تلوّث الهواء: وراء العديد من حالات توتّر الأعصاب وضحاياه في العالم يقاربون السبعة ملايين حالة وفاة سنوياً

تلوث الهواء,حالات,توتر الأعصاب,ضحاياه,في العالم,وكالة الأخبار,إرتفاع,معدلات,الإصابة,القلق النفسي,مستويات عالية,إحصاءات,أحمد عويس,انتصار محمود,مي زيادي,محمد غازي,التوتر الشديد,هدير عبدالمنعم,يارا شوقي,مها فؤاد,الدكتورة نرمين الطيب,مستشار,صحة البيئة,منظمة الصحة العالمية,مازن ملكاوي,ضحية,التغير المناخي,التكلفة,التربة,المياه,المطامر,الاحتباس,الحروب,فيروسات

هدير الحضري - (مصر) - كارولين بزي - (لبنان) 26 نوفمبر 2016

نشرت وكالة الأخبار العالمية «رويترز» دراسة حديثة أعدّها باحثون في جامعة «جونز هوبكنز»، تربط بين تلوث الهواء وارتفاع معدلات الإصابة بالقلق النفسي، إذ كشفت الدراسة أن النساء اللواتي يعشن في مناطق تشهد مستويات عالية من تلوث الهواء، يعانين قلقاً نفسياً شديداً، ما يعني أن للتلوث تأثيراً خطيراً على الصحة النفسية.

الباحثون في الدراسة استخدموا بيانات لأكثر من 70 ألف امرأة، تراوحت أعمارهن بين 57 و85 عاماً، وبينت النتائج أن النساء اللواتي تعرضن للذرات الدقيقة في الهواء قبل شهر من إجراء الاختبارات النفسية كنَّ أكثر عرضة للإصابة بالقلق الشديد مقارنة بالنساء اللواتي تعرضن قليلاً لتلوث الهواء. فهل فكّرتم يوماً في أن مشاكلنا الاجتماعية، سواء في البيت أو العمل أو مع الأصدقاء، قد يكون سببها تعرضنا للتلوث؟
من مصر ولبنان، تستعرض «لها» هذه الشهادات والآراء حول مخاطر تلوث الهواء.


أحمد عويس: التلوث السمعي يجعلني أكثر عنفاً

تزوج أحمد عويس وأسماء سعد حديثاً، لكن بسبب ما واجهاه من تلوث بصري وضوضاء في منزلهما الأول، اضطرا بعد فترة وجيزة لبيعه وتحمّل نفقات الانتقال إلى منزل جديد، هرباً من التلوث وبحثاً عن حياة أكثر هدوءاً.
تقول أسماء: «نعاني من أزمة خانقة في كل مكان، فالتلوث يطاول كل شيء، الماء والهواء والغذاء... وكلها أمور أساسية لا يمكن الاستغناء عنها. شعرت بعدم القدرة على التأقلم وبأن الزحام يحرق أعصابي، ففضلت تحمّل تكاليف باهظة للانتقال الى منزل الجديد، على الاستمرار في نمط حياة لا يُطاق».
ترى أسماء أن حياتها الاجتماعية داخل المنزل جزء لا يتجزّأ من حياتها ككل، وأن ما تتعرض له من تلوث خارجي يجعلها تشعر بالقلق والعصبية لأتفه الأسباب... وتضيف: «ماذا عساي أفعل بعد كل ما سمعته من صخب وضجيج وألفاظ بذيئة في الشارع! حتماً سأعود إلى منزلي، لكن من دون أن أملك الطاقة للقيام بالأعمال المنزلية. أعتقد أنه لو كانت الحياة أكثر هدوءاً لاختلف سلوكنا، وما كنا لنصاب بهذا الكم من الإحباط والاكتئاب والتوتر... إذا استمر مجتمعنا بهذه العشوائية، سيظل الناس مشحونين نفسياً وستزيد ظواهر السلوكيات العنيفة وقلة الصبر».
أما زوجها أحمد فيرى أن البيئة التي يعيش فيها الإنسان تؤثر كثيراً في حياته، فالعشوائية وسماع الألفاظ الخادشة والموسيقى الصاخبة في معظم الشوارع، سيؤديان إلى توتره وشحنه نفسياً، وبالتالي سيؤثران في تعامله مع المجتمع إذ يصبح أقل صبراً وأكثر عنفاً وحدّة... ويضيف: «الإنسان نفسه سيعتاد على التلوث وسيصبح شخصاً مشوهاً ومضغوطاً باستمرار. لا أستطيع استيعاب كل هذه المعاناة، فنفاد الطاقة في طريقي الى العمل أو لزيارة الأماكن الترفيهية أو لتلبية متطلبات المنزل، أمور تشعرني بأن الحياة رحلة من العذاب المتواصل بسبب التلوث».

