أطفال بلا مدارس هؤلاء ضحايا التسرّب من التعليم

فادية عبود (القاهرة) 16 سبتمبر 2017

في الوقت الذي يؤكد تقرير حديث صادر من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، أن أكثر من 40 في المئة من أطفال دول النزاعات في العالم العربي، مثل اليمن وفلسطين وسوريا والعراق والسودان، يعانون تسرّباً من التعليم، فإن أعداد الأطفال المتسرّبين سنوياً من التعليم في مصر في تصاعد أيضاً، وفق تصريحات وزارة التربية والتعليم المصرية.

والنتيجة، أن هناك آلافاً من الأطفال الضحايا في عالمنا العربي، الذين لا يستقبلون غداً بأمل متطلع إلى مستقبل مشرق وباهر، بل ينغمسون في الأعمال اليومية الشاقة وسط حرمانهم من حق التعليم.


لم أكن أعلم أن الأطفال يدخلون المدراس
صابرين كرم، تبلغ من العمر 14 سنة، ولم ترتدي قط الزي المدرسي، وعلى رغم ذلك تحلم بأن تلتحق بالتعليم وتدرس الحقوق لتعمل محامية تدافع عن حقوق البسطاء.
لم تسمع صابرين عن المدرسة والتعليم إلا منذ وقت قصير، وتحكي قائلة: «نحن سبعة أشقاء، لم يلتحق بالمدرسة إلا أخي الكبير، وتسرب من التعليم عند التحاقه بالصف الثالث الابتدائي، لم أعلم تلك المعلومة إلا عندما سألت أبي وأمي منذ عامين لماذا لم ألتحق بالتعليم، فأخبراني أن ظروفنا المعيشية لم تكن تتلاءم مع التعليم، فأبي يعمل حارس عقار بالقاهرة، ونحن أسرة جاءت من صعيد مصر، وبالتالي لم نستقر أكثر من ستة أشهر في منطقة سكنية واحدة، بل علينا الترحال دائماً بسبب اختلاف أماكن عمل أبي، وبالتالي من الصعب إلحاقنا بمدرسة، فضلاً عن أن راتب أبي لا يكفي الإنفاق على أساسيات الحياة، وهي الطعام والملابس لأسرة تتكون من تسعة أفراد».
وتضيف: «لم أكن أعلم أن الأطفال يدخلون المدرسة أملاً بمهنة مستقرة ورغبة في تحصيل العلم، إلا منذ عامين، عندما أخذ أطفال الجيران يسألونني لماذا لا أذهب إلى المدرسة، لم أكن أعلم حينها ما هي المدرسة من الأساس، ولماذا ينبغي علينا الالتحاق بها، فكنت أعتقد أن القيام بالأعمال المنزلية للنساء والخروج إلى العمل بالنسبة إلى الرجال هما الحياة كلها، وعندما أخبرني الأطفال بالمهن التي يتطلعون إليها، أملت بأن أكون محامية أساعد المظلومين في الحصول على حقوقهم، وطلبت من أبي أن يلحقني بمدرسة لتحقيق حلمي، فألحقني بأحد فصول محو الأمية لعلّي أستطيع تحقيق هدفي في الحياة».

تمييز دراسي
أمل علي، تبلغ من العمر 13 سنة، لديها خمسة أشقاء، من إحدى القرى في محافظة البحيرة، وعلى رغم نزوح أسرتها إلى القاهرة، إلا أنهم ما زالوا يحتفظون بالتقاليد الريفية، وتقول: «أخي الأكبر هو الوحيد الذي تلقى تعليماً أزهرياً، وأصبح إمام مسجد، لكن تقاليد قريتنا لا تسمح بتعليم الفتيات، أتمنى أن أكون طبيبة مثل التي تعالجني كلما أصبت بالأنفلونزا وتخفف عني آلامي».
وتتابع: «كنت أبكي يومياً أمام أبي كي ألتحق بالمدرسة، فكان يخبرني دائماً بأن المدارس المجاورة لنا ليست آمنة على الفتيات، وأنهن يتعرضنّ لمعاكسات كثيرة، ومن الأفضل أن تظل الفتاة في بيت أبيها حتى تتزوج، وبعد عامين من البكاء رق قلب أبي أخيراً، لكن كانت المشكلة أن عمري أكبر من الالتحاق بمدرسة، فألحقني بأحد فصول محو الأمية المجاورة لمنزلنا، والآن أستطيع كتابة اسمي وقراءته بالإضافة إلى بعض الحروف والكلمات البسيطة، وسأستمر في التعلم حتى ألتحق بكلية الطب وأصبح طبيبة مشهورة».

