تحميل المجلة الاكترونية عدد 1074

بحث

اعترافات لص تائب: وضعتُ يدي تحت عجلات القطار لأُقلع عن السرقة!

محاولات عدة للتوبة سرعان ما كانت تبوء كلها بالفشل، بعد أن ينجح شيطان عقله في إبطال مفعول ضميره الذي يستيقظ للحظات يعود بعدها إلى السُبات العميق، تاركاً له المجال ليرتكب ما يحلو له من جرائم، حتى كان القرار الحاسم عندما نصّب نفسه قاضياً أصدر الحكم، وجلاداً نفذ العقوبة بحق نفسه، في لحظة سيطرت عليه القسوة، فبتر يديه ليريح ضميره إلى الأبد.


علي عفيفي، مجرد اسم كان يتردّد بعد كل حادث سرقة يفشل فيه المحققون في إيجاد أي دليل يقود إلى ضبط مرتكبه، بعدما ذاع صيته في الوسط الإجرامي، وبات يلقّب بـ «الصاروخ» أو «الملقاط» تعبيراً عن حجم الجرائم التي يرتكبها وهو خارج دائرة الاشتباه، لكن بقراره القاسي تحول لقبه إلى التائب.

اللص الصغير
شاب في العقد الثالث من العمر، تحوّل منذ كان في السابعة من عمره إلى لص محترف، ارتكب العديد من الجرائم بحق زملائه في المدرسة، حيث بدأ معه الأمر بسرقة طعام بعضهم، في ظل عجز أسرته عن توفير مثل هذه الأنواع من المأكولات. وسرعان ما تطور الأمر وتحوّل إلى سرقة كتب المدرسة من أقرانه، لإنزال العقاب بهم كنوع من الانتقام من بعضهم والتنكيل بالبعض الآخر، ليتحوّل الأمر من تجاوز طفل صغير إلى إدمان واحتراف للسرقة.
لم يكن من السهل على أحد في المدرسة أن يصدّق أن الجرائم التي ترتكب يوماً بعد الآخر بطلها هذا الطفل البريء، ابن الشيخ الجليل الذي يعرفه كل أهل بلدته في إحدى قرى محافظة الغربية في دلتا مصر، بالتقوى والورع، فكيف لهم أن يصدقوا أن ابن الشيخ لص محترف.

كشف المستور
كاد الأمر أن يكون سراً لا يعرفه غير هذا الطفل اللص، حتى كان في الحادية عشرة من عمره، بعد ارتكابه أول حادث سرقة بأربع سنوات من دون أن يُكتشف أمره، حيث شاهده مدرّسه أثناء قيامه بفتح حقائب أقرانه في المدرسة والاستيلاء على ما في داخلها من أدوات مدرسية، ووقتها عرف بأنه وراء تلك الحوادث التي كانت ترتكب.
يقول علي، أو «ملقاط» كما كان يلقب: «كنت أحصل من والدي على أموال لشراء احتياجاتي المدرسية، إلا أنني كنت أنفقها على شراء الحلوى وأسرق ما أحتاج إليه من حقائب زملائي، لكن مدرّس الرياضيات عندما رآني أبلغ أبي بالأمر، ليدرك الشيخ أنه فشل في تربية صغيره الذي أصبح لصاً».
يضيف: «لا أنسى حتى اليوم نظرة الحزن التي رأيتها في عين مدرّسي في ذلك اليوم، عندما علم بكوني لصاً، ولا نظرة الصدمة في عيني أبي عندما أخبره معلمي، وهو يقف بين يديه يلقي على مسامعه تفاصيل جرائمي المتكررة».

محاولات النصح
يضيف علي: «تعامل والدي مع الأمر على أنه مرض، وحاول إبعادي عن هذا الطريق بالنصح والهدايا لعلّي أتوقف عن السير في هذا الطريق، وهو ما وعدته به، لكنني سرعان ما كنت أعود من جديد، وكان والدي يتوجه إلى المدرسة لسؤال مدرّسي عما إذا كانت هناك حوادث سرقة ترتكب أم لا، وكان يعلم بالطبع أنني وراءها».
تحوّل الضرب إلى نوع من العقاب استخدمه الأب في محاولة لإصلاح ابنه، ووصل الأمر إلى حرمانه من الذهاب إلى المدرسة، وأحياناً عدم الخروج من المنزل. ورغم وعود الصغير بالإقلاع عما يفعل، لكنه لم يكن يمضي يومان حتى يوسوس له الشيطان من جديد لارتكاب جريمة أخرى.
ارتفعت معدلات الجرائم وازدادت الوعود بالتوبة من دون جدوى، وتطور الأمر من سرقة ساندوتش زميل أو قلم إلى سرقة حقائب المدرسين وهواتفهم، فلم يجد الأب أمامه حلاً غير إخراج ابنه من المدرسة، خوفاً من الفضيحة التي كان الجميع يعلمون تفاصيلها ويتكتمون على الأمر إجلالاً لهذا الشيخ المعروف عنه إيمانه وتقواه، فهو الذي يؤم المصلين على مدى سنوات في بلدتهم، وعرف بينهم بالصلاح، فكيف يكون هذا سلوك صغيره!