انتصار محمود: أتشاجر مع أولادي وأثور لأتفه الأسباب
انتصار محمود وعبدالمنعم عبدالسلام، متزوجان منذ أكثر من 25 عاماً، ويريان أن هناك فرقاً شاسعاً بين حياتهما القديمة الهادئة والحياة الصاخبة التي يعيشانها اليوم، بعدما غزاها التلوث بمعدلات ضخمة... تقول انتصار: «أشعر بأن الحياة فقدت أهميتها بعدما عرفت مظاهر متعددة من التلوث، فالقمامة تنتشر في الشوارع والأصوات المزعجة تلاحقني في كل مكان، والطرقات مزدحمة بالسيارات لدرجة أنني لم أعد أقوى على السير على قدميَّ».
وتضيف: «أصبحت أكثر عصبية، وكثرت المشادات الكلامية مع أبنائي داخل المنزل، وصرت أثور لأتفه الأسباب بسبب ما أتعرض له خارج المنزل».
تؤكد انتصار أن التلوث يشمل أيضاً التلوث الأخلاقي للجيل المعاصر الذي أصبح لا يلتزم المعايير الأخلاقية التي كانت تميز الجيل القديم... وسلوكياتهم غير المسؤولة جعلت كبار السن أكثر حدّة وعصبية.
ويتمنى زوجها عبدالمنعم عبدالسلام، وهو محامٍ، أن يبذل الناس مجهوداً لمحاصرة التلوث الذي سيطر على كل مناحي حياتهم، فهو أصبح مرهقاً نفسياً بسبب التلوث، وبالتالي غير قادر على العمل بشكل جيد.
وفي المنزل قد يثور لأتفه الأمور بسبب الضغط العصبي الذي يتعرض له خارج المنزل، فيحاول دائماً أن يتجنب الزحام والضوضاء ليصبح أكثر هدوءاً.

مي زيادي: التلوث يحرق أعصابي ويعطّلني عن العمل
مي زيادي، فتاة تبلغ من العمر 29 عاماً، وتعمل في مجال الأفلام الوثائقية، تعاني مشاكل عدة بسبب ما تتعرّض له من تلوث خلال حياتها اليومية، وتقول: «يضغط التلوث على أعصابي وأكاد أشعر بأنّه يحرقها، إضافة إلى ذلك فالتلوث يعطّلني عن عملي».
مي التي تسكن في العاصمة، تؤكد أن مدينة كالقاهرة تعاني معدلات تلوث مضاعفة لما تعانيه بقية المدن المصرية، إذ يصطدم من يعيش فيها يومياً بزحمة المرور وأصوات السيارات المزعجة، إضافة إلى أضواء المحلاّت الشديدة السطوع وروائح الأدخنة التي تفسد الهواء... وتضيف: «باختصار، نتعرّض في مصر لكل أنواع التلوث، السمعي والبصري والبيئي، وآثاره المدمّرة على الصحة، فتتأثر صحتنا النفسية وجهازنا العصبي، ولا أعلم كيف يمكن الإنسان أن يتحمّل هذا القدر من الضوضاء ورؤية المباني المشوّهة بألوانها السيئة وغير المتسقة».
بعد معاناتها من القلق والتوتّر بسبب التلوث، قررت مي الابتعاد عن الأماكن المزدحمة قدر الإمكان، وارتأت عدم السير على قدميها لأكثر من نصف ساعة، والتنقل بسيارتها تجنّباً للضوضاء ورؤية القمامة في الشارع.

محمد غازي: أشعر بالضغط والتوتر الشديد في أي بيئة يرتفع فيها معدل التلوث
محمد غازي، محاسب، يبلغ من العمر 34 عاماً، ويؤمن بوجود صلة وثيقة بين درجة التلوث في أي بلد والرضا الذي يتمتّع به سكانه... ويؤكد أن التلوث يؤثر كثيراً في صحته النفسية، لدرجة أنّه كان أحد الأسباب التي دفعته للسفر إلى إحدى الدول العربية لينعم بحياة هادئة ونظيفة... موضحاً: «لديَّ طفلتان، ودائماً ما أفكّر بضرورة أن تعتاد عيونهما على رؤية الجمال، وحجب مظاهر التلوث عنهما لتتمتعا بصحّة جسدية ونفسية سليمة، وأرى أن ذلك جزء أساسي من التربية الصحيحة التي ينبغي على الآباء الالتفات إليها، وعدم التعامل معها على أنها أمر هامشي».
يرى محمد أن المجتمع إذا خلا من التلوث فسينعكس ذلك على سلوك أفراده، إذ يساعدهم على أن يكونوا أكثر هدوءاً، وإتقاناً لأعمالهم، وبالتالي يصبحون أكثر إبداعاً، مما يؤدي الى تطور المجتمع وازدهاره، ذلك بعكس المجتمعات التي تستنفد طاقة أفرادها بتعريضهم لأنواع مختلفة من التلوث السمعي والبصري والهوائي.
بعد سنوات طويلة من العيش خارج مصر، يعود محمد إليها في إجازات بعيدة ومتقطعة، ويقول: «في تلك الفترة كنت أشعر دائماً بالضغط والتوتر الشديد، ولا أستطيع التأقلم مع البيئة المحيطة بي... مكافحة التلوث لا تتطلب إمكانيات مادية باهظة، بل تحتاج إلى رغبة أفراد المجتمع في الامتناع عن التسبب به».

