من يحدد مستقبل أبنائنا؟ صراع الرغبات بين الآباء والأبناء!

صراع الرغبات,بين الآباء,والأبناء,مستقبل,الأجيال,مجال,دراسة,توجيه متعمد,حق الاختيار,مضيعة للوقت,فرض التوصية,تصميم,وإرادة,تحليل نفسي,الدكتور جمال ياقوت,إبراهيم فرن,محمد مرسي,الدكتور زياد يوسف,رشا الوكيل,ماهينور حاتم سويلم,الدكتورة رشا رضا,الدكتورة منى رضا,هبة عربية

فادية عبود - (القاهرة) 27 نوفمبر 2016

تدخل الأهل في اختيار دراسة الأبناء قد يمر بسلام أحياناً، ويدخل في أحيان أخرى في إطار صراع الأجيال، الذي يتحول إلى حرب من أجل بلوغ مستقبل أفضل، فكل من الطرفين يدافع عن وجهة نظره... لكن لماذا يصر الآباء على اختيار مجال دراسة أبنائهم؟ وكيف يقاوم الأبناء ذلك؟


تدخل غير فج
الدكتور جمال ياقوت، أستاذ في كلية الآداب، لم يحاول يوماً توجيه ابنته بسنت، 20 عاماً، الى دراسة الهندسة رغم أنها كانت أمنيته، وتركها تختار مستقبلها، ويحكي عن قصته قائلاً: «رغم أن مجموع ابنتي كان يؤهلها لدراسة الهندسة، وتلك كانت رغبتي وأملي في الحياة، إلا أنها فاجأتني برفضها دراسة الهندسة، مفضّلةً عليها دراسة الفنون الجميلة- قسم العمارة، فما كان عليَّ إلا أن أمهّد لها طريق الاختيار، فجعلتها تتواصل مع مدرّسين في كلتا الكليتين، ومهندسين وخريجي فنون جميلة، لتقرر مستقبلها، لكنها فاجأتني باختيارها الفنون الجميلة- قسم العمارة، لأن تحب هذا المجال وتحقق فيه طموحاتها، فلم ألزمها برغبتي في الهندسة، كما لم أحاول إقناعها، بل تركتها تقرر مصيرها بنفسها».
ويضيف: «في العام الأول لدراسة الفنون الجميلة، كانت نتيجة ابنتي «جيد جداً»، وسعدت كثيراً باختيارها، ثم سألتها ما إذا كانت تعلم برغبتي في أن تدرس الهندسة، ففاجأتني بالإجابة وأذهلني تصميمها على اختيار هدفها، إذ قالت إنها كانت تعلم، لكنها لم ترضخ لعاطفتها نحوي وقررت اختيار ما تحب أن تكون، وهذا بالطبع دليل على ذكاء هذا الجيل المختلف تماماً».
ويتابع ياقوت: «تعلمت الدرس المستفاد من ابنتي، وبدأت أوجّه طفلي الثاني عبدالرحمن، وهو طالب في الصف الأول الإعدادي، إذ بعدما تيقنت من أنه يميل أكثر الى الرياضيات، رحت أركز معه على تنمية مهاراته في هذه المادة، الى أن أصبح في الثانوية العامة واختار الفرع العلمي، وما زلت أستكشف اهتماماته الأخرى حتى نقرر معاً ماذا سيكون مجال دراسته، رغم أنني أتوسم أن يدرس الهندسة».
يلفت الدكتور جمال ياقوت إلى أنه لا يحب التدخل الفج في رغبات أبنائه، أو إجبارهم على دراسة تستقطع من عمرهم سنوات طويلة، ثم يغيرون مجالها بعد التخرج، مؤكداً أنه واجه حالات عدة مشابهة من خلال تدريسه في كلية الآداب- قسم المسرح، فكم من طالب يعترض أهله على دراسته فنون المسرح والتخصص فيه، ويمضي عاماً أو حتى خمسة في كليات مختلفة، ما بين التجارة والحقوق وتخصصات الآداب المختلفة ليعود مرة أخرى إلى دراسة المسرح بعد ضياع سنوات من عمره! وفي المقابل نجد طالباً يرسب مرتين في أول عام في كليته، التي يبغضها، فيتم رفضه ويخسر تعليمه العالي ككل بسبب تعنت الأهل.

