أرقام مهولة تدقّ ناقوس الخطر: زواج القاصرات جريمة قتل مع سبق الإصرار

جمال سالم (القاهرة) 16 ديسمبر 2017

الأرقام تؤكد أننا أمام جريمة شنعاء، هي زواج القاصرات... جريمة يرتكبها الأهل في حق طفلات بريئات يدخلن قفصاً زوجياً لسن مؤهّلات له، ليصل بهن الحال أحياناً إلى الانتحار. «لها» تفتح هذا الملف الشائك... ملف زواج القاصرات، وتبحث في الأسباب وطرق المواجهة.
أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أنه حسب التعداد السكاني لمصر لعام 2017، فإن عدد المواطنين المتزوجين دون الـ 18 عاماً بلغ 18.3 مليون نسمة، وتمثل حالات زواج القاصرات 14 في المئة من إجمالي حالات الزواج في مصر سنوياً، ووصلت نسبة دعاوى الأمهات القاصرات في محاكم الأسرة، خلال عامي 2015 و2016، والباحثات عن حقوقهن بعد الزواج بعقود مزوّرة وغير قانونية، أكثر من 16 ألف دعوى إثبات زواج، وأكثر من 14 ألف دعوى إثبات نسب، وأكثر من 12 ألف دعوى نفقة، مما يؤكد أن قصص زواج القاصرات تغصّ بها أروقة المحاكم المصرية.
وكشفت إحصاءات أخرى لوزارة الداخلية، أنه يتم ضبط المزيد من قضايا زواج القاصرات بعقود وهمية، بما يصل إلى 15 قضية في الشهر، ويقارب المئتي قضية سنوياً، بخلاف ما يحدث في الخفاء ولا يُكشف عنه إلا بعد وقوع الكارثة.


طرق الأبواب
في البداية، تكشف الدكتورة رانيا يحيى، عضو المجلس القومي للمرأة، عن خطة المجلس في التصدي  للقضية قائلةً: «نحن نتلقى الشكاوى من المظلومات، ونعمل على تحريك دعاوى قضائية لإنقاذهن من خلال محامين يتعاونون مع المجلس، لأن قضية زواج القاصرات وللأسف الشديد هي وليدة ثقافة مجتمعية خاطئة، لم تعد تقتصر على القرى والنجوع والأرياف والمناطق الفقيرة كما يظن البعض، وإنما بدأت تنتشر في المدن أيضاً بسبب الظروف المعيشية الصعبة وغلاء الأسعار وارتفاع تكاليف الزواج وكثرة الإنجاب، مما يضطر رب الأسرة لتزويج ابنته في سنّ مبكرة لتخفيف الأعباء عن كاهله، وهذا يتطلب تنشيط التكافل الاجتماعي للتخفيف من معاناة هذا الأب، مما يوفر له بدائل غير تزويج ابنته القاصر».
وتوضح الدكتورة رانيا أن المجلس القومي للمرأة، بالتعاون مع المنظمات النسائية ومؤسسات المجتمع المدني، سيقوم بحملة كاملة متكاملة في كل المحافظات لنشر الوعي بمخاطر هذا الزواج، فضلاً عن التكثيف الإعلامي، والتعاون مع وزارتي التربية والتعليم والثقافة لوقف هذه المأساة التي تنجم عنها مشكلات مجتمعية كبيرة، وتترتب عليها معاناة نفسية لا تتوقف آثارها السلبية على الطفلة فحسب، بل تمتد إلى أولادها وزوجها.
وتؤكد الدكتورة رانيا أن المجلس يطلق اليوم حملة عنوانها «حملة طرق الأبواب»، لها تأثير إيجابي كبير، حيث يكون التواصل مباشراً مع الأسر في بيوتها، وحتى الآن تم التواصل مع ما يقارب المليون ونصف المليون سيدة بهدف توعيتهن بمخاطر زواج القاصرات، والمجلس على استعداد تام لمساعدة أسرهن.