هدير عبدالمنعم: أصبحت  عاجزة عن التركيز في عملي
هدير عبدالمنعم، 26 عاماً، تعمل مصورة في إحدى شركات الإنتاج الإعلامي، وبحكم عملها تضطر لتمضية ساعات طويلة يومياً في أماكن يسودها الازدحام الشديد والضوضاء، وتقول: «يبدو الأمر كأنّه مشكلة معقدة لا حلّ لها. أحتاج إلى الهدوء لأستطيع التركيز في عملي، لكن البيئة المحيطة لا تسمح لي بذلك، لديَّ أصدقاء يعملون في شركات ذات تخصصات مختلفة، البعض منها وضع نظاماً صارماً لمنع الأصوات المرتفعة مع ضرورة المحافظة على نظافة المكان، وقد انعكس ذلك على راحة الموظفين وجودة إنتاجهم».
ترى هدير أن ذاكرة الإنسان لا تمحو ما قد يتعرّض له، ومن ثم فإن العقل يستمر في تخزين التراكمات السلبية الناجمة عن التلوث الذي يتعرض له على مدار السنين ليصبح في النهاية شخصاً عصبياً غير قادر على التركيز، وينفر من التجمعات.

يارا شوقي: ألجأ الى النوم
يارا شوقي، 24 سنة، تعمل في إحدى الجامعات الخاصة، وترى أن عوادم السيارات وضجيج المارّة ورائحة الدخان التي تتعرض لها في الشوارع يومياً، من أكبر مشكلاتها الحياتية المزمنة، إذ تضغط على أعصابها بقوّة وتجعلها راغبة في الابتعاد عن الزحام بشكل دائم.
لا تعتقد يارا أن التلوث قد يؤدي إلى علاقات اجتماعية متوترة بين الناس، وإنما يترك آثاراً نفسية مدمّرة على الأفراد، مثل العصبية المفرطة والتوتر والتشتت والشعور بالتعب...  وتضيف يارا: «دائماً ما تشعرني الأماكن النظيفة والهادئة بخفة الروح، وتمدّني بالنشاط والحيوية، عكس الأماكن المزدحمة والملوثة التي تستنفد طاقتي وتجعلني غير راغبة في فعل أي شيء».
قرّرت يارا أن تلجأ إلى النوم باكراً هرباً من المؤثرات الخارجية، بعدما شعرت أنها غير قادرة على التحمل.

مها فؤاد: الناس أصبحوا أقل صبراً ومودة
مها فؤاد، طالبة جامعية تبلغ من العمر 19 عاماً، تعاني من الضغط العصبي الذي يسببه لها التعرض للتلوث، وترى أن الناس من المحتمل أن يكونوا أقل صبراً ومودّة في تعاملاتهم الاجتماعية بسبب ذلك.
«أغاني المهرجانات» الصاخبة التي يحب جيرانها أن يستمعوا إليها، جعلت مها غير قادرة على النوم في أوقات كثيرة، وتشعر بالقلق واضطراب الأعصاب، وتقول: «حتى بعد توقف الأغاني، أستمر في المعاناة من العصبية الشديدة ولا أستطيع النوم، لذا قررت اللجوء الى أماكن أكثر هدوءاً للالتقاء بأصدقائي وإنجاز دروسي، لكنّ ذلك لم يحمني تماماً، إذ إن الطرق التي أسلكها للوصول إلى هذه الأماكن تسودها الضوضاء».

