جمعية رعاية اليتيم: عندما تكتب قصص النجاح بأنامل الخير

عندما تكتب قصص النجاح,بأنامل الخير,دار الأيتام,القوانين فيه صارمة,الطاقة الإيجابية,طريقة الاستقبال,العفوية والراقية,أدق تفاصيل المؤسسة,قصة فاتن

صيدا- ديانا حدّارة 11 يونيو 2016

عندما يُذكر أمامنا اسم دار للأيتام، غالبًا ما نفكر في مكان كئيب مكتظ، القوانين فيه صارمة، وأطفال تعساء ينظرون إلى المجتمع خارج جدران الميتم بنقمة، بعدما تخلّى عنهم أهلهم. هذه الأفكار المسبقة كانت ترد إلى ذهني في طريقي من بيروت إلى صيدا لزيارة «جمعية رعاية اليتيم في صيدا»، ولكن كلام السيدة نينا على الجمعية وقصص النجاح فيها، كانا يبدّدان أفكاري. وصلت المؤسسة وقد بدت مليئة بالطاقة الإيجابية بدءًا من الحارس الذي ساعدني في ركن سيارتي، إلى طريقة الاستقبال العفوية والراقية للسيدات اللواتي يعملن في المؤسسة. بدأت الأفكار تتبدّد، فطبقة الاستقبال والإدارة طغى عليها الهدوء وابتسامة العاملين. قلت «حسن، كل أقسام الإدارة في دور الأيتام هي كذلك نظيفة وجميلة». ولكن جولتي ستتضمن أدق تفاصيل المؤسسة، ولن ألتقي أفرادًا يجسّدون قصص نجاح فحسب، وإنما سأرى بأم العينين المكان الذي يحضن أطفالاً ومراهقين، بعضهم تخلّى أهلهم عنهم لأسباب مادية أو مشكلات عائلية، وبعضهم لجأ أهلهم إلى هذه المؤسسة لرعاية أبنائهم الصم والبكم أو الذين يعانون إعاقات عقلية أو صعوبات تعلمية. أطفال ومراهقون لم تُقم لهم الدولة وزنًا في حساباتها السياسية والتربوية والاجتماعية، بل تخلّت عنهم، وتركتهم يقبعون بين أسوار الشقاء والبؤس، ولكن هناك دائمًا فاعل خير قد يكون ثريًا وقد لا يكون، وإنما إنسان يأبى على أخيه الإنسان أن يكون دونه درجة في الحياة.


قصتا نجاح رامي ومحمود


رامي: أرغب في بلورة قدراتي الرياضية في ناد محترف

رامي شاب صغير يعاني تأخرًا عقليًا طفيفًا، لم تسمح ظروف أهله الاجتماعية والاقتصادية بإرساله إلى مركز متخصّص، فكانت مؤسسة رعاية اليتيم طوق النجاة الذي حماه من التسكّع في الشارع والتعرّض لأقسى التجارب التي لو تُرك لها لتحوّل إلى شاب عنيف. كانت لديه صعوبات تعلمية، خصوصًا في القراءة والكتابة. في البداية كان يعاني بعض السلوكيات العنيفة، فتم تعديل سلوكه من جانب اختصاصية في علم النفس، وكان لديه تجاوب كبير. تنبّه مسؤولو المركز الى مواهبه فعملوا على تطويرها، ولا سيما تعزيز مهارة الرياضة، لأنه أبدى استعدادًا ولديه شغف بها. لا يبيت رامي في منامة الدار فمنزله قريب من المؤسسة. وهناك تعاون مع الأم، فابنها البكر أيضًا يعاني تأخرًا عقليًا ولم تعالج حالته لأنه بقي في المنزل.

- عرّفنا بك؟
أنا رامي، ارتدت المؤسسة عندما كنت في السادسة، عائلتي مؤلفة من أربع إناث وثلاثة ذكور، وأنا آخر العنقود، والدي متوفٍ، وأكثر شخص يحبني هو والدتي. بدأت بالرسم ثم القراءة، تخرجت في المهنية التابعة للمؤسسة في اختصاص الكهرباء، وأعمل حاليًا في كشك لبيع المأكولات مثل الشيبس والشوكولاته. يبدأ الدوام من السابعة صباحًا حتى الثانية عصرًا.

- كيف تدير الكشك؟
أدوّن ما أحتاجه من بضائع على ورقة وأعطيها لشخص يوفّر لي كل احتياجات الكشك.

