اعترافات خاصة جداً: في بيتنا مدمنة!

فادية عبود (القاهرة) 19 أغسطس 2017


«في بيتنا مدمنة»، كارثة تعانيها ملايين الأسر المصرية، إذ أعلنت وزيرة التضامن الدكتورة غادة والي، أن نسبة إدمان الفتيات وصلت إلى 27 في المئة من متعاطِي المخدرات، الذين بلغت نسبتهم عشرة في المئة من عدد السكان، أي تقريباً تسعة ملايين مدمن، منهم نحو ثلاثة ملايين امرأة وفتاة تتراوح أعمارهن بين 15 و60 سنة.

وإذا كانت الأسرة تواجه بسبب إدمان ابنها وصمة العار الاجتماعية، فماذا عن إدمان الفتيات؟ وما هو العلاج؟ وهل يُسمح للعائدات منه بالاندماج في المجتمع مرة أخرى؟ «لها» تحقق.


تمرد

دعاء التي يبلغ عمرها 22 سنة، والتي فشلت في استكمال تعليمها الجامعي بسبب تعاطيها كل أنواع المخدرات، تروي لنا قصتها بحرقة وغصة قائلة: «بدأت طريق الإدمان منذ ثماني سنوات، لم أتوقف يوماً، والبداية كانت بزواجي عرفياً من شاب أحببته في المرحلة الثانوية، وهو كان مدمن مخدرات، ما جرّني إلى أن أصبح مثله على مدار عامين، وكان يرسلني إلى التجار المسلحين في الصحراء، وينتظرني في سيارته، على رغم خوفي منهم، حيث تعرضت في نهاية الأمر لإطلاق نار حين دارت معركة بينهم، فأخبرت زوجي أنني لن أكرر الأمر وأطلعته على رغبتي في الانفصال عنه، بخاصة بعدما علمت أن أمه اكتشفت زواجنا العرفي وقطعت العقدين، فضلاً عن أن ارتباطه بي لم يكن عن حب بل لمجرد أنه راهنهم على ذلك».

وعلى رغم الإدمان والعلاقة العاطفية الخاسرة والمرهقة، وفق تأكيد دعاء، إلا أنها تفوقت في الثانوية العامة والتحقت بإحدى الكليات، فكانت المفاجأة التي ترويها: «لم أتخيل يوماً أن المخدرات تروج في الجامعة أيضاً، فعلى رغم أنني التحقت بكلية قمة، إلا أن جميع زملاء الدراسة الجدد كانوا يتفاخرون بتعاطيها والإدمان عليها، وبالطبع انجرفت معهم على حساب دراستي حيث أعدت السنة الأولى مرة، والسنة الثانية مرتين، بحيث أيقنت أنني أفتقد التركيز وعدم القدرة على الدراسة، ما جعلني أمعن في التعاطي من ذاتي».

تلفت دعاء إلى أن العار الاجتماعي الذي يلحق بالفتيات بسبب الإدمان لا يعود إلى التعاطي، بل إلى العلاقات غير المشروعة التي يتورطن فيها، سواء كانت من أجل التعاطي أو الحصول على مال لشراء المخدر، وتقول: «الكارثة الأكبر إذا حملت الفتاة، وهذا سيناريو متوقع كثيراً ورأيته مع العديد من صديقاتي، وحدث لي بالفعل أنني حملت ولم أعلم بحملي إلا بعد مرور أربعة أشهر، فلجأت إلى أختي وأجهضت طفلاً تمنيت الاحتفاظ به، لكنَّ أباه تنصل منه واختفى على الفور، فأشفقت على طفلي من مواجهة المجتمع وحكمت عليه بالإعدام، بعدها صارحت أختي بحقيقة إدماني، بخاصة أنني لم أعد أحتمل أن أرى حياتي تتدمر أمامي أكثر، وبالفعل عثرت على أفضل مكان علاجي في مصر، واستمررت في الإقلاع عن التعاطي لمدة ثمانية أشهر، لكن بقيت في داخلي رغبة خفية في العودة إلى الإدمان، على رغم تحذير المشرفة على علاجي، لكني أعدت الكرة مرة أخرى مدة تسعة أشهر بعد خروجي من المصحة، وأيضاً عندما سافرت إلى المصيف مع أصدقائي، فانهرت وتعاطيت في اليوم الثالث من مشاهدتي لهم يتعاطون».