الدكتورة نرمين الطيب: التلوث يزيد معدلات الغضب
الدكتورة نرمين الطيب، مدرّسة الصحة النفسية في جامعة الزقازيق، تعرّف التلوث بأنه تغير في محيط البيئة مما يؤثر بالضرورة في حياة الإنسان ويخلّ بتوازنه النفسي، لذا فإن البيئة السليمة تقود إلى صحة نفسية سليمة... وتضيف: «أثبتت الدراسات أن التلوث يؤدي إلى زيادة معدلات الغضب وسرعة الاستثارة، كما يتسبب في عدم تكيف الإنسان مع البيئة المحيطة، وبالتالي عدم القدرة على إنجاز المهام بسبب تشتت الانتباه وعدم التركيز والقلق».
وتحذر الدكتورة نرمين من أن التلوث قد يؤدي إلى إشعال فتيل المشاجرات الزوجية والخلافات داخل الأسرة، لأن الصور السلبية التي يراها الإنسان تخزن لا شعورياً ولا تمر بمجرد انتهائها، فتخزنها ذاكرته البصرية وتظل عبئاً عليها، ويمكن استرجاعها مرات عدة، مما يؤدي إلى اضطراب نفسي يؤثر في حياته الاجتماعية.

وتكمل: «إذا تعرض الزوجان لمعدلات كبيرة من التلوث، من السهل أن يُصابا بالانهيار العصبي، أو يصلا الى ما نطلق عليه «الخرس الزوجي»، وهو ليس ناجماً فقط عن سلوك الزوجين، وإنما تلعب البيئة المحيطة دوراً مهماً فيه، لأن كلاً منهما يكون غير قادر على التعبير عما يراه من سلبيات».
وتنصح الدكتورة نرمين الأفراد بمحاولة تجنب التلوث، والانشغال عن البيئة المحيطة بأي نشاط مفيد، أو مغادرتها تماماً أو تعديلها لو أمكن، كما تنصح الأمهات بتجنب السلوك العصبي أمام أطفالهن، لأنه يترك الكثير من الآثار الضارة عليهم، كالكلام بطريقة متقطعة أو الشعور بالخوف.

مستشار صحة البيئة في منظمة الصحة العالمية
مازن ملكاوي: نحن ضحية التغير المناخي الناجم عن دول أخرى

سبعة ملايين شخص قضوا في العالم بسبب تلوث الهواء، منهم 200 ألف قضوا في الاقليم الذي ننتمي إليه نتيجة تلوث الهواء الخارجي. إذ يعيش العالم اليوم ولا سيما بلداننا على فوهة بركان من التلوث المتعدد المصادر، بدءاً من تلوث الهواء إلى تلوث التربة وانتشار الأمراض والأوبئة نتيجة التغير المناخي، وعليه يتجه العالم إلى كارثة إنسانية إذا لم نبدأ بالاجراءات الوقائية الفردية وصولاً إلى البرامج الحكومية، وبمساهمة منظمة الصحة العالمية. يتحدث مستشار صحة البيئة في منظمة الصحة العالمية مازن ملكاوي عن الواقع البيئي والمخاطر التي تواجه مختلف دول العالم ولا سيما إقليمنا... وقد بدأ حوارنا معه بالسؤال:

كيف نُعرّف تلوث الهواء؟
صدر أخيراً بيان عن منظمة الصحة العالمية تحدث عن تلوث الهواء الخارجي، والمنظمة مهتمة بتأثير التلوث في صحة الإنسان. تلوث الهواء نوعان: التلوث الخارجي والتلوث الداخلي. أظهرت دراسات منظمة الصحة العالمية أن عدد الوفيات التي يتسبب بها تلوث الهواء، بشقيه الداخلي والخارجي يبلغ نحو 7 ملايين وفاة. أخيراً تم تحديث البيانات لعدد الوفيات والأمراض التي تصيب الإنسان نتيجة التلوث الخارجي والتي تُقدر بنحو ثلاثة ملايين شخص، وهذه الدراسة تشمل كل دول العالم. تلوث الهواء الخارجي تم تحديده في المدن، في ما يخص المدن في إقليمنا وهو إقليم شرق المتوسط ويضم 22 دولة، تقريباً كل الدول العربية باستثناء الجزائر وموريتانيا، ومن ضمن إقليمنا أفغانستان وباكستان وإيران، تم تقدير عدد الوفيات في هذه الدول نتيجة تلوث الهواء الخارجي بـ200 ألف حالة وفاة سنوياً.

- ما الفارق بين تلوث الهواء الخارجي والتلوث الداخلي؟
يتلوث الهواء الخارجي من مصادر مختلفة، نتيجة قطاع النقل، السيارات والباصات والطائرات من خلال الوقود الذي تحرقه. المصانع وما تبثه من أدخنة في الأماكن العامة وخارج بيئة العمل. أما التلوث الداخلي فهو داخل المنازل، والجزء الأكبر منه ينجم عن حرق أنواع غير نظيفة من الوقود، وهو الوقود الجاف بشكل عام، أي الحطب وأنواع أخرى من الوقود، واستخدامه يقتصر على ست أو سبع دول مثلاً في أفغانستان وباكستان واليمن والسودان وجيبوتي، ولكن هناك بعض أنواع الوقود الأخرى الملوثة مثل الكاز والسولار الذي يتم استخدامه بشكل مباشر داخل المنازل، وهو ما يلوث البيئة الداخلية بمجموعة من الملوثات أهمها، أول أوكسيد الكربون وأكاسيد الكبريت والنيتروجين.