- هل يصعب عليك التعامل مع الناس؟
ألبي الطلبات من دون مشكلة.

- ماذا تفعل بعد دوام الكشك؟
آتي إلى نادي المؤسسة لأتمرن على كرة القدم. سافرت إلى لوس أنجليس لأخوض مسابقة في التزحلق على المزاليج. أحببت لوس أنجليس، وتمنيت لو بقيت هناك، فهناك نظام.

- ما الذي لا يعجبك في النظام في لبنان؟
تزعجني الفوضى، وعدم الاهتمام بالرياضة.

- كم بلدًا سافرت إليه؟
 زرت مصر وعمان وشاركت في مسابقة ريشة التنس، وفي قبرص نلت المرتبة الأولى في التزحلق على المزاليج.

- ما هي الرياضة التي تمارسها؟
أمارس كرة القدم والتزحلق على المزاليج ورياضة ريشة التنس.

- ما الذي تتمناه؟
أتمنى أن أصبح محترفًا في كرة القدم. فالنادي الذي ألعب فيه هو درجة رابعة، وأرغب في بلورة قدراتي الرياضية في نادٍ محترف درجة أولى مثل النجمة والأنصار. وحاولت مع نادي الأنصار، لكن الوضع الأمني جعلني أعدل عن الفكرة.
أحب ريال مدريد وأحب رونالدو.

حمود جلول: قلائل يتعاملون معنا بلطف.

«نحن أربعة أبناء، ابنتين وذكرين، وأنا قبل الأخير، ارتدت المؤسسة وأنا في الثانية عشرة بسبب إعادة الصف الثالث الابتدائي مرات عدة. هنا في المؤسسة ساعدوني في التوجّه المهني. واليوم أعمل في مستشفى حمود في قسم التعقيم، وهو أصعب قسم في المستشفى وفيه مسؤولية كبيرة، لأنه يتعلّق بصحة المرضى ونظافتهم. أعمل من الثامنة حتى الثانية.»

- كيف يتعامل الموظفون معك؟
مديرتي رائعة، فهي لطيفة تلبي لي طلباتي مهما كانت.

- كم تتقاضى وماذا تفعل بالراتب؟
أتقاضى راتبًا شهريًا 300 ألف ليرة لبنانية (200 دولار أميركي)، لا أصرفه بل أودعه في المصرف، فوالدي يتكفل بمصروفي. ولكنني استعملت النقود عندما سافرت إلى أميركا، للمشاركة في مسابقة التزحلق على المزاليج، وهي مسابقة خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة. لقد أحببت هذا البلد، فالناس مهذبون ويتحدّثون إليك بأدب، بينما هنا قلائل من الناس الذين يتعاملون معك بلطف.

- لماذا تتردّد إلى المؤسسة رغم أنك لم تعد تدرس فيها؟
لأجل رفاقي ومعلماتي. أحب الجو، وأحب الرياضة، وكل سبت أرتاد المدرسة، ولا سيما النادي الرياضي، لأساعد السيدة نجاة في تدريب الأطفال على الرياضة.

 

قصة فاتن: نجاح رغم أنف اليتم

 

أخذ القدر أبويها البيولوجيين، ولكن حباها الله بمؤسسة حضنتها وهي رضيعة، لتشكّل لها عائلة إنسانية مؤلفة من أبوين وأشقاء كثر. عندما سألتها من أنت؟ أجابت بفخر وثقة وحب: «أنا ابنة جمعية رعاية اليتيم، المؤسسة التي هي بالنسبة إليّ بيتي الذي ترعرعت فيه وتعلمت وساندني في حياتي العملية، فكان النجاح حليفي والحمد لله». باختصار هذه قصة فاتن ابنة الـ 25 ربيعًا، الشابة التي لم تستسلم لواقع يتمها، ولم تختبئ في قمقم الحزن والنقمة، بل كان ولا يزال إيمانها العميق بالله، وإرادتها وطموحها، إضافة إلى الدعم النفسي والعاطفي الذي تتلقّاه من الجمعية بجميع أفرادها، تجعلها تخطو نحو عالم الأعمال بثقة ونجاح. في مركز التجميل الذي افتتحته أخيرًا، التقيت فاتن التي تحدثت عن قصة نجاحها بكل فخر وثقة.


