وأدنبره الجميلة تستقبلني بزخّات مطر لم أدرك ما تحمله من برد إلا عندما وصلت إلى الفندق، حيث لفحتني لسعات البرد خلال المسافة القصيرة جدًا بين السيارة ومدخل الفندق. رغم أن هندسة الفندق الداخلية والخارجية جاءت على النمط الحديث، فإنها لم تخدش جمال الهندسة القوطية للمباني الملتصقة بالفندق، فبدا العصر متصالحًا مع التاريخ بكل تفاصيله.

صباح أدنبره وبدء المغامرة

استيقظت صباحًا، كانت الغيوم تحاول أن تحجب شمسها، فيما مباني أدنبره التاريخية ذات النمط القوطي تقف بأبّهة، متحدّية الزمن ومزاج الطبيعة. رغم إدراكي البرد القارس الذي يجتاح ساعات الصباح الأولى، جلت حول الفندق كمن يجول وسط متحف مفتوح لا سقف له ولاجدران ولا صناديق زجاجية تشير إلى عبارة «ممنوع اللمس»، بل التحف المعمارية بعظمتها وجمالها تسير بينها وتلج دواخلها من دون حواجز. شعرت بأن أدنبره تدخلني في لعبتها منذ الصباح الأوّل، وربما أتيه فيها، ولم ألتقِ أحدًا بعد من زملاء الرحلة! فقرّرت العودة إلى الفندق وتناول وجبة الصباح في مطعمه.

وأخيرًا التقيت زملاء الرحلة، سبع جنسيات من ثلاث قارات اجتمعت على أرض أدنبره

يلفتك في الاسكوتلنديين تواضعهم وشغفهم بعملهم وإتقانه. فبريندا مالكة شركة  Tasting Scotlandكانت دليلتنا التي ركبنا سيارتها، وقادت بنا حوالى الساعتين نحو سانت أندرو في منطقة فيف Fife حيث كنا على موعد خوض التجربة الأولى للمطبخ الاسكوتلندي في مطعم وسوبرماركت بالغوف

Balgove الذي يعرض منتجات المزارع الاسكوتلندية، من لحوم وخضار وخبز وأجبان.

كان المكان يضج بالمتسوّقين وروّاد المطعم. بدأنا رحلة تذوّق الأطباق الاسكوتلندية. طبق الهاغيز Haggis  التقليدي في اسكوتلندا.

انتهينا من الغداء، لنعود إلى أدنبره وفي الطريق مررنا بقرية الصيادين، والبلدة التي تضم أهم جامعة في اسكوتلندا. تستغربين في اسكوتلندا ازدحام التاريخ فيها واحتضان الطبيعة له، إذ أينما ذهبت، سواء في المدن الكبرى أو البلدات الصغيرة، تجدين البيوت التراثية التي يعود تاريخ تشييدها إلى بدايات القرن السابع عشر. هي لا تزال باقية على سيرتها الأولى يتوالى على سكنها الناس جيلاً بعد جيل، أو  تحوّل بعضها فندقًا أو نزلاً، كل هذا وسط طبيعة خلابة ثابتة على جمالها منذ آلاف السنين.

الأمسية الأولى وعشاء في بيت البستاني

عند بهو الاستقبال التقينا سارة ومايكل من VisitScotland، رحّبا بنا بحرارة وبشاشة وجه اعتدت عليهما في أدنبره، هنا مقولة «إنّ الإنكليز باردو الطبع لا تصلح»، فكل من التقتيه في أدنبره كان بشوش الوجه مضيافًا. في التاكسي اللندني توجّهنا إلى مطعم The Gardener’s Cottage  وهو عبارة عن بيت تاريخي يقع في Royal Terrace Gardens عند أقدام هضبة كالتون في قلب موقع أدنبره للتراث العالمي. كان يملك البيت بستاني، وقد صمّمه وليم بلايفير وشيّده عام 1836. والحدائق التي صمّمها بلايفير تضمنت ممرًا سريًا لملك فرنسا المنفي شارل العاشر، ليعبُر من بلاطه هوليرود هاوس Holyroodhouse إلى الكنيسة. ومهما يكن من حكايات تروى عن المنزل، فإنه تحوّل مطعمًا يملكه الشيف دال مايلي والشيف إدوارد موراي. يتألف المطعم من غرف عدة، احتُفظ فيها بالكثير من أثاث المنزل الأصلي، فشعرت بأنني في ضيافة سكان البيت وليس أصحاب المطعم.

انهالت علينا الأطباق السبعة الواحد تلو الآخر. رغم صغر الوجبة فإنّها كانت كافية لتشعرني بالتخمة، معظمها من ثمار البحر.