- ما هي الإجراءات التي تتخذها منظمة الصحة العالمية لمكافحة تلوث الهواء؟
تبدأ أولاً بالسلوك الشخصي للأفراد والجماعات لتجنب تلوث الهواء، وهي عادة تكون على الأمد القصير، وثمة إجراءات أخرى لتقليل التلوث من مصدره، بالنسبة الى الإجراءات الأولية، إذ لا بد من مراقبة تلوث الهواء، وأثناء ارتفاع معدل التلوث، نقدم النصائح للناس للابتعاد عن مصادر التلوث وعدم مغادرة المنازل، وممارسة الرياضة داخل المنازل لا خارجها. هذه النصائح قد تكون مهمة لعامة الشعب ولكنها تهم أكثر من يعانون أمراض القلب والجهاز التنفسي. الجزء الأكبر والأهم هو خفض نسبة التلوث من مصادره، مثلاً: قطاع النقل هو من أهم القطاعات التي تسبب التلوث، وبالتالي لا بد من استخدام الوقود النظيف الخالي من الرصاص، ولحسن الحظ فإن أغلب دول الإقليم تستعين بالوقود الخالي من الرصاص، لكن نسبة الكبريت عالية في مختلف دول الاقليم، مثلاً في الدول الأوروبية يتم استخدام الكبريت في الوقود بنسبة 50 جزءاً في المليون، بينما في دولنا تصل النسبة إلى 10 آلاف أو 20 ألفاً. ولا بد من لفت الانتباه الى التحكم بنسبة الكبريت في الوقود. الجزء الآخر يتعلق بنوعية المركبات والانبعاثات التي تصدر منها. حالياً أوروبا متشددة جداً في ما يتعلق بتطبيق مواصفات اليورو7، بحيث تحد من كمية انبعاثات السيارات، بينما في دولنا لا تتم مراقبة هذا الأمر، كما لا يكفي أن نضع مواصفات جديدة للسيارات، لكي تتمكن من السير على الطرقات، بل لا بد من فحص الانبعاثات التي تنتج منها وتوقيف أي سيارة غير مطابقة للمواصفات، إذ يحمل هذا الجانب عنوان «مركبات النقل النظيفة والوقود النظيف». وهناك خطوة أخرى مهمة، وهي استخدام وسائل النقل الجماعي والاستعاضة عن وسائل النقل الفردي من خلال المترو أو الباصات، فهذه الوسائل حلّت جزءاً من المشكلة. بدأنا نشاهد بعض المحاولات، مثلاً: عاشت مصر تجربة جيدة جداً منذ أكثر من 15 سنة بحيث يعتمد أهلها مترو الأنفاق ووسائل النقل المشترك، وليس لدي احصائية دقيقة ولكنني علمت منذ فترة أن نحو 7 ملايين شخص يستقلون مترو الأنفاق في العالم، فكيف يمكننا أن نخال أن هؤلاء موجودون على سطح الأرض ويستخدمون العربات الفردية! وماذا عن حجم التلوث الذي سيتسببون به؟ هناك تجربة جيدة أيضاً في المغرب في ما يتعلق بوسائل النقل العام، ودبي أيضاً، والسعودية في مدينة الرياض إذ يعملون على مشروع ضخم، هذه هي الخطوات الأساسية التي يجب أن تقوم بها الدول للتقليل من سير المركبات على طرقاتها. هناك ما هو موجود في أوروبا وغير متوافر في دولنا، وهو الاستعاضة عن المركبات بالمشي واستخدام الدراجات الهوائية. في بعض المدن الكبيرة ربما لا يصلح السير على الأقدام، ولكن في بعض المدن الصغيرة يمكن الاستعاضة عن المركبات بالمشي. البنك الدولي يقدر الفائدة من هذه الحلول بأنه إذا استثمرنا دولاراً واحداً فإننا نوفر نحو 10 دولارات من حماية البيئة وصحة الانسان. هذا في ما يتعلق بقطاع النقل، أما في ما يتعلق بقطاع الكهرباء وهو من القطاعات المهمة التي تؤدي الى تلوث الهواء، فبدائل الطاقة موجودة حالياً، والشمس تسطع أكثر من 330 يوماً في السنة في إقليمنا، لذا فإن استخدام الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء هو أحد البدائل المطروحة بشكل قوي، فطاقة الرياح والأمواج كلها عبارة عن مصادر نظيفة للطاقة.

