أطفال بنغازي ماذا حل بهم؟ خيبة أمل تلاحقهم من جديد!

أطفال,بنغازي,خيبة,أمل,قضية,مستشفى,مذكرات,شكري,غانم,فيروس,الإيدز,الجريمة,البشعة,الضحايا,الرأي العام,الليبي,الدولي,المآسي,حقوق,الإنسان,زواج باطل,أزمة مالية,المحكمة,المنظمات,مبروكة المنصوري,هناء,جميلة المغربي,إبراهيم عريبي,الدكتورة ليلى العقيل

مريم علي صالح - (ليبيا) 04 فبراير 2017

عادت قضية أطفال مستشفى بنغازي الى واجهة الأحداث بعدما نشر أخيراً موقع «ميديابارت»، مذكرات لشكري غانم رئيس الحكومة في عهد معمر القذافي بين عامي 2003 و2006، تكشف أسراراً جديدة في قضية نقل فيروس «الإيدز» إلى الأطفال.
الجريمة البشعة كما سمّاها الضحايا وعدد من متتبعي القضية، التي شغلت الرأي العام الليبي والدولي وراح ضحيتها 426 طفلاً، اعتُبرت من المآسي التي مست بحقوق الإنسان... هذه القضية لم يُطوَ ملفها، لأن الحقيقة لم تظهر بعد، في ظل تضارب الآراء وغياب أدلة قد تكشف حقائق جديدة. اليوم وبعد مرور أكثر من 18 عاماً، عادت التساؤلات من جديد: ماذا حلّ بهؤلاء الأطفال؟ كيف أصبحوا، هل ما زالوا على قيد الحياة؟ كيف يعيشون؟ هل تزوجوا وأنجبوا؟

في هذا التحقيق ترصد «لها» آراء عدد من ضحايا تلك الجريمة.


عام  1998 تعرض أطفال مستشفى بنغازي، والبالغ عددهم 426 طفلاً، للحقن المتعمد بفيروس الإيدز، من طريق الدم الملوث والمستورد من بنك الدم الفرنسي، على أيدي أطباء أجانب.
في 6 أيار/مايو 2004، أصدرت المحكمة حكماً بالإعدام بجريمة الحقن المتعمد للأطفال على الممرضات البلغاريات الست، والطبيب الفلسطيني، لكن في 25 كانون الأول/ديسمبر 2005 ونتيجة للضغوط التي مارسها عدد من رؤساء الدول الأوروبية على القذافي، ألغت المحكمة العليا حكم الإعدام في حق هؤلاء وأحالت قضيتهم على محكمة الجنايات لإعادة النظر فيها.

المُتاجرة بالضحايا
جميلة المغربي واحدة من الأطفال الذين دخلوا المستشفى، وبدلاً من تلقيها العلاج من مرض قد يحتاج الشفاء منه الى أيام قليلة، أُصيبت بداء سكن جسدها مدى الحياة.
دخلت جميلة المستشفى بسبب إصابتها بالتهاب في الأذن الوسطى، ولم تكن يومها تتجاوز الثانية عشرة من عمرها، ولم يتوصل الأطباء الى تشخيص حالاتها إلا بعد مضي 9 أشهر على دخولها المستشفى... هذه المدة قادتها إلى طريق مسدود بعدما نُقل اليها دم ملوث من طريق الحقن.
تصف جميلة تلقيها خبر مرضها للمرة الأولى بالقول: «انهمرت دموعي بغزارة، وبعد مدة قصيرة من دخولي المستشفى حاولت التأقلم مع حالتي ونسيت مرضي، لكن بعد خروجي لم أسلم من نظرات التلاميذ والمعلمين الفضولية، حتى صديقاتي المقرّبات قرّرن الابتعاد عني، على عكس أهلي وأقربائي الذين ازدادوا قرباً مني وكانوا خير عون لي».

وتضيف: «لم أستطع إكمال تعليمي، من كثرة تنقلي بين المدارس على أمل ألا يعلم أحد بإصابتي. قررت أن أدرس وفي داخلي خوف كبير، حتى أنني تغيبت عن المدرسة مراراً. وعندما حان دخولي الى الجامعة، فوجئت بطلب الإدارة إحضار شهادة صحية، وحتى الآن أنتظر النتائج التي أعلم جيداً أنها سلبية».
وإذ تعرب جميلة عن حزنها الشديد تجاه القوانين الليبية التي تحظّر زواج الشخص المريض بآخر سليم، إضافة إلى منعه من العمل في المؤسسات الحكومية والخاصة أيضاً، توجّه نداء الى الحقوقيين الشرفاء للعمل على تعديل هذه القوانين البائدة، وتناشدهم الوقوف بجانب ضحايا جريمة «الإيدز» البشعة، والابتعاد عن المُتاجرة بهم، والتزام الجميع شروط التسوية، التي من أهمها معالجة المرضى مدى الحياة.