مع سبق الإصرار

إبراهيم فرن، مصمم إضاءة وسينوغراف مسرحي، يؤكد أنه يوجّه طفله جاسر ذا الـ12 ربيعاً إلى احتراف كرة القدم... ويوضح: «جاسر يعشق الفن، خصوصاً التمثيل، نظراً الى عملي في هذا المجال، ولكونه يرافقني كثيراً إلى المسرح، وقد طلب مني مراراً وتكراراً أن يشترك في فرق تمثيل الأطفال، لكنني رفضت، وأصررت على توجيهه إلى احتراف كرة القدم، وبتّ أدعمه وأشجعه على ممارسة تمارين كرة القدم، فكل ما أطمح إليه ألا يدخل ابني مجال الفن ويعاني صعوباته وقلة دخله المادي، لذا حرصت على توجيهه إلى مجال أكثر أماناً، خصوصاً أن من النادر أن نجد لاعب كرة قدم فقيراً».

 

توجيه متعمد
أما محمد مرسي، مخرج مسرحي، فهو يوجه ابنته إلى دراسة البيانو والموسيقى بشكل عام، ويقول: «ابنتي ملك عمرها ست سنوات، وأنا مدير قصر الثقافة في الإسكندرية، وكنت أقيم ورشتين لتعليم الأطفال الفنون: واحدة للتمثيل والأخرى للعزف على البيانو، فاختارت ملك الانضمام إلى التمثيل، لكنني وجّهتها بهدوء إلى الموسيقى»... مؤكداً: «دخول البنات مجال التمثيل غير آمن، ولا أحب أن أتصارع معها عندما تكبر من أجل التخلي عن هوايتها التي تراها جزءاً من عملي، وكل ما فعلته منذ صغرها هو تبديل وجهتها إلى البيانو بدلاً من تنمية رغبتها في التمثيل، واتفقنا على أنها ستكمل دراستها في معهد الكونسرفتوار عندما تكبر قليلاً».
ويتابع مرسي: «مجال الفن بعامة غير آمن وغير مستقر مادياً، وشخصياً عشقت المسرح لأن أبي كان مخرجاً مسرحياً، فورثت عنه حبّه للمسرح، ومهنته أيضاً، لكنني أشفق على ابنتي من هذه المهنة، وأوجهها بعيداً عنها، من دون أن أشعر بالذنب لكبحي رغبتها».

حق الاختيار
هبة عريبة، فنانة تشكيلية، تؤكد أنها كانت تحب الفن منذ طفولتها، وقررت دخول كلية التربية النوعية، وتفهّم أبواها الأمر جيداً، ولم يعارض أحد حقها في الاختيار... وتقول: «درست ما أحب، والنتيجة أنني أعمل حالياً في المجال الذي أحب، فمنذ طفولتي أعشق الرسم، وكان والداي يشجعانني على تنمية الهواية واحترافها، وبالتالي درس التربية النوعية، لكنني صدمت من تحكم الآباء في اختيار مستقبل أبنائهم، إذ قابلت فتيات يخشى أهاليهن عليهن من الاختلاط بالرجال في العمل، ففرضوا عليهن دخول كلية التربية النوعية ليعملن مدرّسات رسم للأطفال، كما قابلت طلاباً لم يختاروا الدراسة، بل تحكم فيهم مجموعهم، فقرر مكتب التنسيق دخولهم كلية التربية النوعية».
تعترف هبة بأن الاختيار حق من حقوق الإنسان، ولا ينبغي على أحد التدخل فيه، وبناء عليه فاختيار مجال الدراسة والعمل يُحظّر على الأهل التدخل فيه، وإلا يسيطر الفشل على أبنائهم، فمثلاً ابنة عمّتها كانت تحب اللغة العربية وتنظم شعراً، لكن عارض أبوها رغبتها في دخول كلية الآداب ووجّهها إلى كلية التجارة، فكانت ترسب كل عام في التجارة وضيّعت من عمرها سبع سنوات في دراستها.
وتنهي هبة حديثها مؤكدة: «أشكر الأهل الذين يتابعون اهتمامات أطفالهم وهواياتهم، ويساعدونهم على تنميتها، فلا يحجرون على آرائهم في اختيار مجال الدراسة والعمل، وهؤلاء الأهل عظماء ويأتي في مقدمهم أمي وأبي».