- ماذا عن التكلفة؟
بدأنا نرى أخيراً نماذج مطروحة في السوق، تسترجع التكلفة بعد ست أو سبع سنوات، عادةً نقارن الوقود الأحفوري مع الطاقة الشمسية، فالبتأكيد البدائل تكلفتها أعلى، في وقت ننسى أن الوقود الأحفوري له تكلفة صحية... الطاقة النظيفة هي أحد البدائل المهمة للتقليل من تلوث الهواء. وحالياً في أوروبا ثمة أصوات تعلو لمدن خالية من الوقود الأحفوري، علماً أن الشمس في أوروبا ظهورها نادر. كما أن قطاع الزراعة هو من المصادر المهمة في تلوث الهواء من خلال التربية الحيوانية وبالتحديد غاز الميثان، الترويج لفكرة النمط الغذائي، والابتعاد عن اللحوم والتوجه نحو النبات، الذي له أكثر من فائدة، منها التقليل من أمراض العصر المزمنة مثل السكري والجلطات وأمراض القلب، وفي الوقت نفسه هي تخفف من الانبعاثات. ولا أدري إن كان باستطاعتنا التفكير في تطبيق هذا المنهج في إقليمنا أو في دولنا، ولكن الكثير من الأصوات تتعالى لأن نخفف من كمية اللحوم في وجباتنا.

- ولكننا نواجه مشكلة أخرى من خلال تلوث التربة والمياه.
صحيح، ولكن إذا بدلنا نمط الاستهلاك والكميات، فكميات الغذاء التي تُهدر في اقليمنا هائلة، وهناك دراسات قام بها برنامج الأمم المتحدة للبيئة عن كمية الطعام التي تهدر، ويمكن أن نترجمه إلى تلوث هواء ومياه، لذلك فإن تغيير نمط الاستهلاك هو أحد البدائل المطروحة للتحكم بتلوث الهواء. بالنسبة إلى إنتاج الطاقة، ثمة دول تستعين بالوقود الثقيل، ولذلك يمكن استبدال هذا الوقود بآخر خفيف، مثل غاز البيوتين. والمعروف أن كمية الملوثات التي يبثها في الهواء أقل بكثير من الوقود الثقيل. هناك العديد من الإجراءات التي يمكن أن نقوم بها. مثلاً: تدوير النفايات في لبنان وبحسب التقارير يتم حرقها، لذلك يجب أن يُمنع الحرق تماماً لأنه يساهم في تلوث الهواء بالكربون وبملوثات مختلفة، وعملية الحرق تشمل كل النفايات بما فيها من مواد بلاستيكية تنتج من حرقها مواد مسرطنة. تدوير النفايات الصلبة والتقليل منها والاستعاضة عن عمليات الحرق بالطمر الملائم يقلل من خطرها.

- ألا تؤذي المطامر التربة؟
لا تؤذي إذا صمّمت المطامر بشكل جيد. في بعض الدول باتت المطامر مصادر للطاقة إذ يتم إنتاج عملية غاز الميثين من المطامر، وبالتالي إذا صمّم المطمر منذ البداية بشكل جيد، يمكننا جمع الغاز واستخراج الطاقة منه. في الأردن، يتم حالياً تطوير المكبّات الرئيسة بهذا الاتجاه، بحيث تسترجع الطاقة منها وتنتجها من النفايات.

- ماذا عن نسبة تلوث المياه في العالم العربي؟
يعاني العالم العربي مشكلة قد تكون أكبر من تلوث المياه، وهي شح المياه، وحتى المتوافر منها نقوم بتلويثه لأن التطور الحضري الذي نواكبه لا ترافقه عملية تنقية المياه، سواء المياه الصناعية أو المجاري الصناعية أو مياه المجاري الطبيعية، إذ يتم إلقاء المياه في الأودية فتختلط مع المياه الجوفية، ولا أعتقد أن هناك دراسة تشير إلى نسبة تلوث المياه، ولكن نجد بعض الأرقام التي تؤكد ارتفاع نسبة الإسهال في بعض الدول الاقليمية، والناجم عن استخدام المياه الملوثة وغير الصالحة لري المزروعات. مشكلة المياه هي مشكلة ألم مزدوج ما بين الشح والتلوث وتأثيرها المباشر في الصحة.

