قصة امرأة تنكرت بملابس الرجال 43 عاماً

مجتمع صعيدي,الزوج,امرأة,ملابس الرجال

القاهرة - نسرين محمد 11 أبريل 2015

ظروف قاسية وتقاليد أكثر قسوة في مجتمع صعيدي متشدد، دفعتها الى هجر أنوثتها في جلباب رجالي دخلته حليقة الرأس، بعدما رحل زوجها وهي حامل في شهرها السادس بفتاة أرادت أن تحميها من رجل غريب لا يحسن معاملتها، فغادرت عالم النساء مُكرهة واقتحمت عالم الرجال متنكرة بجلباب صعيدي و«عمة» وحذاء رجالي، لازمتها على مدى 43 عاماً حتى تجد فرصة عمل تضمن لهذه الصغيرة حياة كريمة... ورغم أن الصغيرة صارت عروساً وأنجبت خمسة أطفال، ظلت المرأة على هيئتها كرجل، رافضة الكشف عن ملامحها الأنثوية التي ودّعتها بلا رجعة.

صيصة أبو دوح النمر، قصة كفاح امرأة صعيدية عنيدة دفعتها بقوة للفوز بجائزة الأم المثالية، والتي أعلنتها وزيرة التأمينات الاجتماعية المصرية بمناسبة الاحتفال بيوم الأم هذا العام، تقديراً لهذه السيدة على ما بذلته من تضحية من أجل ابنتها الوحيدة، الى درجة جعلتها تتنكر بملابس الرجال حتى تجد فرصة عمل بين عمال المعمار أو ماسحي الأحذية، توفر لها بضعة جنيهات تمكّنها من إطعام صغيرتها، بعد أن تنكر لها أشقاؤها بسبب رفضها الزواج برجل ثانٍ بعد رحيل زوجها، وتفضيلها رعاية ابنتها الوحيدة.

المرأة التي لا يربطها بعالم النساء سوى بطاقة هوية دوِّن فيها أنها أنثى، تبلغ من العمر الآن 64 عاماً، ورغم ذلك تصر على مواصلة رحلة كفاحها في رعاية أحفادها الخمسة، بعدما عجز والدهم عن العمل بسبب مرضه الذي ألزمه الفراش، فوجدت نفسها مطالبة بأداء رسالة جديدة في الحياة من أجل هؤلاء الصغار.

رحيل الزوج

قصة كفاح «صيصة» بدأت في السبعينات من القرن الماضي في محافظة الأقصر في صعيد مصر، حيث كانت وقتها عروساً تبلغ من العمر 21 عاماً، تعيش في سعادة مع زوجها أحمد كامل- حبها الأول والأخير كما تقول- ذلك العامل البسيط الذي كان يخرج في الصباح للعمل في المزارع ويعود إليها ليلاً، لكن جاء اليوم الذي لم يعد فيه، إذ توفي في حادث سيارة تاركاً لها ابنة في أحشائها جاءت الى الدنيا بعد ثلاثة أشهر بلا أي مورد للرزق، فأُجبرت مكرهة على بيع أثاث منزلها قطعة وراء الأخرى لتصون هذه الصغيرة.

 «الست الأصيلة لما زوجها يتوفى تصون أولاده»، هكذا تبرر «صيصة» عدم انصياعها الى رغبة أشقائها الستة في الزواج بآخر يتمكن من الإنفاق عليها، وهو ما دفعهم الى الابتعاد عنها رافضين تقديم أي مساعدة مالية تمكنها من إطعام صغيرتها للضغط عليها، ولأنها تعيش في مجتمع صعيدي يرفض بل ينبذ عمل المرأة، فلم يكن أمامها سوى أن تودّع أنوثتها حتى تتمكن من العمل للإنفاق على هذه الصغيرة.

بداية الرحلة

حلقت «صيصة» شعرها مثل الرجال، وارتدت جلباب زوجها وحذاءه، ثم وضعت «العمة» الصعيدي على رأسها وخرجت للبحث عن عمل في سوق الرجال. ولأنها لا تريد الكشف عن هويتها، لم يكن أمامها سوى الأعمال الشاقة التي لا تبحث عن هوية صاحبها بمقدار بحثها عن قوته ومدى قدرته على القيام بها، فعملت في البناء، تارة تحمل «قصعة» الإسمنت، وتارة أخرى تحمل الطوب على ظهرها غير مبالية بآلامها المستمرة. تضحك «صيصة» وهي تروي ذكرياتها عن تلك الأيام الصعبة، قائلة: «كنت أحمل قوالب الطوب أصعد بها ثلاثة طوابق مقابل 160 قرشاً و «قصعة» الإسمنت كانت بـ25 قرشاً، بينما كنت أحصل على يومية جنيهين في صناعة الطوب اللِبن، ورغم ذلك قدرت أعيش وأحافظ على ابنتي هدى».

