التسرب في السعودية... مسؤولية الأسرة أم المدرسة؟

السعودية,التسرّب المدرسي,الاسرة,المدرسة,الانفصال

عزيزة نوفل (السعودية) 13 سبتمبر 2015

أطفال ومراهقون يجوبون الشوارع هاربين من المدرسة. مظهر قد ترى ملامحه بالقرب من المقاهي ومحال البقالة في السعودية، وسط إهمال من الأهل وتسيب في النظام المدرسي... مشكلة تتجاوز عدم الحضور والتغيب المستمر لتصل الى درجة ترك المقاعد الدراسية من دون إكمال التعليم الأساسي. مشكلة يساهم في انتشارها الكثير من العوامل، وتتشعب لترسم العديد من اشارات الاستفهام حول أسباب وجود هذه الآفة التي تهدد مستقبل الأطفال، نتيجة الجهل والظروف المادية والاجتماعية الصعبة. حالات حقيقية تكشف عن أسباب التسرب والتخلف عن الدراسة في المملكة، نوثّقها بآراء مختصة للكشف عن الحلول...


تخلّف ابنها عن الدراسة بسبب والده المدمن
السيدة صباح (أم فادي)، امرأة في الثلاثين من عمرها لم تقتصر معاناتها مع زوجها المدمن على مجرد الضرب والتعذيب الجسدي واللفظي، بل تفاقمت مشكلتها لتطاول إهماله في استصدار الأوراق الثبوتية لها ولأبنائهما الثلاثة، كونه لم يضمهم بشكل رسمي الى بطاقة العائلة، فابنها البكر يبلغ العاشرة من عمره، ولم يتمكن من الالتحاق بالمدرسة بعد، لغياب الأب، وعدم توافر الوثائق المطلوبة لتسجيله في المدرسة. ورغم الحالة المادية والنفسية الصعبة، تعيش صباح في حسرة لحرمان أبنائها الثلاثة من التعليم، وضياع مستقبلهم أمام عينيها، بينما لا تقوى هي إلا على توفير لقمة العيش بمساعدة أهل الخير.

ظروف سجن الأب أجّلت تسجيل ابنها في المدرسة
وقفت بعض إجراءات الإقامة حاجزاً أمام تطلعات السيدة أم علي والتي تبلغ (29 عاماً)، حيث إنها وقبل أعوام عدة لم تتمكن من تسجيل ابنها الأكبر علي في المدرسة، بسبب دخول زوجها السجن لما يقارب العامين، مما أدى الى تأخرها في استكمال بعض الإجراءات الضرورية لتسجيل ابنها في المدرسة. ولكن بعد محاولات عدة، استطاعت تسجيله رغم تأخره سنة كاملة عن الدراسة، مما جعل مسألة انفصاله عنها والذهاب إلى المدرسة أمراً صعباً للغاية.

عدم مبالاة الأهل دفعت الابن الى ترك المدرسة باكراً
وترى السيدة أم بيان (33 عاماً)، «أن مشكلة التسرب المدرسي تعود بشكل كبير الى إهمال الوالدين، وذلك تبعاً لما عايشته من موقف أحد الجيران حيال ترك أبنائهم المدرسة. فجارهم المتزوج من ثلاث سيدات، والذي رُزق بـ 12 ولداً، لم يجد الوقت الكافي لمتابعتهم في المدارس، أو حتى التحقق من دوامات حضورهم، حيث اكتشفت من طريق ابنها الأكبر أن أحد أبناء هؤلاء الجيران مفصول من المدرسة، ويقوم بخداع والديه بالذهاب كل صباح الى المدرسة بينما يقضي جل وقته مع أصدقائه، ويفكر جدياً بترك المدرسة نهائياً وهو لم يتجاوز الـ 11 عاماً بعد. ورغم شعور أم بيان بالمسؤولية تجاه ذلك، لكنها لا تجد جدوى من إبلاغ والديه، لكونهما يعلمان أن لديهما أبناء أكبر منه سناً تركوا المدرسة ولم يكملوا حتى تعليمهم المتوسط، من دون أن يحرّكا ساكناً.