- هل الاحتباس الحراري هو نتيجة التلوث الذي نشهده في العالم العربي اليوم؟
أحدهما يساهم في انتشار الآخر، لكن مساهمة الوطن العربي في الغازات الدفيئة محدودة جداً، إذ لا تقارن بما تقوم به أميركا أو الهند أو الصين، نحن ضحية التغير المناخي الناجم عن دول أخرى وبالتالي ندفع الثمن، وحسب القراءات الموجودة والاستنباطات التي تقوم بها المؤسسات الدولية، سترتفع درجات الحرارة في الاقليم وستنخفض نسبة المياه، سواء ساهمنا في انتشار التلوث أم لا، ولا بد من اتخاذ اجراءات تحد من التغير المناخي، ولكن أيضاً لا بد من التكيف مع التغير المناخي، لأننا ندفع الثمن أكثر مما ننتج، وبالتالي نطالب العالم الصناعي والعالم المتقدم، بأن يتحمل عبء تكلفة التكيف مع هذه التغيرات المناخية. حالياً نعرف أين هو ميزان القوة، وبالتالي هذه صناعات تحميها دول، وما تم التوافق عليه في مؤتمرات التغير المناخي أن لا بد لدول العالم المتقدم من أن تساعد الدول النامية في كيفية التكيف مع التغير المناخي، والتكيف يتم سواء مع الشح المائي أو مع ارتفاع درجات الحرارة أو تلوث الهواء، ويُلاحظ أخيراً تعدد الموجات التي تشمل الغبار والرمال وتصل إلى أماكن لم تصلها سابقاً، وهذه الموجات تترافق مع درجات حرارة منخفضة جداً في الشتاء وحرارة مرتفعة جداً في الصيف، الموجات الحارة والعواصف الرملية باتت تزداد في الفترة الأخيرة، مثلاً: نحن معتادون على هذه العواصف في فصل الربيع، ولكن بتنا حالياً نشاهدها في الخريف والربيع وحتى في الشتاء.

- هل تساهم الحروب في زيادة نسبة التلوث؟
في السنوات العشر السابقة، درس برنامج الأمم المتحدة للبيئة تأثير تحركات الجيوش في طبقات الأرض، وازدياد انتشار الغبار. وهو أحد الجوانب بالإضافة إلى كمية المتفجرات والملوثات التي نُشرت في أجواء الدول المختلفة. التأثير الأخطر، هو ان أثناء هذه الحروب تستهدف الفرق المتصارعة المستشفيات، محطات تنقية المياه، محطات تنقية المجاري، وبالتالي تقوم بتلويث البيئة بشكل متعمد أو غير متعمد. مثلاً: تجربتنا مع الحرب العراقية، فبعد انتهاء العدوان الأميركي على العراق تم تدمير كل محطات المجاري والمياه، ولا يزال نهرا دجلة والفرات يعانيان من التلوث الشديد، لأن كل المجاري يتم ضخها إلى المدن من دون معالجة. وحسب التقارير التي تصلنا من دمشق، فإن محطات التنقية في الجمهورية العربية السورية متوقفة كلها عن العمل، أي أن هذه المجاري تصب في الأودية والأنهار، والتأثير الأكثر خطورة هو استهداف منشآت كانت تعمل على تنقية البيئة، هذا عدا عن استهداف حياة الانسان وممتلكاته.

- نشهد في الآونة الأخيرة، انتشار فيروسات جديدة، ما هي أسباب انتشارها؟
من ظواهر التغير المناخي، ظهور بعض الأمراض الجديدة في بعض دول العالم أو معاودة ظهور الأمراض، نتيجة تغير البيئة. مثلاً: المالاريا كان مستوطناً في بعض دول الإقليم وتنقله بعوضة اسمها الأنوفوليس، هذه البعوضة تعيش في ظروف محددة، المالاريا تتجه الآن نحو أوروبا، أي اليونان وايطاليا وفرنسا، وقد وضعت هذه الدول خطط طوارئ لأنها تتوقع أن مرضاً مثل المالاريا سيعاود الظهور في بلدانها.

- في أي ظروف يظهر مرض المالاريا؟
الحرارة المعتدلة تلائم هذا المرض، لذلك كان مستوطناً في مناطقنا ثم انتقل اليوم إلى أوروبا. هناك «حمى الضنك» وهذه الحمى لم تكن موجودة في إقليمنا وأقصاها كان في جنوب السودان والصومال، حالياً بدأت تصل إلى السودان ومصر والمملكة العربية السعودية، وأسباب هذا المرض هي ارتفاع درجات الحرارة وانتقال المسبب من تلك المناطق نتيجة تغير البيئة إلى مناطقنا. وهناك العديد من الأمراض التي ظهرت من جديد وبوتيرة أسرع وأكبر، نتيجة تغير المناخ.

