مسرحية 'مجنون يحكي' نُقطة لها موقع دون أبعاد

مسرحية, زياد الرحباني, ندى أبو فرحات, كوميديا

17 أكتوبر 2013

بعد محاولة الحجز المتأخرة، أصابني العجز. لم أكن أتوقع الحصول على بطاقة لحضور العرض الأول من مسرحية «مجنون يحكي» المنتظرة. فشاهدت عبر موقع Youtube مسرحية Every good boy deserves favour السياسية-الموسيقية لتوم ستوبارد وأندريه بريفين 1977 (عنوانها يختصر استذكاراً للمفتاح الموسيقي EGBDF)، التي اقتبست عنها المخرجة اللبنانية لينا خوري ما استعادت معه زياد الرحباني على خشبة «مسرح المدينة» بعد عشرين عاماً.
لكنني حصلت على دعوة قبل ست ساعات من العرض. فرحت كثيراً لكن المقارنة حضرت معي العرض.


في عهد ليونيد بريجنيف السوفياتي كان الطب النفسي أداة في يد النظام. كان هذا الإجراء تعدياً سياسياً على مهنة الطب لقمع المفكرين والمثقفين المعارضين، أو المعارضة «ناهدة نون» في مسرحية لينا خوري.
وهذه نقطة قوة في المسرحية أن تمنح المخرجة الشابة المثيرة للجدل دور الصحافي المتهم بالقدح والذم إلى صحافية، أي تأنيث الدور. لم تكن المسرحية موسيقية- سياسية، فلا أوركسترا.
هذا ما قاله الطبيب زياد الرحباني لغابريال يمين (المريض نهاد نون)، وهو بالفعل لا أورسكترا بل عازفون. لقد عزفوا وسط المسرحية جملة موسيقية من أغنية زياد «قوم فوت نام»، وكأنها تحية إعجاب لزياد من المخرجة أو من الموسيقي أسامة الخطيب الذي كان مسؤولاً عن الموسيقى المتألمة أحياناً والمتناغمة مع النص ونبرات العبارات.
لم تكن المسرحية 50 في المئة موسيقية، وإن حضر المثلث الموسيقي لكنه مثّل بأضلاعه الأبطال الثلاثة، ندى أبو فرحات وغابريال يمين وزياد الرحباني. ولم تكن كوميديا سوداء بل رمادية وكأن جرأة لينا خوري استعادت خجلها.
البطل أصبح بطلة هي ندى أبو فرحات. ألكسندر إيفانوف تحوّل إلى ناهدة. والطفل أصبح طفلة، «ساشا» تحوّل إلى «نونو» ابنة ندى أبو فرحات، أو ناهدة نون.

«النقطة لها موقع إنما ليس لها أبعاد، الدائرة... المثلث هو أقصر مسافة ما بين ثلاث نقاط...»، هكذا تقول الطفلة. جزء من الدرس الذي تتلقاه.
يصف «ساشا» درس الهندسة الرياضية بالرهيب. هل طفلة لينا خوري بدأت للتو درس الهندسة الرياضية؟ وكأنها حائزة إجازة في الرياضيات.
لم تقنعني الممثلة. تمرير الرسائل مع الدروس الصارمة غير القابلة للنقاش، الجنون هو عدم الإمتثال للنظام... الجنون هو تفضيل الموت على الإعتراف بالشفاء. الاعتراف بالشفاء هو اعتراف بتهمة المرض، ما تقاومه ناهدة.
المرض هو معارضة النظام. مجدداً، «المضلع هو مساحة مسطحة تحدّها حدود مستقيمة وهو ليس سجناً بل مستشفى». النظام أي «نظام استغفرالله»، أي نظام قصدت لينا خوري حين تنورة «نونو» استفزت المدرّسة؟ وقد أشير إلى عبارة «دكتور بالبلاغة والعروض»، التي قد تكون هذه غمزة من قناة زعماء يعتلون المنابر بنصوص لا يُجيدون قراءتها أو لديهم قصراً في التعبير اللغوي.

تقيّدت لينا بالنص المسرحي وحذافيره الحاذقة، لكنها أخفقت بحوار الطفلة والأم. استعرضت المسرحية مشاهد من السجون والأسلاك الشائكة على شاشة... ومساجين، كانت الرسالة أكثر وضوحاً في النسخة غير العربية الأخيرة.
لا أدري لمَ غيّبت لينا هذه المشاهد رغم أنها عربياً في ربيعها، واختارت ديباجة الرأس الخانع في السجن العربي والمرفوع في المعتقل الإسرائيلي. لا تصح المقارنة في سجون التعذيب.
الألم بديهي والموت واحد ناتج عن أداة التعذيب. إلى متى ننكر إنسانيتنا لنكون أبطالاً؟ حتى زياد الرحباني لم يعد يهمه أن يكون بطلاً وهو يستقبل كولونيل في جهاز الإستخبارات السوفياتي KGB بمزاج عربي. الأدوار القوية ليست بحاجة إلى أسماء، لم يحمل دوره اسماً .. لكن هل زياد والمسرحية حالة واحدة في عمل واحد؟ هو حالة قائمة بحد ذاتها، وكأنها محاولة لمشاهدة فيلم ثلاثي الأبعاد دون النظارات المخصصة.
وعدم وضع النظارات هذا الفعل بالتحديد هو ما تدعو إليه مسرحية لينا خوري. خطاب لينا القديم لا يلغي أهميته، لكن لا يمكن إلاّ أن يكون خطابها قديماً بوجود طلائعياً يستشرف المستقبل على مسرحها.