«صيصة» حاولت قدر الإمكان ألا تحرم ابنتها من التعليم حتى يكون حظها أوفر في الحياة، فألحقتها بالمدارس حتى حصلت على الشهادة الابتدائية، لكنها لم تستطع بعد ذلك الإنفاق عليها في باقي مراحل التعليم، فأخرجتها من المدرسة لتزوجها بعد أربع سنوات وهي في السادسة عشرة من عمرها.

زواج الابنة

«كنت الأم والأب في نفس الوقت، ولو كان بيدي  أن أشتري لها قصراً لكنت اشتريت»، بهذه الكلمات تعبر السيدة المكافحة عن سعادتها بزواج ابنتها، فرحة عمرها الوحيدة، والتي تريد أن تراها دائماً سعيدة، لذا تركت لها وصية بألا تحزن عليها عند وفاتها، بل عليها أن تفرح لها لأنها ذاهبة للقاء والدها.

«صيصة» ظنّت أن رسالتها في الحياة انتهت مع زواج ابنتها وتسليمها الى رجل يحافظ عليها، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، بحيث مرض زوج الابنة وأصبح طريح الفراش عاجزاً عن العمل، لتجد نفسها من جديد مسؤولة عن ابنتها وزوجها وخمسة أحفاد، لكن المرأة لم تعد قادرة على العمل مثل الماضي تحني ظهرها لتحمل الطوب أو ترفع المونة على رأسها، فصنعت صندوقاً لتلميع الأحذية ذهبت به الى مدينة الأقصر بملابسها وهيئتها الرجالية، تجلس على الأرصفة في انتظار من يأتي لها بحذاء متسخ تحوله بأصابعها الى آخر جديد.

نعمة الرضا

«السياح كانوا بيحبوني وبينادوني عثمان، وأهل الخير بنوا لي الغرفة التي أعيش فيها»، هكذا تصف حياتها في الأقصر، معبّرة عن سعادتها بغرفة لا تتجاوز مساحتها 10 أمتار تفتقر الى كل مقومات الحياة الآدمية، ورغم ذلك هي سعيدة بكل ما فيها، بل تحاول إسعادك وهي تحكي عن ثلاجتها الخمسة أقدام التي تمتلكها في هذه الغرفة، لتكتشف في الحقيقة أنها «زير» تضع فيه المياه لتشرب منها فتذكرك بنعمة الرضا.

«عمري 64 عاماً، عشت منها 43 عاماً رجلاً، أرجع ست تاني إزاي»، بهذه الكلمات ترد «صيصة» على أي شخص يطالبها بترك الجلباب الرجالي الذي ترتديه والعودة الى ملابس النساء، خاصة أن المسؤولين في الدولة منحوها أخيراً «كشكاً» تقديراً لرحلة كفاحها في الحياة، بعدما علموا بحكايتها، لدرجة أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ألتقاها بغية تكريمها.

رجل للنهاية

وتضيف أنها أصبحت رجلاً الى درجة أنها تشعر بالضيق عندما ترتدي الملابس النسائية، بل إن صوتها صار خشناً مثل الرجال لكثرة معايشتها لهم، خاصةً عندما كانت تعمل في مجال البناء وتضطر أن تجعل صوتها غليظاً حتى لا يكتشف أحد أمرها، علاوة على ذلك فهي لم تفعل ما يغضب ربها بهذه الملابس، حيث ترتديها من أجل عمل شريف لا أكثر.

43 عاماً عاشتها متنكرة بملابس الرجال، لم ترتد الملابس النسائية فيها سوى مرتين ذهبت فيهما لأداء العمرة، بعد أن تبرع لها أحد فاعلي الخير، حيث حملت جواز سفر أعاد إليها أنوثتها التي ما زالت تحتفظ بها من خلال صورة لقسيمة زواج تعلقها على حائط غرفتها مدوّن فيها اسمها كعروس.

مصدر السعادة

«صيصة» نموذج لامرأة مقاتلة تحدت كل الظروف ونحتت في الصخر وفاءً ومحبة لرجل اختطفه منها الموت قبل أن يكون التزاماً بمسؤولية تجاه ابنتها، تلك الإبنة التي تعشق والدتها الى درجة الهوس، بل تتمنى أن ترحل عن الدنيا قبل هذه السيدة العظيمة، فهي لا تتصور حياتها من دونها، ورغم كل الظروف التي مرت بها «صيصة»، لم تفارق البسمة وجهها لتدخل السعادة إلى قبل ابنتها، لذا استحقت عن جدارة الفوز بجائزة الأم المثالية.