تتابع: «أخبرت أختي مجدداً برغبتي في العلاج، خصوصاً حين اكتشافي أن أخي أيضاً مدمن، فعدت إلى المصحة العلاجية لكني لم أستطع تحملها، لأن دفعتي من المدمنات أصبحن متعافيات ويساعدن النزيلات الجدد، فقررت العودة إلى المخدرات على ألا أراهن على العلاج، لكن بعدها حدث أن أخي قرر الشفاء من الإدمان ومساعدتي، وها أنا متعافية منذ شهر واحد فقط، لكنني مصرة هذه المرة على استكمال التعافي وعدم التعاطي لبقية العمر، ولن أؤخذ بنظرة المجتمع، فالمهم عندي الآن هو استرداد صحتي واستكمال تعليمي».


والدي مدمن

هديل، 20 عاماً، من إحدى الدول العربية، بدأت تعاطي المخدرات في عمر 12 سنة، ووفق قولها أصبحت أكثر إقبالاً على المخدرات عندما اكتشفت أن أباها السياسي الكبير يتعاطى أيضاً، وتقول: «نقيم في مصر منذ فترة طويلة، نظراً إلى الأحداث السياسية المتوترة في أكثر من قطر عربي، علماً أن حالة أبي كرمز من رموز نظام سابق، منعتنا فترة طويلة من العودة إلى وطننا، حينها كنت طالبة في مدرسة دولية في مصر، ومعظم أصدقائي من دول عربية وخليجية، أكبر سناً مني ومن نهاية المرحلة الإعدادية وبداية الثانوية وهم يتعاطون المخدرات ويشربون الخمر، لذا حاولت مجاراتهم وقررت التجربة في إحدى الحفلات الساهرة، مدعية أمام أمي انني سأبيت عند صديقة، وهنا تعاطيت للمرة الأولى، وتلذّذت جداً بالمخدر والخمر، ومنذ ذلك الحين بدأت أشتري زجاجتين صغيرتين وأنا ذاهبة إلى المدرسة يومياً، حتى بدأ المدرسون يلاحظون الأمر، لكن ونظراً الى كونها مدرسة دولية لم يُعطى الأمر حجماً كبيراً».

تضيف هديل: «زادت جرأتي في تناول المخدرات عندما اكتشفت أن أبي يتعاطاها، ووجدتها في دولابه، فاعتبرتها أمراً مشروعاً طالما أن أبي يقبل عليها، فهل ينهي ابنته عن المنكر وينسى نفسه؟ ومرت السنوات وأنا أتعمق أكثر في الإدمان والعلاقات غير المشروعة مع أصدقائي الرجال، من دون أن يلاحظ أهلي شيئاً، حتى دخلت أولى جامعة، فتغيرت سلوكياتي تماماً، أصبحت أكثر عنفاً وأكثر نحافة، وبدأ أهلي يلاحظون أنني أطلب نقوداً كثيرة، فلجأت إلى السرقة، كنت أسرق من حزم نقود أبي الموجودة في دولابه، وذات مرة سرقت سلسلة ذهبية كبيرة من رقبة أمي وركضت إلى الشارع، فلم يعد تفكيري منحصراً إلا في شراء المخدرات فقط لا غير، حتى أننا عندما سافرنا فترة إلى بلادنا كنوع من أنواع عقاب أبي لي، لأني وفق رأيه متمردة على تقاليدنا البدوية وأطالب بالمساواة مع الرجل، لاحظت أن ابن خالتي مدمن مخدرات، فطلبت منه أن يشتري لي فرفض، وراودني عن نفسي مقابل ذلك فوافقت من دون تفكير، فكان جسدي هو المقابل لبعض الرجال حتى يجنبوني التعامل المباشر مع تجار المخدرات».

والد هديل شك مرات عديدة في كونها مدمنة، وتقول: «كان والدي يهددني بإجراء تحليل مخدرات بسبب تصرفاتي المجنونة معهم، وفي كل مرة تخبره أمي أنها ستجري لي التحليل بنفسها، وتخرج معي وتتوسل إليَّ أن أقلع عن التعاطي حتى لا «أهدّ» الأسرة على رأسها، وأتسبب في تشريد سبعة أبناء، فكنت أواجهها بأن أبي يتعاطى المخدرات، فكيف يسمح لنفسه ويمنعني، فكانت تبكي وتخبرني أنه لو علم سيطلقها، لأن مجتمعنا قبلي يتسم بالذكورية وازدواجية المعايير بين الرجل والمرأة».