«المعلمات يضايقنني»
 مبروكة المنصوري هي أصغر طفلة نُقل اليها الدم الملوث في مستشفى بنغازي، إذ كان عمرها وقتذاك سنتين ونصف السنة.
تصف مبروكة رد فعلها بعد دخولها المستشفى بـ«أن قدّر الله وما شاء فعل»، فلم تكن تدرك وقتها حقيقة مرضها إلا بعد بلوغها سن السابعة، كما لم تكن تعي حجم المرض، حتى أنها كانت تشكك دائماً بأن هناك سراً خطيراً يخفيه عليها والداها اللذان كانا يعاملانها بطريقة مختلفة عن أشقائها.
وعن دخولها المدرسة تقول: «تعرضت لمضايقات كثيرة في المدرسة، حاولت تجاهلها بالتغيب عن المدرسة، وأصبحت استغل معظم أوقاتي في التنقل بين مسرح المدرسة ومكاتب الإدارة، حتى أن أهالي التلاميذ كانوا يجبرون أبناءهم على الابتعاد عني، وذات يوم سمعت حديثاً دار بين المعلمة وسائق الباص الذي يقلّني، تخبره بضرورة الحصول على تأمين صحي خوفاً من انتقال العدوى اليه، مما كان يُنفّرني من المدرسة ومعلماتها».
وتضيف مبروكة: «نحن نعيش في مجتمع ينبذ المتعايشين مع المرض بسبب حالة الوصم والتمييز التي لا تزال موجودة  حتى اليوم، خصوصاً لدى المؤسسات التعليمية والصحية، حتى أن صديقتي توفيت لعدم وجود مستشفى حكومي يُسعفها، أتمنى أن نضع حداً لتلك الظواهر لأن جميعنا بشر عند الله».

زواج باطل
أما هناء فكانت الأكبر سناً بين أطفال بنغازي الذين حُقنوا بفيروس «الإيدز»... لم تفكر ابنة الثانية عشرة يوماً بأن دخولها إلى المستشفى حينذاك بدافع العلاج سيصيبها بمرض آخر سيغير حياتها إلى الأبد.
عندما كانت في المرحلة الثانوية، طُردت هناء حوالى ثمانية عشرة مرّة من المدرسة، بسبب مرضها، مما اضطرها الى استكمال دراستها في الخارج.
ورغم مرور أكثر من 15 عاماً، لا تزال الحياة على حالها ولم تتغير، فخوف هناء تمثل بخوف من حولها من انتقال العدوى اليهم، خاصة عندما يتحول المرض إلى وصمة عار.
لم تتوقف معاناة هناء عند هذا الحد، إذ يمنع القانون الليبي زواج المتعايشات بغير المتعايشين،ويعتبره باطلاً، وإن كان برضا الطرفين، ما دفعها الى ترك البلاد لترتبط برجل جزائري الجنسية، وهنا ازدادت المعاناة أضعافاً مضاعفة، فزواجها أصبح غير معترف به، بعدما رفضت السلطات الليبية تثبيته ودخول أبنائها الى ليبيا، على خلفية نقل العدوى إلى الزوج، مستندين في قراراتهم الى أنه إذا نقلت العدوى إلى الزوج، يحق للحكومة الجزائرية مقاضاة الدولة الليبية لأن ذلك يعتبر جريمة.
وتطالب هناء بـ «العمل على تغيير القوانين الليبية الظالمة التي لم يستطع أحد تصحيحها، مثل قانون منع حضانة الأم المصابة، وعدم زواج المريض بالسليم، إضافة إلى منع المصاب من العمل في المؤسسات الحكومية، وبذلك يصبح المريض مخيّراً بين الرضا بالأمر الواقع أو الموت».