اليوم الثاني: دروس في الطهو وتسوّق وغداء وعشاء في عوالم الدوقات

في صباح اليوم الثاني، استيقظت والحماسة تدفعني للتوغل في معرفة أدنبره. توجّهت وزملاء الرحلة إلى شارع كوين وسط أدنبره التجاري حيث تقع مدرسة الطهو Edinburgh New Town Cookery School. يطغى على مدخل المدرسة الرئيس اللون الأزرق والتصميم الهندسي البسيط ويضم بوتيكًا يعرض الحلوى الطازجة، اصطحبتنا فيكتوريا أندرسون أستاذة الطهو إلى الطبقة العلوية حيث المطبخ. المبنى تاريخي والمدرسة تحتفظ بكل تفاصيله التاريخية، والأعمدة الرومانية تقف بين قسمي المطبخ. حول الطاولة المستطيلة الكبيرة جدًا توزعنا. بدأ درس الطهو، وفي أولى الخطوات علّمتنا فيكتوريا كيف نمسك السكين في عملية التقطيع. عرّفتنا مدرّستنا الى الفارق بين السلمون البري والسلمون المدجّن، فالأول أكثر احمرارًا وأقلّ دهنًا، فيما المدجّن لونه فاتح وأكثر دهنًا تلاحظينه من الشرايين البيضاء الدقيقة الموجودة فيه. الدرس الثاني كان عن الهاغيز Haggis الطبق التقليدي الاسكوتلندي، وعرفتنا إلى نكهاته المتعددة والفارق بينها ثم كيف نحضّر فطائر الهاغيز. حان وقت التطبيق، ارتدينا مئزر الطبخ، أمسكنا بالسكاكين وجهّزنا الألواح الخشبية.... وزّعت علينا عجينة الباف، وبدأ كل واحد منا ينظر إلى الآخر ليرى ما إذا كان شكل فطائره أجمل. وضعت فطائرنا في الفرن، وبدأنا تحضير حلوى الكريما والفريز. لا أخفي سرًا أن يدي آلمتني وأنا أخفق الكريما لتتكثف وتصبح شبه جامدة، الكل سألها لمَ لا نستعمل الخفّاقة الكهربائية، ليأتي الجواب أن الخفاقة حركتها دائرية بينما حركة يدنا يجب أن تكون مستقيمة. أنهينا تحضير كؤوس الحلوى، وخرجت صواني الفطائر. لم أتوقّع أن يكون شكل فطائري مقبولاً، لكن يبدو أن النار فعلت فعلها في صقلها.

تركنا مدرسة الطهو متوجهين نحو مطعم أمبير الموجود في مبنى تاريخي ملاصق للفندق الذي ننزل فيه. «حسن، إنها رحلة تذوّق اسكوتلندا عبر الأكل». أثناء دخولنا المبنى، شعرت بأنني أغور في باطن التاريخ. نزلنا السلم لينكشف مطعم رغم رحابته طغت عليه الحميمية والدفء. اخترت السلطة كبداية ثم طبقًا من ستيك الغنم... لا يمكن إلا أن تكوني شرهة فالطبق لا يقاوَم.

إلى السوق در!

بعد الغداء، قرّرت أن أتعرف أكثر الى أدنبره. فالمثل اللبناني الذي يقول «كل الدروب تؤدي إلى الطاحون»، ينطبق على أدنبره، والطاحون كان بالنسبة إليّ الفندق. نزلت نحو شارع كوين حيث التسوّق متعة، ولم أسمح لنفسي أن تساورني بالتبضع رغم التنزيلات المغرية، بل اكتفيت بالتعرف إلى البوتيكات واكتشاف الأسعار.

عدت وأخذت الطريق صعودًا. فأدنبرة مدينة تستريح على هضبة، وقد شيّدت على نمط طبقات متدرّجة من أسفل الهضبة إلى قمّتها، لذا تكثر فيها السلالم التي تربط الشوارع المتوازية. من الجميل أن تعبري بين أزقة التاريخ وتنزلي أدراجه وتصعديها. لفتني حب سكان أدنبره للخروج والاستمتاع بمدينتهم رغم أنف البرد والثلوج، فكثيرًا ما كنت أصادف زوجين برفقة أطفالهما او أمًا تدفع عربة طفلها الجرّارة. هنا لا يأبهون للبرد. كما أنني نادرًا ما صادفت أشخاصًا بدناء، ربما السبب خلطة البرد والمشي التي تساهم في حرق الكثير من السعرات، لأنّ الجسم يدافع عن نفسه بتسريع الأيض ليشعر الشخص بالدفء.