وتضيف: «بناء على شك والدي كان يحبسني في المنزل لأسبوع، فكنت أتصل بأصدقائي فيحضرون لي المخدرات، ويعلقونها بحبل أرميه لهم من شباك غرفتي، وذات مرة سرقت حقيبة «ذهب أمي» وكانت تزن أكثر من كيلوغرام ونصف الكيلو، وأستأجرت شقة مفروشة وركنت سيارتي بعيداً عن السكن الجديد، لكن البواب أبلغ الشرطة عني بسبب العدد الهائل من الشباب والبنات الذين كانوا يترددون على الشقة كل ليلة، فتركتها على الفور وعشت بشقة أختي المطلقة والتي لم تكن تقيم فيها».

تشير هدير الى أن الإدمان فرّق بينها وبين حبيبها، الذي عندما سأل عنها في محل سكنها أخبره الجيران أنها مدمنة، وعلى الفور ألغى الفكرة، وقال لها إنها لا تصلح لأن تكون أمًّا لأولاده، ولمداواة جراحها عمدت إلى المزيد من المخدرات، والمزيد من الجنون ولم تقلع عنها حتى عندما ضربها أبوها ضرباً مبرحاً وأمرها بعدم مغادرة المنزل، فكسرت زجاجة في وجه أمها حتى تلهي الجميع وتهرب، ولم تبدأ العلاج إلا عنوة من أبيها، الذي فاجأها بمجموعة رجال ليأخذوها بالقوة إلى المصحة لتقضي فيها فترة انسحاب المخدر من الجسم، ثم المكان العلاجي بطريقة 12 خطوة لتستكمل فيه على الأقل ستة شهور لتخرج منه إنسانة صالحة.


حياة جديدة

بعد إدمان 18 سنة، قررت منة، 30 سنة، التعافي من المخدرات بعد موت زوجها أمام عينيها، وتحكي قصتها قائلة: «بدأت أدخن السجائر منذ بلوغي عشر سنوات، لكنني بدأت إدمان المخدرات والكحوليات منذ كان عمري 12 سنة، والهيروين في المرحلة الثانوية.

وبدايتي في تعاطي المخدرات كانت لأهرب من شعوري الداخلي برفض المجتمع لي والشعور بالوحدة، كوني ابنة وحيدة، وبالتالي ظهرت عليَّ أعراض الإدمان المتمثلة في السرقة، سواء سرقة والدي أو سرقة أقاربنا في الزيارات العائلية».

تتابع: «كنت في الثالث الثانوي عندما تعرفت إلى وليد وتزوجته في 2011، بعد عشر سنوات ارتباط، واجهت في هذه الزيجة عقبات أكبر للإدمان، منها فشلي في الحمل بعد سنوات من المحاولات، فقررت الإقلاع عن المخدرات، ودخلت مستشفى متخصصاً، وفي ذلك الوقت كنت أعالج لدى طبيب أمراض نسائية، ولم أصمد في الإقلاع أكثر من شهر، وشاء القدر أن أحمل بابنتي، فحاولت التوقف مرة أخرى وفشلت، فعانت رضيعتي أثناء وجودها في الحضانة من أعراض انسحاب المخدرات من جسمها، فقررت مجدداً التوقف عن التعاطي حتى أرضعها طبيعياً حفاظاً على صحتها، لكنني فشلت أيضاً، لم أكن أمًّا صالحة لها على الإطلاق، لم أكن أهتم إلا بتعاطي المخدرات مع زوجي، وأهملتها تماماً، حتى عندما كانت تطلب مني أن أعد لها طعاماً لم أكن أهتم، كنت أجعلها تساعدني في إحضار أدوات الإدمان والمواد المخدرة، بخاصة عندما أستيقظ من النوم».

وتضيف منة: «ذلك كله لم يجعلني أتوقف عن الإدمان، لكن منذ أربعة أشهر مات زوجي بجواري وأمام عينيَّ، بعدما تناولنا جرعة المخدرات ذاتها، جننت وشعرت بالذنب وقررت أن أتوقف حتى لا أترك ابنتي وحيدة في هذه الحياة، لأكتشف في الوقت ذاته أنني عرضة لبتر رجلي اليسرى بسبب خراج صديدي على الشريان التاجي، ناتج من حقن المواد المخدرة فيها، وكانت نسبة نجاح الجراحة 10 في المئة فقط، لكن الله كتب لي النجاة ليحفزني على الاستمرار في التعافي».