القصاص الجماعي من نوع آخر...

«أفكر إذاً أنا موجود في السجن، أفكر إذا أنا مجنون في السجن»، يعزف الأنين. هل العربي بحاجة إلى التفكير لكي يصاب بالمرض أو يتهم به؟ القصاص الفردي أو الجماعي من نوع آخر، قد يموت العربي بالصدفة وهو يمرّ بجانب تجمّع للثورة... لا تنحصر علاقة النظام القمعية بالمفكر.

عادة ما تحضر المقارنة مع أعمال المخرج السابقة. لكن المقارنة حضرت مع العمل الأساسي الذي اقتبست عنه المسرحية وبين المتوقع بوجود زياد. هل تحقّق المتوقع؟ وهل حاكى ما كان غير متوقعاً الحاضر وهذا أضعف الإيمان وسط كل ما يحصل؟ هل كان غابريال يمين وحده المصاب بالفصام والبعد عن «الواقع الأوركستري» الخارجي؟ أظن أن الفصاميين كثر، فمشهد أقوى خارج «مسرح المدينة» وأكثر واقعية، قد يبدو معه السجن مأوى أرحم من التشرد المترامي والمتنامي في صندوق شارع الحمرا. هل من صورة أكثر رعباً من هذا الإقصاء الإجتماعي-السياسي للإنسان؟ مسرحية أقوى في الخارج.


الضحكة الأعلى في «مسرح المدينة»

سعال ندى أبو فرحات، السعال نفسه في النسخة الأجنبية. البداية حوار بين ندى وغابريال الذي عزّز طول شعره معاناة حليقة الرأس. لغة الجسد أقوى من السيناريو مع معاناة متقطّعة غير متعلقة بالمزج الجدي والهزلي الذي يجب أن تكون عليه «الكوميديا السوداء».
جافية القلب حافية القدمين تحمل رواية ليو تولستوي «الحرب والسلام»، كانت ندى مؤثرة خصوصاً في المشهد الأخير حين أصبحت «مايسترا» الأوركسترا نتيجة مقالة قدح وذم وعلاقتها بصديقها ق. ك. أليس هناك من رواية عربية متسقة بالأحداث العربية بمعزل عن منزلة الأدب العالمي وحرصاً على تعريب الأحداث خارج الدائرة الروسية؟

تتكلم ندى أو «ناهدة نون» عن عذابها والعُتمة والروائح، التعفن والتفنن في طرق التعذيب تقول حرفياً: «ما بحياتي تخيّلت إنو السجون الإسرائيلية أحسن من السجون العربية».
هل يمكن التفريق بين طعم الألم فعلاً والتحكّم بطاقة التشبث بالحياة حسب هوية الجلاد؟ إلى هذه الدرجة اعتاد اللبناني والعربي الخيار بين السيء والأسوأ؟ هل كانت ندى في سجن اسرائيلي متحدية لواقعها وترفض وتعاند ابنتها؟

«النظر بيغش»، يقول الدكتور زياد لـ«ناهدة نون» حين تقرّ بأنها امرأة وليست رجلاً كما هو مكتوب في تقريرها الطبي. فيحلّل مظهرها الأنثوي بأنه ناتج عن «Optical Illusion أو تطور بالأوهام الذهانية» حين تسأله «اللي شايفو إدّامك شو».
وكانت الضحكة الأعلى في المسرح. تشكيكاً بعلامات أنوثتها، يقول لها: «نعجقتي...» إنها كلمة زياد. ينقل لها شكوى المريض ولا ينصت إلى شكواها هي العاقلة، وأنها تنتظر الPianissimo لتعطس. نقل لها افتراضاً، نقل لها استياءً افتراضياً ووهمياً من شريكها في غرفة المشفى والمريض الحقيقي (غابريال يمين) فما من أوركسترا إلاّ في رأسه ورأس النظام ربما.
ألم يقد الشعبَ العربي نظام مجنون؟ كم من وقائع تبنى على أوهام في هذا العالم العربي؟ كم من زعيم هوى وكان وهماً بعد عقود طويلة؟ يقول لها زياد: «آراؤك هي عوارضك. تمرّدك هو مرضك». لكنْ ثمة سؤال لو أن هذه المسرحية مسموعة دون صورة كما كان يحلو لنا مع زياد، هل ستكون فعلاً «مجنون يحكي» أم «مجنون يسمع»؟


المسرحية باختصار....
«ناهدة نون» تنشر مقالاً عن قمع النظام للحريات. تُسجن وتعذّب ويصر سجانوها على أنها ليست امرأة بل رجل مجنون. تودع في مستشفى المجانين في غرفة مشتركة مع نزيل آخر مصاب فعلاً بالجنون، وشديد الاقتناع بأنه يملك أوركسترا ويديرها.
في المصح، يعالجها «الحكيم» ليقنعها بأنها فعلاً مجنونة وبأنها رجل بالتأكيد، وبأنه بالإمكان إخلاء سبيلها إذا اعترفت بذلك.