خوف اجتماعي
رانيا زكي، تبلغ من العمر 20 سنة، وحيدة والديها، وكان هذا هو السبب لتسرّبها من التعليم، وتوضح قائلة: «أنا وحيدة، والخوف الاجتماعي من الاختلاط كان هو سبب تسربي من التعليم، فقد التحقت بالمدرسة عاماً واحداً فقط، ومع بعض المشاجرات التي حدثت بيني وبين زملائي، قرر والدي ألا أستكمل تعليمي خوفاً عليَّ».
وتضيف: «رزق بي والدي بعد محاولات إنجاب استمرت عشر سنوات، ولم يشأ القدر أن يكون لي إخوة، فكان خوفهما الشديد عليَّ هو سبب عدم استكمال تعليمي، على رغم حبي للمدرسة ولزملائي فيها. لكن بعد وفاة والدي منذ أشهر قليلة، استطعت إقناع والدتي بأن ألتحق بمحو الأمية، فكل أملي بأن أستطيع قراءة الجريدة أو أي من اللافتات الإرشادية التي أراها في الشارع، فحتى الهاتف لا أستطيع تسجيل أسماء أقاربنا عليه، وهذا يضعني في مواقف محرجة كثيرة.

مسؤولية مبكرة
أما محمود السيد، 14 سنة، فلم يكن خوف والديه هو سبب تسرّبه من التعليم، بل وفاة والده التي جعلته يتحمل مسؤولية المشاركة في تعليم إخوته الثلاثة الصغار، ويقول: «كان أبي يعمل «نقّاشاً»، ونحن أربعة إخوة، وأمي ربة منزل، وعندما توفّي أبي كنت في الصف الرابع الابتدائي، وهو كان مورد رزق الأسرة كلها، فاضطررت للعمل في بعض الورش وأمي عملت في الحياكة، وبعد فترة من الوقت قررت أن أعمل في حرفة تزيد من مكسبي، لأني لا أود أن يتسرّب إخوتي من التعليم كما حدث لي، وبالفعل أعمل الآن في ورشة نجارة، وهي مهنة مربحة، وأطمح إلى أن تكون لي ورشتي الخاصة يوماً ما.

مهنة بالوراثة
أما مصطفى أبو حجر، 15 سنة، فيؤكد أنه لم يكن يهوى الدراسة منذ صغره، فقرر وراثة مهنة أبيه كنحّاس، ويقول: «لم تكن ذاكرتي قوية بالقدر الكافي في المدرسة، كنت أنسى كثيراً الحروف والكلمات، وعندما وصلت إلى الصف الخامس الابتدائي رسبت في نهاية العام، وبسبب ضعف ذاكرتي كان المعلمون يضربونني كثيراً، وبعد الرسوب طلبت من أبي أن أعمل معه في ورشته حتى أتعلمها بعيداً عن تعنيف المدرسين».
ويضيف: «يسير أشقائي في رحلتهم التعليمية بكل يسر وسهولة، وأنا على قناعة بأن لكل إنسان قدراً في هذا الكون، لذا لم أندم على أن التعليم لم يكن قدري، قد يكون السبب هو تعنيف المدرسين المستمر، لكنني الآن لا أبالي، وسعيد في مهنتي التي أتعلمها على يد والدي من دون ضرب أو إهانة».