- هل كنت تتوقّعين أن يكون لك عملك الخاص الذي تديرينه بنفسك؟
توقعت أن أنجح ولكن ليس بهذه السرعة، فمنذ أن كنت طفلة صغيرة كان لدي الطموح، كل من في الجمعية يعرف عني هذا. فأنا لا أحب أن أكون إنسانة عادية، وكنت أطمح دائمًا لأن أكون مميّزة في عمل ما في مجتمعي وبين أصحابي. وضعت الهدف ووصلت إليه والحمد لله.

- ما هي الأسباب التي جعلتك شابة ناجحة رغم كل الظروف التي أحاطت بحياتك منذ ولادتك؟
كل من في جمعية رعاية اليتيم ساعدني لتكون لدي نظرة إيجابية، ومثالي الأعلى السيدة صفاء، وكل واحد ساهم في بناء شخصيتي. عندما تعيشين في محيط كل فرد فيه ناجح، تصابين بعدوى النجاح. عندما ترين أن كل فرد يعمل بجد ونجح في الوصول إلى هدفه، تشعرين بأن لا شيء مستحيل طالما لديك الإرادة والطموح. أشكر الله وأحمده أنه وضع في حياتي أشخاصًا إيجابيين دعموني وعملوا على بلورة شخصيتي. كلها عوامل جعلتني أصر على النجاح وتحقيق أحلامي. عندما أرى والديّ الروحيين، ناجحين، أشعر بالحماسة للنجاح مثلهما، ومستحيل أن يكون العكس، فهما بالنسبة إليّ والدان ناجحان ومحبّان لأبنائهما ويقدمان لهم كل العطف والحنان. ينقلان الطاقة الإيجابية والنظرة التفاؤلية إلى الحياة. وعندما صرت في العشرين، اقتنعت بأنني سوف أصل إلى اليوم الذي أنجح فيه، ومثلما رأيت، تعلمت وعملت على تطوير نفسي، وها أنا اليوم لدي مركز التجميل الخاص بي.

- ولكن هل هذا كافٍ؟
بالطبع لا، بل بالإرادة، طفولتي لم تكن سهلة، فمن الصعب على الطفل اليتيم أن يفهم. فأنا أؤمن أن بالإرادة والتصميم يحقق الإنسان كل ما يصبو إليه. هناك أناس وضعهم الاجتماعي صعب، يستسلمون ويتذمرون ويقولون كيف نصل! مستحيل أن ننجح. هم يضعون العراقيل أمام أنفسهم فيلومون الآخرين بحجة أن لا أحد يدعمهم، وأظن أن هؤلاء ينتقمون إما من أنفسهم أو من أهلهم أو المجتمع. بالنسبة إليّ، تغلبت على كل هذا ولم أمحه، وإنما وضعته خلفي. في مكان ما كنت أفكر أين أهلي، لماذا تُركت، ولكن لم أتوقف عنده وأعرقل حياتي. كنت أفكر بذلك، ولكن في الوقت نفسه كنت أعمل لأجل مستقبلي ولأطور حياتي، ولم أضع كفّي على خدي وأندب حظي، بل على العكس، بدل الوالدين منحني الله عشرة، ولدي عائلة رائعة، والمحيط الاجتماعي الذي وجدت فيه راقٍ وخلوق ولم أنشأ في بيئة فاسدة. الحمد لله تربيت في مجتمع محب وأفراده أمناء على حياتي وحياة إخوتي في الدار. هناك دور أصحابها يقولون: وصلتم طيب ارحلوا عنا، فيما الجمعية هنا ليست كذلك، إذ بقي مسؤولوها وإداريوها يهتمون بكل تفاصيل حياتي ويساعدونني إذا ما شعروا بأنني في حاجة إلى مساعدة. هم بالفعل ناس رائعون، وأنا متشبثة بهم. كما لا أزال أبيت في منامة الجمعية وأشعر بأنها بيتي الذي لن أتخلى عنه ما حييت.

- لماذا اخترت أن تكوني اختصاصية تجميل؟
في البداية حاولت أن أتخصص في التربية الحضانية، ولكنني لم أكن أحب هذا الاختصاص. منذ الصغر كنت أشعر بميلي إلى عالم التجميل، وعندما تعلمته وبدأت العمل فيه، أصبحت أكثر تواصلاً مع المجتمع وأكثر إيجابية مع الناس وركزت على هذا المجال وقررت السير فيه. عملت 8 سنوات في البداية في الميتم كمساعدة حادقة، إضافة إلى عملي في الخارج في مركز تجميل، وكنت أشعر بالتعب، ولكن لعشقي العمل في مجال التجميل، لم يمانع الدكتور سعيد أن أعمل في الخارج فقط.

