الكاتبة الروائية الجزائرية فضيلة الفاروق: منذ البداية كنت عاشقة... وكل حرف أكتبه ينبض بالحب

فضيلة الفاروق,مقابلة,الحب,العشق,شعر,رواية,روائية,الجزائر

إسماعيل فقيه (بيروت) 06 أغسطس 2017

في نص الكاتبة فضيلة الفاروق، الروائي والشعري، حكاية مع الإنسان والزمن . ولكل حكاية دربها الطويل الذي يقود الى أماكن ومتاهات في آن معاً . كأنها اختارت الدرب الوعر للوصول، بدل أن تسلك المدار الهادئ الذي يضيف الى الهدوء هدوءاً . فرواياتها محصّنة بقوة الفعل والقول، وأشعارها دائماً خارجة الى المخيلة الواسعة التي لا تكتفي بمظلة أو مروحة واحدة . تريد أن تقول وتكتب وتبني وترسم وتمشي وتحلّق بالكتابة، فإلى أين وصلت كلماتها وحروفها؟ وماذا ستقول بعدما أصدرت كتابها الحديث «منهكة بحبّك يا ابن دمي» ؟ في حوارنا معها كل الأجوبة...


- نبدأ من الحب، الحب في كتابك الحديث «منهكة بحبك...». لماذا وكيف وإلى متى ستظلّين منهكة؟
كنت عاشقة منذ البداية وكل حرف أكتبه ينبض بالحب، وأنتَ تعرف أن مجتمعنا يرتعب من الحب، يبارك كل صيغ الانتهاك الجسدي والعاطفي، ويبلغ ذلك الانتهاك اللغة الطافحة بالمشاعر، لهذا أُلصقت بي تُهم كثيرة لم تلمس نصي أبداً، لكنّها أبعدت قارئي عن الحقيقة، وحوّلت جمهوراً يتخبّط في الجهل إلى عدو يكنّ لي أقسى مشاعر الكراهية وهو لا يعرفني. كنت شابة وعنيدة ومتمردة، وقلت في قرارة نفسي فليكن لهم ما يريدون. نزفت في نصوصي حتى بلغت مرحلة الاحتضار، ثم توقفت.
على مدى سنوات عدة اكتفيت بكتابة نصوص تشبه الشعر، نصوص تشبهني وتصف قصّتي مع الجزائر، نصوص تبعد التعب عني، لا صراع فيها ولا عراك ولا حرب، نصوص هادئة تشبه ما بعد سنّ الأربعين حين ينتبه المرء إلى أنه عاش نصف عمره وهو يقاتل. لم تعد تهمّني تلك الحرب، حرب المشهد الثقافي العربي، الجوائز والألقاب والمؤتمرات والأسماء نفسها التي تحتكر مسار تلك الحركة. كتبت قصائد حب للجزائر التي أحب، وسلّمتها الى شاعر جزائري كان يملك دار نشر، هو لزهاري لبتر، وطلبت منه أن ينشرها من دون إثارة ضجة، ثم بحثت عن أقرب شخص يفهم نصي وأعطيته النصوص ليصمّم لي غلافاً، فجاء الغلاف تحفة كما أحب تماماً، من تصميم الجزائري حكيم ولد خالد، وصدر الكتاب بكثير من الحب بعد طول انتظار وصبر وترقب. هذا كل شيء... أما بالنسبة إلى متى سأظلّ منهكة؟ فأؤكد لكَ إلى أن أستقر في الجزائر، وتهدأ العواصف التي ضربت قلبي وحياتي...