تؤكد منة، من خلال وجودها في إحدى مصحات التعافي من الإدمان، أن الرجال هم من يدفعون بزوجاتهم إلى طريق الإدمان، كنوع من التحفيز للإثارة الجنسية، فيكنّ الضحية.


الجانب النفسي

من الجانب النفسي، يؤكد الدكتور إيهاب الخراط، استشاري الطب النفسي وعلاج الإدمان ومدير مراكز الحرية لعلاج الإدمان، أن أعداد المدمنات في زيادة بسبب سهولة الحصول على المخدر، وتزايد كمية الهيرويين في الأسواق، فضلاً عن إدمان ربات البيوت على الترامادول اعتماداً على قدرته التنشيطية للجسم، من أجل مواصلة الأعباء المنزلية من دون تعب، وكذلك الواجبات الزوجية الشرعية.

ويتابع: «بعض النساء يهربن من العنف الواقع عليهن إلى تعاطي المخدرات، بخاصة في الطبقات غير المثقفة من المجتمع، خصوصاً حين يكون الزوج مدمن مخدرات ويجبر زوجته على العمل لتأمين المصاريف إضافة إلى العمل داخل المنزل أيضاً، وتقديم العلاقة الحميمة في نهاية الليل، هذا كله قد يجعل الزوجة عرضة لتناول المخدرات، لا سيما الترامادول، حتى تستطيع القيام بكل هذه المهمات المطلوبة منها من دون تقصير أو شكوى».

في المقابل، يلفت استشاري علاج الإدمان إلى زيادة معدل التعرض إلى فيروس نقص المناعة «الأيدز» بين النساء في الوطن العربي، وإلى أن الأدمان من أهم مسبباته، سواء إدمان الزوج أو الزوجة، فقد أشارت الإحصاءات الدولية الحديثة إلى أنه من بين كل عشر إصابات بالأيدز للنساء في مصر، تحدّد ثمانيَ داخل إطار الزواج الشرعي بسبب إدمان الزوج، بخاصة في ما يسمى زواجاً عابراً للأجيال، أي أن الزوج متقدم في العمر ولديه خبرات جنسية خارج الزواج.

يشير د. الخراط الى أنه على رغم إقبال بعض الأهالي على علاج الفتيات، إلا أن نسبة كبيرة تعتبر علاج الفتاة من الإدمان في مثابة وصمة عار، وفرصها بالزواج ضئيلة، على عكس الشاب الذي يعتبرونه رجل المستقبل والعمل وحامل اسم العائلة، لذا تكون فرصه في العلاج أوفر تقليدياً.


فشل أسري

تقول الدكتورة سامية خضر، أستاذة علم الاجتماع في جامعة عين شمس: «الأسرة هي المسؤول الأول عن إدمان الأبناء في شكل عام، خصوصاً الفتيات، والسبب هو التفكك الأسري وعدم وجود مساحات للحوار بين الآباء والأبناء، وانشغال الآباء بتكوين الثروات والعمل، من دون الالتفات إلى سلوكيات الأبناء، ما يدع مجالاً كبيراً لانحرافهم».

وتتابع: «الثقافة الاجتماعية التقليدية هي سبب وصمة العار التي تلحق بالفتاة المدمنة، على رغم أن الإدمان أصبح الآن آفة على كل المستويات الاجتماعية، لكن المرأة في المجتمع الشرقي هي رمز الشرف، وأي خطأ تقع فيه يصيبها وأسرتها كاملة، وبالتالي تكاد تنعدم فرص زواج الفتاة المدمنة أو المتعافية وأخواتها، في حين أن المجتمع يتقبل الرجل العائد من الإدمان، عملاً بالموروث الشعبي أن الرجل لا يعيبه سوى «جيبه» أي ماله.

لذا تنصح د. خضر الأمهات بضرورة تربية الفتيات على الصراحة والثقة المتبادلة، وأن تكون الأم هي الصديق الأول لابنتها، تجنباً لأي انحرافات اجتماعية، لأن أسلوب الترهيب في التربية، الذي نشأ عليه كثيرون، يؤدي إلى تمرد وكوارث اجتماعية أبرزها الإدمان.


تصوير: أحمد حمدي