تركت المدرسة بعد الزواج والإنجاب
أما ثناء عبدالله (28 عاماً)، فقد عاصرت تسرب إحدى زميلاتها من المدرسة في المرحلة المتوسطة. وتؤكد أن زميلتها التي كانت تبلغ 14 عاماً، تزوجت من أحد أقاربها في هذه السن المبكرة، مما دفع إدارة المدرسة الى تحويلها طالبة منازل. ولظروف حملها وولادتها التي تزامنت مع موعد الامتحانات، لم تتمكن من النجاح، بل إنها رسبت في امتحان «الدورة الثانية»، مما دفعها الى ترك المدرسة والانشغال بمسؤولية الزواج والأولاد، وهي لم تُكمل المرحلة المتوسطة بعد، مما يؤثر في تربية ابنائها ومستواهم العلمي.

حلم الزواج قد يدفع الكثيرات الى الهرب من المدرسة
وفي تحدٍ بارز، تروي هند عبدالجبار (29 عاماً) قصتها مع إنهاء تعليمها بعد تسربها من المدرسة، حيث كانت تكره المدرسة كثيراً وهي في سن صغيرة، فتحاول التغيب واختلاق المشاكل لترك المدرسة، وذلك يعود في رأيها الى بيئة المدرسة وتعامل المعلمات غير المتفهم معها، حيث انقطعت عن الدراسة في عمر 16 عاماً، من دون أن ترسم لنفسها أي مستقبل من خلال نيل إجازة جامعية أو حتى الحصول على وظيفة. كانت تود وبكل بساطه الزواج وتكوين عائلة، رغم معارضة أهلها قرارها غير المسؤول، إلا أنهم رضخوا لرغبتها، فتزوجت بعد مدة وجيزة ومرت بتجربة أليمة أدت إلى طلاقها وهي لم تتجاوز الـ 18 عاماً بعد، مما جعلها تمر بأزمة نفسية صعبة، لتكتشف متأخرة أن مفتاح نجاحها يكمن في إتمام دراستها، فالتحقت بصفوف التعليم الثانوي، وتسجّلت من ثم في الجامعة - قسم هندسة الديكور وتخرجت فيه منذ عام مضى، وتؤكد من خلال تجربتها أن لا شيء يضاهي نعمة التعليم والشهادة الجامعية».


التسرب في المرحلة الابتدائية لا يشكل ظاهرة محلية
وفي تفريق ما بين مفهوم التسرب المدرسي والتخلف عن الدراسة، تبين مديرة إحدى المدارس الابتدائية والتي فضّلت عدم ذكر اسمها، أنه وعلى مدى عملها في مجال التعليم لمدة تتجاوز الـ 13 عاماً، لم تسجل حالات تسرب كثيرة من المدرسة الابتدائية، وغالباً ما يستكمل الطلبة المنتظمون تعليمهم، ولكن قد يترك بعض التلامذة مقاعد الدراسة بشكل موقت لأسباب قد تتعلق بطلاق الوالدين مثلاً، أو لمشاكل في نظام الاقامة بالنسبة الى الطلبة المقيمين. أما التخلف عن الدراسة وعدم التسجيل في الصفوف الابتدائية فهما موجودان بنسب ضئيلة جداً، ويعودان في الغالب الى عدم ضم الزوج السعودي لأبنائه من أم غير سعودية بشكل رسمي في بطاقة العائلة، إضافة الى إهمال الأبوين وجهلهما أو لمشاكل اجتماعية أو مادية. وكتشجيع على التعليم، يتم قبول فئة الطلبة الذين تخلفوا عن التسجيل في السن المناسبة، وإخضاعهم لاختبارات تحديد المستوى من جانب إدارة التعليم، بغية وضعهم في المرحلة التي تناسبهم، حيث يمكنهم من خلال عبور هذا الامتحان القفز من الصف الأول إلى الصف الثاني...

البيت والمدرسة ليسا السبب الوحيد للتسرب من المدرسة
وفي السياق ذاته، تؤكد إحدى معلمات المرحلة المتوسطة والتي فضّلت عدم ذكر اسمها أيضاً، «أن مسألة التسرب المدرسي منتشرة بشكل كبير في المرحلتين المتوسطة والثانوية، وهي تعود الى أسباب كثيرة، منها ما يتعلق بالمناهج الدراسية الطويلة والصعبة أو غير المرتبطة ببيئة الطالب فلا تناسب ميوله واحتياجاته، وأخرى تتعلق بطرق التدريس التي تفتقر الى عنصر التشويق وجذب الطالب، إضافة الى قلة خبرة بعض المعلمين وعدم مراعاتهم الفروق الإدراكية بين الطلبة، وعدم محاولة استيعاب مشاكلهم، واستخدام أسلوب الشدة المفرط الذي ينفّر بعض الطلبة من الدراسة.
ويجب الاشارة أيضاً الى أن كثرة المغريات خارج المدرسة قد تدفع الطالب الى الانشغال بأمور أخرى تفقده الرغبة في التعلم وتمنحه شعوراً باللامبالاة والرسوب المتكرر. والجدير ذكره أن للمدرسة والمرشد الطلابي دوراً مهماً في علاج هذه المشكلة ومحاولة التنسيق بين البيت والمدرسة، لكون المدرسة لن تنجح في أداء دورها إلا إذا جمعت ما بين وظيفتي التربية والتعليم، في محاولة لدمج الطالب في الوسط المدرسي، ومساعدته على التكيف بأساليب محببة، تخلق التوازن والتقارب ما بين بيئة المنزل وبيئة المدرسة. وأخيراً، تعد متابعة الأهل أمراً أساسياً في استكمال تعليم أبنائهم، فالإهمال والمشاكل الأسرية تؤدي أحياناً الى ترك الطالب مقاعد الدراسة».