أزمة مالية
تحدث رئيس لجنة متابعة أوضاع المصابين  إبراهيم عريبي، عن مشاكل اللجنة وما تعانيه من عدم صرف الميزانية السنوية لها، ما أدى إلى تباطؤ في تحويل المبالغ إلى الدول التي تعالج الضحايا، والمتفق عليها مع الدولة الليبية كتونس وإيطاليا، وأوضح أن اللجنة كلفت لجاناً علمية وطبية مكونة من 10 أطباء من جميع التخصصات، مهمتها تحويل التقارير الطبية إلى رئيس اللجنة ليتمكنوا من القيام بإجراءات سفر المريض لتلقي العلاج خارج ليبيا.
وأشار عريبي إلى أن «المرضى يحتاجون إلى برنامج إيفاد جماعي لعام أو عامين على الأقل إلى إيطاليا وفرنسا، حتى يتلقوا علاجاً فعالاً إلى أن يتم بناء مستشفى حكومي في ليبيا مجهز بأحدث التقنيات والأطقم الطبية المتخصصة بعلاج المصابين»... وأضاف «أن لجنة متابعة أوضاع المصابين تعمل جاهدة وبما يمليه عليها ضميرها، وابني هو أحد الأطفال الذين حُقنوا بالدم الملوث في تلك الفترة، فما يسري عليه يسري أيضاً على المصابين أمثاله».
وأكد أنهم ومنذ عام 2007 عقدوا حوالى 53 جلسة في المحاكم، وصدرت أحكام بتعويض الضحايا، «رغم أن الأطفال لا يعوضهم مال الدنيا، ومع ذلك نعمل جاهدين للدفاع عن حقوقهم كباقي البشر». ولفت الى ان الميزانية التي خصصها المؤتمر الوطني العام مع بداية عام 2014، والتي عولج بها عدد من المرضى بين تونس وإيطاليا، توقفت بين عامي 2015 و2016، بسبب الأزمة المالية التي تعانيها البلاد.

 لا مانع
من جهتها، قالت الدكتورة ليلى العقيل، رئيسة قسم البرامج والتخطيط (الإيدز) وعضو مقرر للجنة الوطنية للحد من الوصم والتمييز، إن «تشكيل اللجنة الوطنية للمرافق الصحية والتي تقررت بعد اجتماع مع منظمة الصحة العالمية، سببه شكاوى عدة تقدم بها عدد من المتعايشين على خلفية معاناتهم من ظاهرة الوصم والتمييز في المؤسسات التعليمية والصحية والعملية، إضافة إلى ازدياد حالات الإصابة بفيروس الإيدز في ليبيا».
وأوضحت أن نتائج الدراسة التي قام بها المركز الوطني لمكافحة الأمراض، والتي شملت مقدمي الخدمة الصحية، أظهرت دلائل على أن أكثر الأشخاص الذين يمارسون ظاهرة الوصم والتمييز في أعمالهم، هم الممرضون والأطباء، مؤكدةً في الوقت نفسه أن كل القوانين والتشريعات في ليبيا لا تتضمن مادة أو نصاً قانونياً يمنع المتعايش من الدراسة أو العمل في أي قطاع حكومي، فمعظم فئات المتعايشين هم من الشباب، فكيف يتم منعهم وإعطاؤهم رواتب ضمانية وهم ليسوا عاجزين، بل قادرون على العمل ولا بد من تأهيلهم في المجتمع ولا يجوز نبذهم. أما بالنسبة الى قانون الزواج فهو حق طبيعي وشرعي للجميع، ولا يمنع زواج المتعايش بالسليم، بل هناك إجراءات للحماية، ولا بد من أن يقوم بها الزوجان تحت رعاية طبية وبإشراف برنامج علاجي ودعم نفسي واجتماعي.