مضيعة للوقت
الدكتور زياد يوسف، مدرّس مساعد في أكاديمية الفنون، وقع ضحية تعنت أبيه ورفضه لدراسة التمثيل، فدخل كلية الآداب- قسم الفلسفة، وضيّع من عمره أربع سنوات حتى تخرّج وعاود دراسة الفن من جديد.
ويروي زياد قصته قائلاً: «عشقت التمثيل منذ طفولتي، وكانت أمي تشجعني على احترافه، لكن والدي كان يصر على أنه هواية فقط ويجب أن أستكمل دراستي الجامعية، لأحمل مؤهلاً عالياً يكون هو حصن الأمان ضد غدر الزمان، وبعدما نجحت في اختبارات كلية الفنون من المرة الأولى، رفض والدي وأصر على دخولي كلية الآداب- قسم الفلسفة، لكن عندما شاهد والدي مسرحية في نهاية العام الأول من الكلية، ورآني أمثّل جيداً فيها والجمهور يصفق لي بحرارة، أكد أنه لم يكن يعلم بتشبثي القوي بحلمي، وفور تخرجي في كلية الآداب دخلت معهد الفنون، وبدأت الدراسة من جديد وتخرجت بامتياز، وقدمت أدواراً تلفزيونية، حيث شاركت في مسلسل «كليوباترا» مع سولاف فواخرجي، و«مع سبق الإصرار» مع الفنانة غادة عبدالرازق، وحالياً أحضّر لأول بطولة سينمائية لي من إخراج عثمان أبو لبن».

فرض التوصية
تعترض رشا الوكيل، راقصة في فرقة «دار الأوبرا للرقص المعاصر»، على مبدأ الأهل في فرض التوصية على اختيارات الأبناء في ما يخص الدراسة والعمل، وتقول: «يعتقد الآباء أن فرض التوصية والحجر على رغبات الأبناء نوع من تأمين المستقبل، لكنه اعتقاد خاطئ وغالباً ما يؤدي إلى الفشل».
وتحكي رشا عن تجربتها قائلة: «لم يخجل والداي من كون توصيفي الوظيفي «راقصة»، بل دعماني منذ كان عمري 13 عاماً، وعملا على تنمية هوايتي وحبي للباليه، فدخلت معهداً متخصصاً في دراسة الباليه وقتها، ومن ثم مارست مهنة «الرقص المعاصر» في إحدى مؤسسات الدولة».

تصميم وإرادة
ماهينور حاتم سويلم، طالبة في كلية الإعلام، تضايقت من إصرار والدها على إبعادها عن دراسة الإعلام، وتحكي تجربتها قائلة: «أعشق التصوير منذ صغري، وكنت أطمح الى دخول كلية الإعلام، لكن أبي كان يعترض خوفاً عليَّ، أما أمي فكانت تدعمني في هوايتي ورغبتي، وفي فترة مرضها الأخيرة قبل وفاتها أوصتني بدخول كلية الإعلام لأنها تفيدني في تنمية هوايتي... لكن بعد انتهائي من الثانوية العامة لم يحالفني الحظ في دخول كلية الإعلام الحكومية، لأن مجموعي قليل، حيث حزنت على فراق والدتي ولم أركز في الدراسة جيداً، ولم تقبلني أي جامعة خاصة باستثناء جامعة MSA، وكان فيها كليتا تجارة وإعلام، فعارضت رغبة أبي في دراسة التجارة، وواجهت ضغوطه من أجل تنفيذ وصية أمي وتحقيق حلمي في التصوير».
وتتابع: «المعركة الأولى كانت في اختيار التخصص، فأحد المدرّسين في الكلية شاهد تصويري وأكد ضرورة أن أدعم موهبتي بالدراسة وأتخصص في التصوير، أما المعركة الثانية فكانت مع أبي حيث إن قسم التصوير في الكلية هو تصوير سينمائي، فانتصرت في المعركة، ورغم ذلك كان أبي مصراً على توجيهي بعيداً عن السينما، بإيجاد فرص تدريب كمصورة في قنوات فضائية كي أعمل في هذا المجال بعد التخرج، وأنا مقتنعة بأن ما حققته هو نتيجة التفاوض المثمرة».