- ماذا عن فيروسي زيكا وكورونا؟
وحده الكورونا انطلق من إقليمنا، ولكن زيكا والأمراض الأخرى لا نزال سالمين منها لغاية الآن، ولكنْ ثمة شيء مهم جداً في منظمة الصحة العالمية وهو اللوائح الصحية الدولية، ومن المفترض أن يكون لدى كل دولة وسائل لمنع دخول الأمراض إليها من الدول المجاورة والإبلاغ عن الأمراض الموجودة عندها. حالياً هناك تقييم لقدرات الدول على الالتزام باللوائح الصحية الدولية. أما بالنسبة الى الكورونا، فعلاقته وثيقة بالجِمال الموجودة في إقليمنا، ولكن تمت السيطرة عليه الآن. وثمة جانب مهم تم إغفاله في الدول العربية وهو أن هناك العديد من الأمراض التي تنتقل الى الإنسان بواسطة الحيوان، ولكن نتيجة الأوبئة التي ظهرت أخيراً، وضعت غالبية الدول قوانين صارمة، سواء على استيراد الحيوانات أو المنتجات الحيوانية.

- هل هناك تعاون من الدول العربية مع المقترحات التي تقدمها منظمة الصحة العالمية؟
منذ فترة، كنا في اجتماع للجنة الإقليمية لشرق المتوسط، وهو اجتماع سنوي يضم كل وزراء الصحة في الإقليم باستثناء الجزائر وموريتانيا، وتتم فيه مناقشة خطط جميع الدول للتصدي لكل الأولويات الصحية، سواء الأمراض الجديدة أو الأمراض القديمة. وهناك تعاون وثيق وبرامج مشتركة ما بين الدول.

- ما هي الدول الأكثر تأثراً أو تلوثاً؟
هناك عبء مرضي كبير في إقليمنا، فالدول الأفقر هي المعرضة أكثر لأضرار التلوث، تلوث الهواء الداخلي والخارجي موجود في الدول الفقيرة مثل افغانستان والصومال وباكستان... 

- هل الجهد الذي تبذله منظمة الصحة العالمية في هذه الدول يفوق جهودها في الدول الأخرى؟
الاهتمام بتلوث الهواء بدأ منذ سنتين تقريباً، ومنظمة الصحة العالمية تولي الدول الفقيرة اهتماماً خاصاً.-

إحصاءات 

وفقاً لإحصائية نشرتها منظمة الصحة العالمية في أيار/مايو 2016، يتسبّب التلوث بما يزيد على ثلاثة ملايين وفاة مبكرة سنوياً في العالم كله، فيما رصدت الإحصائية تزايداً وصفته بالمقلق في معدل تلوث الهواء في المناطق الحضرية، وفي الوقت نفسه رصدت المنظمة تزايداً في الاضطرابات النفسية الشائعة في العالم، إذ زاد عدد الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب أو القلق من 416 مليوناً إلى 615 مليون شخص بين عامي 1990 و2013، أي بنسبة 50% تقريباً، واصفة تلك الأمراض النفسية بأنها «أمراض غير مميتة وتمثل عبئاً عالمياً».
وكشفت دراسة أخرى أجراها باحثون في جامعة «أوهايو» ونقلها عنهم موقع «ساينس دايلي»، على فئران تجارب، أن التعرض الطويل الأمد لتلوث الهواء يمكن أن يؤدي إلى تغيرات فيزيولوجية في الدماغ، أو إلى مشاكل في الذاكرة والاستجابة والاكتئاب، إذ لاحظوا وجود اختلافات فيزيولوجية واضحة في منطقة الحصين الدماغية بين مجموعتي الفئران.

ما هي الأخطار التي تواجه مجتمعاتنا حالياً، وإلى أين نحن ذاهبون؟
في إقليمنا نواجه خطر الأمن الصحي، للأسف نصف أزمات العالم موجودة في إقليمنا، ونصف لاجئي العالم هم في إقليمنا، البرامج الصحية التي تهدف إلى الصحة العامة ترزح تحت خطر الاستهداف المباشر، ما بين الدول التي تواجه أزمات حقيقية وتلك التي تستضيف اللاجئين، البرامج الصحية تتأثر كثيراً، وبناءً على ذلك فإن موضوع الأمن الصحي من الأولويات في إقليمنا، الى جانب مواضيع صحة الأمومة والطفولة وارتفاع نسبة الأمراض المزمنة بشكل لافت للانتباه مثل أمراض السكري والقلب، بالإضافة إلى أن تلوث الهواء من المخاطر التي بدأت تؤثر كثيراً في صحة الإنسان. في دراسة أخيرة تم تحديد مسببات الوفيات في دول العالم كله، وفي دولنا كان تلوث الهواء أحد الأسباب العشرة المسببة للوفيات.