سرقة العمل
ذهب علي للعمل في أحد المصانع كنوع من العقاب، لكن المصنع وصاحبه لم يسلما منه، حيث كان يسرق بعض البضائع من داخله والتوجه لبيعها، لكن العائد بالنسبة إليه كان صغيراً، فقرر احتراف السرقة بشكل موسع مستغلاً خفة يده التي عرف بها، وبدأ في ارتكاب حوادث سرقة المساكن والمواطنين في وسائل المواصلات.
كانت الأمور تسير كما كان يخطط لها هذا الشاب، إلى أن شاهده أحدهم وهو يسرق، وتجمع المواطنون وأوسعوه ضرباً حتى كاد يموت بين أيديهم، وشرعوا في إبلاغ الشرطة، لكن حضور والده أنهى الموقف وتسلمه بعدما قدّم الاعتذارات للجميع.
يلفت علي: «في هذا اليوم شاهدت دموع والدي للمرة الأولى في حياتي، وشعرت وقتها بالمرارة التي يحس بها من تصرفاتي. وعلى عكس المتوقع من أن أنال العقاب المعتاد، تركني لحالي وذهب إلى غرفته، وسمعته يدعو الله أن يهديني وهو يبكي، فكان القرار الحقيقي بالتوبة».

العودة
توجّه علي إلى مصنع للحلوى وعمل فيه، وظل سبعة أشهر من دون أن يرتكب أي حوادث أخرى بعدما سيطر على نفسه، لكنه في لحظة ما شعر بالضعف واتخذ طريقه بالعودة إلى الحرام، لكن هذه المرة في منطقة أخرى غير التي يسكن فيها، حتى لا يصل الأمر إلى والده الذي كاد يموت من أفعاله.
اتخذ هذا الشاب طريقة جديدة يقدم بها نفسه الى ضحاياه، فمرة يدّعي الجنون وأخرى العبط، حتى يستقل وسائل المواصلات ويتردد على المحلات يستولي منها على ما يريد من دون أن يشكك أحد في أمره.
سارت الأمور كما كان يخطط لها، حتى تم الإمساك به في إحدى المرات وقام الأهالي بتسليمه إلى الشرطة، وهنا علم والده وحضر واستطاع إنهاء الأمر بالتصالح، وقتها علم علي أن لا فائدة من وعود التوبة، وشعر بالخزي والعار وسط الجميع، خاصة بعدما انتشر خبر القبض عليه.

قرار التوبة
اتخذ الشاب الذي بات لصاً تُلصق به كل الجرائم، سواء التي ارتكبها أم لم يرتكبها، قراره بالتوبة الإجبارية، حيث قرر قطع يده حتى لا تمتد وتسرق مرة أخرى، وقبل أن ينفذ قراره شاهده أحد أصدقائه وأقنعه بالعدول عن الفكرة والرجوع إلى الله والتغلب على شيطان نفسه.
اقتنع علي بكلمات صديقه وعدل عما قرّره، لكن من دون أن يشعر وجد يده تمتد وتسرق مرة أخرى، هنا شعر بأن لا محالة من تنفيذ قراره، فذهب إلى سكة القطار وانتظر قدومه ووضع يده اليسرى على السكة، فبترها القطار وسط صرخات الألم التي كانت في الحقيقة إعلاناً للتوبة عن ماضيه.
توقف علي عن جرائمه لأكثر من سنة، لكنه عاد مرة أخرى، مستغلاً يده المبتورة في جذب تعاطف الناس معه، وارتكب عشرات الحوادث التي عادت عليه بالآلاف، لكنه شعر بتأنيب الضمير.

العقاب الأخير
أدرك علي أنه ضعيف أمام شيطانه ولا جدوى من وعوده مع نفسه بالتوبة، فعاد إلى سكة القطار مرة أخرى وبتر يده اليمنى كعقاب له عما ارتكبه من حوادث على مدى عشرين عاماً.
لم يصدق الأب ما فعله الابن بحق نفسه، وأدرك أنها التوبة الحقيقية واصطحبه لأداء العمرة هو ووالدته، لتكون بداية جديدة له، استطاع بعدها ومن خلال مساعدة والده وعمّه إتقان أعمال الحاسب الآلي، وعمل في أحد المصانع ليكسب الرزق الحلال، متخلياً بذلك عن لقب «ملقاط» أو «صاروخ» الذي لازمه على مدى سنوات، وحائزاً بالتالي لقب «التائب بلا رجعة».

المجلة الالكترونية

العدد 1074  |  أيار 2024

المجلة الالكترونية العدد 1074