- هل هي تجربتكِ الأولى في كتابة قصيدة الحب؟
منذ نعومة أظفاري كتبت الكثير عن الحب، الشغف والعشق وكل درجات الهيام بدءاً بالحبيب إلى ملكوت الله الواسع، لكن القارئ العربي صعب إذ إنه يحارب الحب، والذي وإن كان عاملاً خارجياً في عملية إنتاج النص، إلا أنه شئنا أم أبينا يتحكم في توجهات الكتابة، لهذا بقيت نصوصي العاشقة حبيسة أدراج مكتبي، وأذكر أنك كنت من أوائل الذين حاوروني منذ عشرين سنة حين أصدرت مجموعتي الأولى «لحظة لاختلاس الحب»، وقد  أخبرتك يومها أن أكثر شيء نسرقه في الحياة هو الحب، لأنه لا يزال ممنوعاً... «منهكة بحبك يا ابن دمي» هو إصداري الشعري الأول، لكنه قصة حب جزائرية قديمة لا تحضن ولا تخلي السبيل، ولا تنتهي.

- نعرفك كاتبة روائية. هل استنفدت الرواية أفكارك؟
الرواية؟ بالتأكيد لا. إنه تعب من المجتمع والحروب، والظروف السيئة التي نعيشها. الرواية تحتاج الى بناء، الى تفكير، وقت، عزلة، شروط كثيرة لتهيئة أجواء الكتابة. الشعر يأتي فجأة وأنت في الشارع، في المقهى، في الفراش على وشك النوم، في الصخب وفي الهدوء. الشعر يتملّك صاحبه، أما الرواية فصُنعة، تبدأ بالموهبة وتُمارس في ما بعد كعمل يحتاج الى دقة وتركيز.

- لماذا الكتابة في حياتك اليوم. هل ما زالت كما كانت أم تغيرت؟
لا أحد يبقى كما هو، فالجاهل إن أُدخل الى مدرسة واهتم به أساتذة فربما يتحول إلى عالم، وأنا كذلك، كنت ابنة قرية صغيرة في جبال الأوراس، حملتني الحياة إلى قسنطينة أولاً، ثم إلى العاصمة الجزائر، ومن ثم إلى بيروت، ومنها إلى عواصم عدة. جرّني الأدب إلى دروبه الجميلة فتغيرت حياتي بالكامل، وتبدّلت أفكاري، واتسعت مجالات الرؤية عندي. بسبب الأدب عرفت القاهرة، دمشق، الإمارات، عمّان، لندن، أوكسفورد،  كامبريدج، نيويورك، وأماكن لم تخطر في بالي يوماً... بلغت أقاصي العالم بسبب الأدب، واقتفيت أثر الحكايات التي قرأتها واكتشفت منابعها الجميلة. إنه القدر، وإلا لماذا وقعت في حب الكتابة وراهنت عليها رغم الظروف الصعبة التي عشتها في بداياتي بسببها؟ الكتابة قدري ولا شيء غيره.

- متى تكتبين وما الذي يحرّضك على الكتابة؟
أكتب في كل الأوقات المناسبة، في الماضي كنت أحب الكتابة عند الفجر بحيث يسود الهدوء والسكينة، ورؤية السماء من نافذتي تفتح شهيتي على الكتابة، لكن عاكستني الحياة في ما بعد، فالأمومة وصعوبة الاستيقاظ  المتكرر ليلاً، أدخلاني في نوبات أرق، ثم مررت بمشاكل زوجية جعلتني أُصاب باكتئاب حاد، فأصبحت ألجأ الى الكتابة في أي وقت. لا يهم الوقت، بل المهم حين تحضر الفكرة ويحضر الكلام. أما ما يحرضني على الكتابة فلا أعرفه. أصبحت الكتابة نوعاً من الإدمان، أحياناً أكتب رسائل لأصدقائي المقرّبين مني فأشعر بالامتنان والمتعة، وأحياناً أخرى أكتب مقالاتي أو نصوصاً صغيرة بوحية. لا أتوقف عن الكتابة حتى وإن لم أصدر جديداً.