- ألم يكن في قرارك افتتاح مركز تجميل خاص بك مجازفة؟
بإيماني بالله وما كتبه لي، والثقة بالنفس وبالخطوة التي أقدم عليها والطاقة الإيجابية التي أتمتع بها كنت متأكدة من أنني سأنجح في هذا المجال. طموح الإنسان يجب ألا يتعثر، طالما أنه يفكر في شكل صحيح وواقعي. لذا لم أكن أجازف. الوضع الاقتصادي كان يجعلني أتردد، ولكنني قررت أخيرًا أنني سوف أنجح بإذن الله.

- رغم استقلالك المادي لا تزالين مقيمة في الدار...
ما زلت مقيمة في دار الجمعية، أشعر بأنها بيتي وأخاف عليها.

- كيف تتعاملين مع البنات اللواتي يأتين الميتم، ما هي النصائح التي تسدينها إليهن؟
في البداية كانت علاقتي بهن وطيدة. فغالبية البنات كان وضعهن أصعب من وضعي، فأهلهن لا يزالون على قيد الحياة وتخلوا عنهن. هذا صعب جدًا على البنت أو الصبي. تخيلي أهلك أحياء يرزقون ويرسلونك إلى ميتم، في حين نحن أهلنا رحلوا عن الدنيا لا نعرفهم. كنت أدعمهن، وأحيانًا كثيرة كنت ألمس فيهن الشعور بالغضب، خصوصًا بعد عودتهن من العطلة الأسبوعية التي يمضينها مع أهلهن، وبالتالي يشعرن أكثر بالعنف والغضب. بعض الفتيات صديقاتي على الفيسبوك ويتكلمن معي، أفرح كثيرًا لأنهن ما زلن يتذكرنني، كنت مثلهن في الميتم وأنا فخورة بهذا.

- ما الرسالة التي توجهينها إلى الفتيات عامة؟
مهما فعل الأهل ولم يكن لديك القدرة والإرادة فلن تصلي. فكم مرة سمعنا عن أبناء عائلات أهلهم يفعلون المستحيل لأجلهم ولم يحققوا أي شيء، لماذا؟ لأنهم لا يريدون، فيما هناك أناس لم تتوافر لهم الحياة الرغيدة وعملوا بجد ونشاط ليحققوا أهدافهم.
لذا أقول لكل بنت تشبه حالتها حالتي، لا تنظري إلى الوراء ولا تتقيدي بمشاكل أهلك التي لا دخل لك فيها، بل انظري دائمًا إلى المستقبل والحياة بعينيَ المتفائلة، فالحياة جميلة جدًا إذا ما عرفنا مفاتيح أسرارها التي أهمها التفاؤل والعمل على تطوير الذات. يجب أن يكون لديك إيمان داخلي بالله، وأن تحبي ذاتك لكي يحبك الناس. الوالدان ليسا كل شيء في الوجود وإنما يساهمان في متابعة حياتك... هما يكملان حياتك.
بعض الناس يظنون أنني مغرورة، ولكن على العكس لدي ثقة بنفسي. أعرف جيدًا أنني يتيمة الوالدين، وليس لدي ثروة، وأحمد الله أنني حققت 80 في المئة مما أطمح إليه، في حين هناك الكثيرات ممن توافرت لهن كل شروط النجاح، ولم يعملن على بلورة قدراتهن أو تحديد هدف يصلن إليه. 

- إلى أي مدى أثّر يتمك في علاقتك العاطفية؟
في مكان ما. للأسف نعيش بعض التخلف، إذا ارتبطت بشخص من بيئة اجتماعية معيّنة، يقف أهله حاجزًا بينك وبينه، فعبارة «شو ما في غيرها بنات»، سمعتها عندما كنت صغيرة في الثامنة عشرة، وغضبت كثيرًا لأنني أرى المسألة من منظار آخر. التقيت أم أحدهم وكان يريد أن يتزوجني، وكانت لا تطيقني، اليوم هي زبونتي بل هي التي تتصل بي، بعدما تغيرت نظرتها إلي.