قضية إنسانية
يعتبر عبدالقوي حسين، مدرس 58 سنة، أن مواجهة التسرّب من التعليم قضيته الإنسانية التي لا بد أن يتصدى لها بكل ما أوتيَ من قوة، ويقول: «على رغم كوني مدرّساً، لكنني أرى أن مواجهة الجهل والتسرّب من التعليم معركتي في الحياة، ففي عام 1994 انضممت إلى خطة الدولة في محو الأمية، وافتتحت فصولاً في المنطقة التي أسكن فيها، «دار السلام»، وبالفعل توسّعت في النشاط وتطوّعت في الحملة القومية لمحو الأمية، وكنت عضواً نشطاً، وافتتحت 400 فصل لمحو الأمية في منطقة القاهرة القديمة، لكن مع مرور السنوات ومع الاختلاط بمن حرموا من التعليم، لاحظت تسرّب جيل من الأطفال من المدارس لأسباب عديدة، أهمها الفقر والمعتقدات الاجتماعية بعدم أهمية تعليم الفتيات مقارنة بالذكور».
ويتابع: «في عام 1999، قرّرت افتتاح مدرسة الفصل الواحد، لأضم عدداً من المتسربين من التعليم، وأطلقت عليها «مدرسة الرضا»، يعمل معي باحثون اجتماعيون، ونزور البيوت التي فيها أطفال متسربون من التعليم، لنقنع الأهالي بضرورة عودة أطفالهم إلى المدارس مرة أخرى، كما أطلقت حملة «إذا كنت تحبّ مصر لا تتسرب من التعليم»، حتى أحضّ الأطفال على الانتماء إلى الوطن، وربط التعليم بعلو شأن الوطن ومصلحته».
يرى عبدالقوي أن الفقر وعمالة الأطفال والتفكك الأسري من أهم أسباب تسرّب الأطفال من التعليم، فضلاً عن أسلوب التلقين والحفظ الموجود في المدارس المصرية، والذي لا يراعي الأطفال الذين يعانون من صعوبات التعلم، مشيراً إلى أن المناهج التعليمية ليست في حاجة إلى تطوير، بل أسلوب التعليم الذي يتبعه المدرس هو الذي في حاجة إلى تطوير، حيث يجب استخدام أساليب التعلم النشط داخل الفصول، والارتقاء بقدرات المدرسين والأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين، فضلاً عن ضرورة عودة النشاطات الترفيهية إلى المدارس من جديد، مثل حصص الموسيقى والرياضة.

مساواة في التسرب
أما الدكتورة أمل محسن، استشاري الطب النفسي، فترى أن الفقر يساوي في تسرب الأطفال من التعليم ولا يميز بين فتاة وذكر، لافتة إلى أن ما يجب أن تتداركه الأسرة والمدرسة، هو أن الطفل الذي يعاني صعوبات تعلمية يزداد عنفه تجاه الآخرين نتيجة شعوره بالدونية.
وتشير استشارية الطب النفسي إلى أن التسرّب من التعليم يتسبب في مشاكل نفسية عديدة للأطفال، مثل الشعور بالدونية والحقد على أقرانهم المنتظمين في العملية التعليمية والاكتئاب والخجل والانطواء.

كارثة اجتماعية
طبقاً لأحدث إحصائيات صادرة عن وزارة التربية والتعليم المصرية، وصلت أعداد الطلاب المتسربين في المرحلة الإعدادية إلى 951 ألفاً و540 طالباً، منها 77 ألفاً و412  طالبة و82 ألفاً و128  طالباً، وأوضحت الإحصائيات أن أعداد التسرب من المدارس في المرحلة الابتدائية لطلاب المديريات التعليمية الحكومية، وصلت إلى 54 ألفاً و214، منهم 27 ألفاً و88 طالباً و18  ألفاً و146  من البنات.
وبناء عليه، تؤكد الدكتورة زينب لاشين، أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأميركية، أن المفاهيم الاجتماعية والتمييز الجنسي تلعب دوراً كبيراً في تسرب الفتيات من التعليم في الريف والصعيد، حيث أن الثقافة السائدة في تلك الأماكن ترى أن المرأة مقرها المنزل، وما زال كثيرون يرون أن المرأة لا تخرج من منزل أبيها إلا إلى منزل زوجها ثم القبر، بخاصة في النجوع النائية والمتطرّفة، وبالتالي يصبح غير مقبول خروجها إلى المدرسة، أما الرجل فهو أساس الأسرة، ولا مانع من توفير كل الأموال لتعليمه تباهياً بالمناصب الوظيفية التي يرتقيها، حيث يرفع من شأن العائلة.
كما تشير أستاذة علم الاجتماع إلى ارتفاع نسب زيادة التسرب من التعليم أيضاً في الطبقات الفقيرة من المجتمع، وتقول: «الفقر المدقع هو أقوى أسباب تسرّب الأطفال من التعليم، وعمالتهم من أجل المساعدة في نفقات الحياة اليومية وتأمين لقمة العيش الكريمة لهم ولأسرهم».
وتلفت الدكتورة زينب إلى أن هناك العديد من الظواهر الاجتماعية التي تترتّب على تسرّب الأطفال من التعليم، أهمها شعور الطفل بالدونية والحقد الطبقي، فضلاً عن إهدار الطاقة والموارد البشرية، لذا لا بد أن تتكاتف كل مؤسسات الدولة، من الحكومة ووزارة التربية والتعليم والإعلام والمؤسسة الدينية، التي يجب أن تجدد خطابها الديني بعدم التمييز بين تربية الولد والبنت، حتى تتم توعية الأسر وحضّها على تعليم أطفالها.