- هل تكفي الكتابة للتعبير عما يجيش في حياتك وأيامك؟
السر الجميل في الكتابة أنها تبقينا دوماً على عتبة عدم الارتواء، فنقول الأشياء التي تدور في خلدنا، وحين ننشر الكتاب تهاجمنا أشياء جديدة، لغتنا تتطور، رؤيتنا للأمور تنضج، فنحتاج الى إضافات، ونكتب مجدداً. يستحيل على الكاتب أن يتوقف أو يكتفي، ويستحيل عليه الشعور بأن اللغة تعبّر عما يختلج في صدره. أحياناً نصغي الى الموسيقى، ونبحث في فنون أخرى عما عجزت اللغة عن التعبير عنه، ولكن هذا أيضاً لا يكفي.

- ماذا يعني لك الرجل؟ وهل يمكن أن تكون فضيلة شاعرة الرجل على غرار شاعر المرأة؟
أضحكتني... أنا أكتب لرجل واحد أحبّه، وله الفضل في جعلي أقل شراسةً وأكثر لطفاً. رجل من طينتي، لا تخيفه حريتي مهما اتسعت مساحة تحركاتي، أذهب بعيداً وهو يسكن قلبي، يشكّل سعادتي وأفكاري ونبضي. الرجل هو الكائن الذي بُرمجتُ سلفاً لأحبه وأعيش معه. تخيل، مع كل هذه الحروب والتعاسات التي يتسبب بها الرجل بقلّة حكمته وكثرة أطماعه، لا تزال المرأة تحبه وتتزوجه وتنجب منه... أي قدرة خرافية تلك التي تسكن المرأة لتسامح الرجل على حماقاته وتعاود الوقوع في حبّه؟ إنه السر الذي نكتشفه بعد حتى نفهمه.

- هل من مشاريع كتابية جديدة؟
لا أحب التحدّث عن مشاريعي حتى أنهيها.

 - ماذا يعني لك الوطن خصوصاً أنك مقيمة في لبنان وبعيدة عن وطنك الأم الجزائر؟
في الماضي قالت لي سيدة عجوز «بلادي وين أولادي»... وقد بقيت لفترة زمنية طويلة أشعر بالغربة والندم لأنني تركت الجزائر، إلى أن كبُر ابني وجمع أمام عيني هويتين، وأنا في خضم انشغالي ببناء حياتي في لبنان نبتت لي جذور. اليوم أشعر بانتمائي إلى البلدة التي أعيش فيها، أحب هواءها وترابها وناسها وأتفاعل معهم في الأفراح والأحزان. أما الجزائر فهي امتداد تاريخي لا نهاية له، أيضاً تربطني عاطفة قوية بآريس بلدتي الصغيرة أكثر من أي مكان آخر في الجزائر. ولي علاقة طيبة مع سفارتي، وسعيدة لأن ابني يفتخر بنصفه الجزائري، فهو يعشق كرة القدم ويشجّع الفريق الوطني الجزائري، ويهوى لهجتنا، سواء العربية أو الشاوية الأمازيغية، ويحب طبيعة الجزائر الخلابة...
اليوم، ثمة نضج في تعاملي مع بلدين وهويتين، وفي امتصاصي للثقافات الجميلة التي احتككت بها هنا وهناك. أعتقد أنني محظوظة جداً لأن الله رسم لي هذه الأقدار كلها.

- ماذا حققت الكاتبة فضيلة بالكتابة وما الذي تريد أن تحققه؟
أعتقد أنني أجبتك خلال الحوار، فمكاسب الأدب كثيرة رغم الخسارات التي نتكبّدها حين نختار طريق الأدب. لقد منحي الأدب عالماً جميلاً لطالما حلمت به. وضعني في مكانة مرموقة ومحترمة بين النّاس، فطرت على أجنحته وتعرفت على بلدان وثقافات كثيرة، كما أن الآتي سيكون أجمل بكثير، لأنني اليوم بلغت موسم قطاف ثمار الأدب... إنها مرحلة هادئة، وجميلة، فقط سأحرص على الإبقاء على هذه المتانة إلى أن أموت.