الدكتور سعيد مكاوي مدير جمعية رعاية اليتيم: مقولة أنه لم يعد هناك خير غير صحيحة.
- سمعت أنك في صغرك كنت تشعر بأن الجمعية تأخذ والدك منك، واليوم أنت تديرها وتعطيها الكثير من وقتك. أليست هذه مفارقة؟
والدي من المؤسسين للجمعية، وكان نهار الأحد يضطر  للخروج للاجتماع مع الأعضاء، الأمر الذي كان يشعرني بالغضب، وهذه ليست حالتي وحدي، وإنما كانت حالة كل أطفال مؤسسي الجمعية... كانت فكرتنا عن الميتم «يأخذ والدنا منا». عندما توفي والدي عام 1996، ترك لي وصية الاهتمام بالميتم مثلما أهتم بأخوتي، وكان لدي في ذلك الحين الكثير من المسؤوليات، وقد تخليت عنها عندما طلب مني أعضاء الجمعية أن أتسلم إدارتها، قائلين إنهم بحاجة إلى دم شبابي، وهم أصبحوا كبارًا في السن.

- كيف تحول الميتم إلى مؤسّسة؟
اشترطت لقبول الإدارة، تحويل الميتم من دوره الرعائي إلى مؤسسة تربوية. وكنت أقول ذلك من وجهة نظر وتجربة عرفتها. فهناك أطفال تحضنينهم 10 إلى 15 سنة، يخرجون ولديهم نقمة على المجتمع، لذا يجب أن يكون الهدف هو العمل على شخصية هؤلاء الأطفال، وتعزيز تطوّرهم النفسي في شكل إيجابي ليخرجوا إلى المجتمع فاعلين ومنتجين، ومتصالحين معه ومع أنفسهم.

- من هم التلامذة الذين يرتادون المدرسة؟
التلامذة الأكثر حاجة. فالمساعِدات الاجتماعيات يقسّمن الحالات إلى فئات عدة... ذوي الفقر المدقع، وفئة تواجه مشكلات اجتماعية مثل طلاق الأبوين، أو يكون الأب مسجوناً، وفئة كبيرة تعاني العنف الأسري. وفي المقابل، نحن لا نهتم  بالتلميذ وحسب، بل نتواصل مع الأهل أيضًا، وخصوصًا الأمهات لمساعدتهن في التعامل مع الأبناء، خصوصًا ذوي الاحتياجات الخاصة، وكان التجاوب كبيرًا، فيما الآباء يصعب التواصل معهم. 

- ما أصعب تحدٍ تواجهونه في الجمعية؟
أصعب تحدٍ كان ثقة الناس بنا. من استراتيجتنا اننا فتحنا المؤسسة للناس ليروا ما يحدث ويتأكدوا أين تصرف تبرعاتهم... لا شيء نخفيه.  في الماضي كانوا يقولون «لا تدع يدك اليسرى تعرف ما أعطته يدك اليمنى»، ولا يزال الكثيرون يرفضون ذكر أسمائهم. ورغم ذلك، أصررت على تسمية الأجنحة بأسماء المتبرعين الذين لولاهم لما شيِّدت.

الدكتور عبد الله كنعان طبيب أنف أذن حنجرة متطوع منذ 38 عامًا

- ما الذي يدفع بطبيب الى العمل التطوّعي؟
عندما عدت من فرنسا قبل 38 سنة، زارتني مديرة المؤسسة آنذاك فاتن جردلي في العيادة، لمساعدتها في كيفية استعمال معدّات خاصة بمركز للصم سيفتتحونه، وقد لبيت الطلب من  دون تردّد. وبعد شهرين افتتح المركز وكان يضم 8 أطفال، وبعد فترة عادت السيدة جردلي لتسألني عن أجري، فشعرت بالانزعاج، لأن هذا عمل خيري، والمؤسسة عرفتها منذ الصغر. فسألتني ما إذا كنت أرغب في الانضمام اليهم كمتطوع،  ومنذ 38 سنة وأنا أعمل متطوّعًا في هذه المؤسسسة.

- كيف تصف علاقتك بالمؤسسة خلال الـ 38 عامًا؟
من نعم الله أن يضعك في خدمة الناس وتلبية احتياجاتهم، والشعور بمحبة الأطفال. وطالما ينعم الله عليّ بالصحة، أكمل عملي. يمكن القول إنني أصبحت مدمنًا العمل التطوعي الخيري، فضلاً عن أن التطوّرات التي تحدث في المؤسسة تشعرني بأنها طفل يكبر فتزيد العاطفة والعطاء، وتطوعي فيها  يكسر العمل الروتيني في حياتي اليومية، وأشعر بالاكتفاء والرضى عن ذاتي ورضائي الله والمجتمع. فالمجتمع الذي تغيب عنه الدولة، يتحوّل إلى غاب إذا لم يكن هناك تكافل اجتماعي. ولكن في لبنان لدينا تكافل اجتماعي مدني متين، خصوصًا في مدينة صيدا.