اختيار المجال
أما من الناحية الاجتماعية، فتناقش الدكتورة رشا رضا، خبيرة تخطيط مجالات العمل للشباب، القضية وتقول: «أكثر ما يجعل الأهل يضغطون على أبنائهم ويتشبثون برأيهم في اختيار مجال الدراسة، هو التباهي الاجتماعي، ففي مصر نجد بعض الكليات المصنّفة بأنها «كليات قمة» لا يدخلها إلا ذوو الياقات البيض، مثل الطب والهندسة، وفي المقابل تصنّف كليات الفنون بأنها «كليات الفاشلين»، ومن هذا المنطلق لا ينصت الآباء إلى رغبات الأبناء، ويصرون على اختيار مجال دراسة معين، ويبدأون في الضغط على أبنائهم منذ دخولهم المرحلة الثانوية».
وتتابع: «ذلك الضغط لا يثمر إلا فشل الأبناء في معظم الحالات، أو ترك مجال الدراسة والتوجه الى ما يحبونه بعد التخرج، فكم من طبيب توجّه إلى التمثيل مثل يحيى الفخراني، وكم من طبيب ذاع صيته في الأدب مثل الدكتور علاء الأسواني الذي استطاع أن يجمع بين عمله طبيباً وكاتباً، وأحد رموز الثقافة في مصر في العصر الحديث».
تؤكد الدكتورة رشا أن الحل يكمن في معرفة ميول الأطفال، مثل دخولهم المرحلة الإعدادية، وتأهيلهم لما يريدونه من عمل وتخصصات في المرحلة الثانوية، وذلك من طريق إخضاعهم لدورات تدريبية تُطلعهم على المهن ومميزاتها وطبيعتها، وهذا ما يحدث حالياً في بعض المدارس، وكذلك من طريق تفهم الأسرة ووضع الشاب في البيئة المناسبة لميوله، حتى يستطيع الحكم ما إذا كان يناسبه أم لا، فمثلاً من الممكن أن ينضم إلى تدريب صيفي في إحدى الشركات في المرحلة الثانوية، أو أن يرافق والده الى عمله إذا كان يريده أن يعمل في المجال نفسه، أو أن يقابل أقاربه العاملين في المجال الذي يتطلع إليه ويدير معهم حواراً عن المهنة ومتطلباتها ومشاكلها، وبالتالي تكون الصورة أوضح، خاصة في ظل استحداث بعض المهن الجديدة التي تواكب العصر، مثل مدير تسويق مواقع تواصل اجتماعي وغيرها، فهكذا تتقارب وجهات النظر بين الآباء والأبناء بشكل عملي ومريح لكلا الطرفين.

تحليل نفسي
الدكتورة منى رضا، أستاذة الطب النفسي في جامعة عين شمس، تحلل القضية نفسياً، وتقول: «الآباء لا يقصدون التحكم في رغبات الأبناء ولا يتطلعون إلى إيذاء أبنائهم وحرمانهم من رغباتهم، لكن في الجانب النفسي يرى الآباء أنهم يختارون طريقاً مضموناً وآمناً لمستقبل أبنائهم ليسيروا على نهجه، فالطبيب يصر على أن يكون ابنه طبيباً، وكذلك المهندس، والسبب في ذلك خوف الآباء من المجهول الذي لم يعرفوه أو يجربوه من قبل».
وتتابع: «السبب الثاني في إصرار الآباء على اختيار مجال الدراسة والعمل، هو استكمال الاستثمار، فمثلاً لو كان الأب مقاولاً معمارياً ولديه عدد ضخم من الاستثمارات، سيصر على أن يدخل ابنه مجال الهندسة أو التجارة ليستكمل استثمار أبيه، وكذلك الطبيب والمهندس ورجل الأعمال، وفي الوقت نفسه يرى الآباء أنهم يوفرون مستقبلاً سهلاً للأبناء لن يبدأوه من الصفر».
وتكشف أستاذة الطب النفسي أضرار ضغوط الآباء وحجرهم على اختيارات الأبناء، في بعض الأعراض والأمراض التي تصيب الأبناء، مثل الاكتئاب بدرجاته، أو الاختفاء غير المبرر كنوع من التمرد، أو الصرف المبالغ فيه كنوع من أنواع عقاب الأهل، أو الإدمان، حيث يلجأ الشاب إلى المخدرات بعد فقدان هدفه في الحياة.