«قلق الانفصال» مشكلة لا يمكن التغاضي عنها
ومن ناحية نفسية، يرى الدكتور علي محمد زائري استشاري الطب النفسي، «أن مشكلة التسرب تعود الى بداية المرحلة التعليمية، ومشكلة «قلق الانفصال» منتشرة بكثرة بين الأطفال، خصوصاً إذا ذهبوا الى المدرسة في مراحل متأخرة. فارتياد الطفل روضةً أو حضانةً يمهّد لذهابه الى المدرسة في صفه الأول الابتدائي.
كما أن تهدئة الطفل ومحاولة دمجه بطريقة محببة في جو المدرسة، ومرافقته في الأسابيع الأولى من الدراسة... من شأنها أن تحد من مشكلة «قلق الانفصال» لدى الأطفال، لأن الكثير من الأطفال يخافون أن يتركهم ذووهم في المدرسة وألا يعودوا اليهم ثانية... وعدم معالجة هذه المسألة في مراحل مبكرة، سيجعل من «قلق الانفصال» مشكلة ترافق الطالب في كل مراحله العمرية، ويعزز كرهه للمدرسة وتحصيل العلم.

الاضطرابات النفسية غير المشخصة قد تكون سبباً في التسرب
ويرى الدكتور زائري أن التسرب من المدرسة، يعود الى أسباب عدة تتعلق بالمشاكل النفسية والمادية والاجتماعية، فقد يعاني أحد الطلاب اضطراباً نفسياً غير مشخص، كالتأخر العقلي والإدراكي البسيط، أو فرط الحركة، أو صعوبات في التعلم. وللأسف لا يوجد في المدارس عموماً اختصاصي يشخص مثل تلك الاضطرابات، أو حتى اختبارات لتحديد مستوى الذكاء والإدراك، مما يجعل العملية التعليمية صعبة على الطالب في بداية حياته، وسط جو غير مريح في المدرسة عماده الضغط والكبت والتهديد، من دون علاج مشكلته الاساسية أو النظر الى إمكانياته، مما يدفعه الى الهرب من المدرسة التي تكون أشبه بالمعتقل بالنسبة إليه. لذا، فإن مسألة إتمام التعليم بشكل عام تعتمد أساساً على المدرسة والأسرة، وتخلف الطالب عن المدرسة مهما كان سببه يعتبر جنحة لا بد من أن يعاقب عليها القانون، لكونه نوعاً من أنواع الإيذاء المتمثل بالإهمال.


معدلات التسرب من التعليم الابتدائي تقل عاماً بعد عام
واستكمالاً لما سبق ذكره، يرى استشاري طب الأسرة والمجتمع في جامعة الملك خالد الدكتور خالد الجلبان، أن التسرب المدرسي مشكلة مؤرقة، هدفت المملكة على مدى سنين لمكافحتها، كونها تشكل خطراً على بنية المجتمع وتُحدث ثغرة ما بين أفراده، اضافة إلى أنها تزيد من معدلات الجريمة والبطالة والتسول. ويرى الجلبان أن نسبة انتشارها تتعلق بشكل كبير بالمجتمع المحيط، حيث تقل في المدن وتكثر في القرى والمحافظات الصغيرة، وذلك تبعاً لطبيعة الثقافة والتعليم السائدة في كل منطقة. ووفقا لآخر الإحصاءات، فإن معدل تسرب الطلبة من التعليم الابتدائي تراجع عنه في السنوات السابقة ليبلغ 1.3 %، مما يبشر بزيادة الوعي العام بأهمية إتمام التعليم وخصوصاً في المراحل الأساسية منه.