- خلال 38 سنة من العمل، كيف تجد تطور وعي الأهل بمشكلة أبنائهم الصم؟
في البداية كنّا نبحث عن الأطفال الصم في البيوت، لأن في الماضي كانوا يعتبرون الطفل الأصم حالة معيبة، ولكن بعد تنظيمنا حملات توعية في المدارس والجوامع والكنائس، حول المؤسسة واهتمامها بالصم، وبعدما رأى الناس الدفعة الأولى من الخريجين، أدركوا أن الأصم قادر على الانتاج، وتدبّر أموره الشخصية والعملية بنفسه، فالأهل لن يدوموا، وبالتالي لم يعد الأصم عبئًا عليهم وعلى المجتمع، بل صار صاحب مهنة لديه مستقبل، وبالتالي بات قادرًا على الانتاج ويتزوّج ويؤسس عائلة. ومنذ 30 سنة تطورت النظرة إلى الأصم، وصار الأهل يحضرون أبناءهم إلى المركز لتلقي الرعاية الخاصة، وليكونوا مثل أي تلميذ. وفي المقابل هناك أهل يئسوا من أبنائهم بسبب حالاتهم الصعبة، وبسبب الظروف المادية والعائلية، ولكنها نسبة لا تتعدّى الـ 10 في المئة. 

- كيف تصف علاقتك بأبناء المؤسسة الذين عالجتهم؟
هناك علاقة صداقة وطيدة، فهم أصبحوا راشدين منتجين وفعّالين في المجتمع، يزوروني في العيادة ليسلّموا علي. أشعر بأن لديهم ارتباطًا بهذه المؤسسة التي جعلت مستقبلهم أفضل.

- كيف تجد الفئة الشابة من الأطباء، هل لديهم روح التطوّع؟
الجيل الذي سبقني من الأطباء في صيدا كانوا يقدمون نهارًا تطوعيًا مجانيًا لمساعدة المحتاجين، فيما كادت أن تختفي هذه العادة عند جيلي. ولكن أشعر بأنها بدأت تعود من جديد مع جيل الأطباء الشباب، وبالفعل أعرف الكثيرين ممن يرغبون في العمل التطوعي والإنساني، ويحبون العمل الاجتماعي، ويقدمون ساعات تبرع.


دلال حنّا مديرة مركز تأهيل الصم والبكم ومركز الاضطرابات والتواصل واللغة

عانت دلال في صغرها فقدان السمع، وواجهت صعوبات كثيرة في المدرسة، ولكن وجود الأهل الدائم إلى جانبها ودعمهم لها من الناحية النفسية، جعلاها تكمل دراستها في الجامعة اليسوعية في بيروت في التربية المختصة، وتؤكد أن لولا أهلها ودعمهم لها لما كانت وصلت إلى هذه المرحلة من العلم والعمل. أما عملها في المؤسسة فتجد أنه يلبي طموحاتها، وإلا فما الذي يلزمها أن تأتي يوميًا من المتن إلى صيدا كما تقول.

- متى بدأت العمل في المركز؟
أعمل في هذا المركز منذ حوالى 10 سنوات. بدأت كمنسقة للبرنامج التربوي والمنهج الأكاديمي. واليوم أعمل مديرة لمركز الصم في المؤسسة، وقد أجرينا الكثير من التعديلات لمواكبة العصر، وقد أصبحت لدينا مدرسة مجانية خاصة بالصم والبكم ونستقبل تلامذة حتى الصف السابع، ونعمل على أن يتقدموا الى الامتحانات الرسمية بعد سنتين.

- كيف تصفين الأهل في تعاملهم مع إعاقة أبنائهم الصم... وهل هم مقتنعون بنجاحهم الأكاديمي؟
هناك أهل يفضلون أن يكمل أبناؤهم في المنهج الأكاديمي ليواجهوا الحياة بشكل أفضل، وهم الأهل الذين يدعمون أبناءهم، فيما هناك من يفضلون توجّه أبنائهم الى التعليم المهني ليعملوا ويستقلوا ماديًا.