أزقة مقبّبة ومبانٍ تحكي التاريخ ومتنزهات تدور في فلك قلعة أدنبره

أجول وأصول ولا أكتفي، أحار في التقاط الصور بين متنزّه القصر ومتنزه الأمير ومتنزه سكة القطار... كلها متنزهات يزنّرها التاريخ بأبّهة، أجرؤ وأسمح لنفسي بالتيه، لكن شوارع  أدنبره كانت تدلّني. هنا كل تفصيل ينطق بجمال الفن القوطي، أحيانًا كثيرة أقف أمام مبنى عملاق، وأسأل كيف شُيّد قبل قرون بهذه الدقة وهذا الارتفاع، حين لم تكن هناك تكنولوجيا سوى مخيّلة فنان ينحت بهذه الدقة وحرفي ومعوله وبنّاء يشيّد بيديه، ووسط الصقيع! ولجت بين أزقة أدنبره المقبّبة وصعدت السلالم، إلى أن بلغت محيط الفندق. نظرت إلى القلعة Edinburgh Castle القريبة من الفندق والواقفة منذ القرن الثاني عشر بشموخ عند هضبة صخرية تشرف على المدينة بأكملها. قلت لا بد من أن أصعد إليها. رغم البرد كانت مزدحمة بالسياح، ولا عجب في ذلك! فعندما وقفت عند سور باحتها الخارجية، كان مشهد أدنبره خلابًا لدرجة تأسر الألباب. الكل كان مثلي يتسابق مع السحب وهي تحاول حجب الشمس، لالتقاط الصور لهذا المشهد البانورامي.

عشاء الأمسية الأخيرة في أدنبره ثلج يتساقط على إيقاع التاريخ

بعد الجلسة القصيرة توجهنا إلى فندق بريستونفيلد. عندما تدخلين إلى الفندق، لا بد من أن تصابي بالدهشة لفخامة هذا الفندق التي تنمّ عن ترف يعود إلى القرن السابع عشر. فهذا الفندق- البوتيك كان يملكه السير وليام بروس. جاءت هندسته الداخلية على طراز

 Pre-Victorian وأثاثه فيه من الفخامة ودقة التفاصيل ما جعلني أتخيل الليدي التي كانت تسكن هذا القصر، وهي تستقبل صديقاتها الدوقات، وحفيف فساتينهن وهن يتمايلن بين جدران غُلفت بالورق المزخرف أو القماش المبطّن، ويتهامسن على ضوء الشموع والثريات واللوحات وينظرن من الشرفات العملاقة إلى تساقط الثلج بهدوء على الحديقة التي تزنّر القصر.

تناولنا العشاء على ضوء الشموع في أحد أجنحة مطعم روبارب Rhubarb في هذا الجو الأرستقراطي بكل تفاصيله. من الجميل أن تجولي في عالم الطبقة المخملية، وتتقمصي حياة الترف ولو لساعة.

انتهت أمسيتي الأخيرة في أدنبره بغطاء من الثلج الأبيض الذي كسر ديجور الليل، لأصبح على مشهد أدنبره البيضاء. ودّعت أدنبره التي أدخلتني في جوف تاريخها فقرأت ما بين سطورها ألغاز مدينة متشبثة بأمجادها، أُلغيت الألقاب بين سكانها ولكن بقيت روحها مترفة بالفن وشغف الحياة.

انطلقت الحافلة إلى لوك لوموند Loch Lomond، فهل ستتمكن هذه المنطقة من أن تنسيني الجميلة أدنبره؟

معلومات مفيدة

-ممَّ يتكوّن طبق الهاغيز؟
الهاغيز عبارة عن روستو مكوّن من اللحم، إما لحم غنم أو عجل، والشوفان والبصل والبهارات الحرّيفة. وهناك الهاغيز النباتي المكوّن من الشوفان والفطر والبصل والبقوليات والبهارات الحرّيفة. وشخصيًا فضّلت الهاغيز النباتي، خصوصًا المحشو  بيضًا مسلوقًا.

Edinburgh New Town Cookery School

يمكن الحجز في مدرسة الطهو لتمضي نهارًا تتعلمين خلاله طهو بعض الأطباق. كما توفر المدرسة صفوفًا للأطفال والمراهقين لخوض تجربة فريدة. للاستعلام والحجز:

 http://www.entcs.co.uk/، [email protected]

www.tastingscotland.com

[email protected]

للحجز في فندق

 G&V www.thescotsmanhotel.com

للحجز في فندق بريستونفيلد ومطعم روبارب.

www.prestonfield.com

Dining-RhubarbRestaurant.html/

{G&V يختصر الحرفان، اسميّ  جورج وفيكتوريا، لأنّ الفندق يقع عند تقاطع شارع جسر جورج الرابع وشارع فيكتوريا.

CREDITS

شكر خاص : شكر خاص إلى شركة British Airways و VisitBritain وVisitScotland وفندق G&V