مذكرات غانم 2016
كشفت أخيراً مذكرات شكري غانم، رئيس الحكومة في عهد القذافي بين 2003 و2006، والتي نقلها موقع «ميديابارت» الفرنسي، وأعادت نشرها وكالة «فرانس برس»، أنه استقبل عام 2007 محمد الخضار، العضو في لجنة التحقيق التي شُكّلت في ليبيا للإفراج عن الممرضات.
ونقل الخضار أن رئيس الاستخبارات العسكرية عبدالله السنوسي أفاد خلال مثوله أمام لجنة التحقيق بأنه حصل يومها مع موسى كوسا رئيس الاستخبارات الليبية على 31 زجاجة صغيرة تحوي الفيروس وحقنا به الأطفال 232 طفلاً في بنغازي.
ويقيم موسى كوسا حالياً في المنفى، فيما ينتظر عبدالله السنوسي محاكمته في ليبيا بعدما سلّمته موريتانيا في أيلول/سبتمبر 2012 إثر لجوئه إليها بعد إطاحة نظام القذافي.
وأعلنت الممرضات البلغاريات اللواتي أمضين ثماني سنوات في السجون الليبية بعد اتهامهن بحقن فيروس الإيدز في مستشفى للأطفال، ترحيبهن بما ورد في مذكرات غانم حول اتهام مسؤولين سابقين في نظام القذافي.
ونُقل عن الممرضة فاليا شيرفينياشكا قولها: «شعرت بالحرية بعد هذه الأخبار. لقد ظهرت الحقيقة بعد نحو عشر سنوات من الإفراج عنا»، وشددت ممرضات أخريات على أنهن سيطالبن بتعويض، فيما علّقت الممرضة فالنتينا سيروبولو بالقول: «هذا أمر يصعب تصوره، إنه مثل فيلم رعب، وهل عرفتم اليوم الوحوش الذين كنا تحت إمرتهم طوال ثماني سنوات ونصف سنة؟»... أما الممرضة كريستيانا فالشيفا فأكدت: «لقد ثبُت بالفعل أن المسؤولين الليبيين مذنبون، لدى الدولة الليبية أصول في الخارج ويجب التعويض علينا». 

ردود فعل دولية على قرار المحكمة
أصدرت مفوضيّة الاتحاد الأوروبي بياناً رسمياً تطالب فيه ليبيا بإلغاء الأحكام الصادرة وإطلاق المحكوم عليهم، كما أصدر مجلس البرلمان الأوروبي بياناً مماثلاً مباشرة بعد انضمام بلغاريا كعضو كامل العضويّة الى الاتحاد.
عبّرت مجموعة من المنظمات، على رأسها منظمة العفو الدولية، عن استيائها وقلقها من استمرار محاكمة المتهمين، وعدم وجود إثباتات مادية لإدانتهم، وأكدت أن الاعترافات انتُزعت منهم من طريق التعذيب.
انتقدت بلغاريا وعواصم غربية متعددة بشدة هذه الأحكام، وهددت بعرقلة مسيرة تطبيع العلاقات بين ليبيا والاتحاد الأوروبي إذا لم يُخلِ نظام القذافي سبيل المحكوم عليهم.
انتقد عدد كبير من المتخصصين في المجال الصحي، على رأسهم العلماء الذين حصلوا على جوائز نوبل للسلام، ممارسات السلطات الليبية، وانتشار التسيب وعدم وجود الإمكانات المادية والبشرية للتعامل مع الأمراض الخطرة المستعصية، ومن بينها مرض الإيدز.
نتيجة لمفاوضات متعدّدة أجراها ابن القذافي، حول إنشاء صندوق دولي للتبرع للأطفال، عالجت دول أوروبيّة العديد من الأطفال في مستشفياتها، إلاّ أن تصريحات المسؤولين الأوروبيين تضاربت حول أموال هذا الصندوق الدولي، ومن ضمن التصريحات كانت تصريحات المفوض الأوروبي البريطاني لشؤون بلغاريا بأن الاتحاد الأوروبي سيدفع 120 مليون يورو، للمساعدة وتمويل مصاريف علاج الأطفال المصابين على أن يتم دفعها عقب إطلاق السلطات الليبية الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني. وفي آخر تصريحات القذافي عن القضية، اعترض على ضآلة المبلغ المخصّص، بل أكّد عدم دفع أيّ أموال بشكل فعلي.
أكد الناطق الرسمي باسم الشؤون الدولية في المفوضية الأوروبية تصريحات السيد أوردين أن أموال الصندوق جُمعت بغرض علاج المصابين، وليست ضمن عملية مقايضة سياسية الهدف منها إخلاء سبيل الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، وأن الأموال جمعت في الصندوق الدولي لتمويل علاج ضحايا الإيدز في ليبيا، وتحت إشراف المفوضية الأوروبية، وأن المفوضية وحدها هي المخولة تحديد آلية صرف هذه الأموال.

شجبت منظمة العفو الدولية وغيرها من منظّمات حقوق الإنسان الحكم بالإعدام.
أفادت مصادر طبية بأن 48 طفلاً توفوا حتى الآن، أما الباقون فلا يزال مصيرهم مجهولاً {