الكارثة الحقيقية
تفاعلت المراكز النسائية المهتمة بقضايا المرأة مع القضية، حيث تؤكد الحقوقية نهاد أبو القمصان، رئيسة المركز المصري لحقوق المرأة، أن الغالبية العظمى من أولياء أمور القاصرات، استغلوا قاعدة «من أمن العقاب أساء التصرف» وكتبوا عقوداً عرفية مخالفة للقانون، استناداً إلى أنه لن يُبلّغ أحد عنهم ولن يطاولهم سيف القانون، ولهذا لا بد من الضوابط القانونية ومراقبة عمل بعض الأفراد في وزارتَي العدل والداخلية، وكذلك ممثلي المراكز النسائية ومنظمات المجتمع المدني عامةً لمحاصرة هذه الظاهرة وسَوق المخالفين الى العدالة.
وتشير أبو القمصان إلى أن المشكلة تتفاقم أكثر فأكثر وتدفع الثمن القاصر التي زوّجها ولي أمرها غير الأمين عليها، إذا حدث حمل وإنجاب، لأن القانون يمنع قيده، وتقع الكارثة الحقيقية إذا توفي الزوج بعد الإنجاب أو طلّقها وهي حامل، مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الفتيات القاصرات اللواتي حاولن الانتحار، لذا تدفع الطفلة البريئة ثمن جريمة لا ذنب لها فيها، حيث تم وأدها معنوياً ثم جسدياً بتحميلها ما يفوق طاقتها.

مفاهيم خاطئة
عن أسباب الظاهرة وكيفية معالجتها، يؤكد الدكتور إيهاب عيد، أستاذ الصحة النفسية في جامعة عين شمس، أن القانون وحده لا يشكّل حلاً، بل لا بد من التوعية المجتمعية بالظاهرة للحد من تفاقمها، وذلك من خلال تركيز المنصّات الإعلامية المسموعة والمرئية والمقروءة، وكذلك المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية، على الأضرار الجسدية والنفسية والاجتماعية الناتجة من زواج القاصرات. وفي الوقت نفسه، يجب العمل على نشر مفاهيم الأسرة والعلاقة الزوجية ومسؤوليات الزوجين، وشروط اختيار الزوج والتحذير من الأضرار الناتجة من الزواج بقاصر، مع ضرورة التركيز على المناطق الريفية وصعيد مصر، التي تنتشر فيها الظاهرة بصورة أكبر من المدن.
ويشير الدكتور إيهاب إلى أن لا بد من تصحيح بعض المفاهيم المساعِدة على انتشار الظاهرة، مثل «زواج البنت سترة» وكذلك «ظل راجل ولا ظل حيطة»؛ والخوف من العنوسة المبكرة، فتُعالج المشكلة بمشكلة أكبر منها بحيث تؤدي إلى فقدان القاصر حياتها نتيجة مخاطر الحمل والولادة، فضلاً عن المشكلات القانونية في إثبات زواجها وقيد مولودها وتعرضها للطلاق أو الترمّل بوفاة الزوج، وقد تم تسجيل الكثير من حالات انتحار القاصرات، بعد أن تجد القاصر نفسها تواجه مشكلات جمّة لا ذنب لها فيها، ولا تعرف كيفية حلّها.
ويطالب الدكتور إيهاب بتشديد الرقابة وتضخيم العقوبة على كل من تسوّل له نفسه التحايل على القانون في إتمام الزواج قبل السنّ القانونية، لأن الجهل والأمّية الثقافية والدينية وعدم الخوف من العقوبة هي أهم أسباب زواج القاصرات، وكذلك الفقر حيث يضطر بعض الأهالي إلى الموافقة على زواج بناتهم القاصرات لعدم قدرتهم على الإنفاق عليهن، فتنتقل القاصر للعيش إلى بيت زوجها ويكون هو المسؤول عنها، وطمعاً في أن تتغلب على الفقر بزواجها من شخص يمتلك الأموال، مهما كانت الفوارق العمرية والطبقية، فضلاً عن عدم النضوج البدني والنفسي للفتاة التي لا تعرف شيئاً عن حقوق الزوج أو تربية الأبناء لأنها لا تزال طفلة، لهذا فإن المؤشرات تدل على أن غالبية هذه الزيجات يُكتب لها الفشل السريع، وتكتسب الطفلة لقب مطلّقة، مما يدمّرها نفسياً.

نقلة غير منطقية
أما عن كيفية تغيير الأعراف الاجتماعية الظالمة التي تشجّع على زواج القاصرات، فتشير الدكتورة وفاء إبراهيم، وكيل كلية الخدمة الاجتماعية في جامعة الفيوم، إلى أن تغيير الأعراف والثقافات المتوارثة، خاصة إذا كانت مرتبطة بفهم خاطئ للدين، أمر صعب ويستغرق وقتاً، ولهذا لا بد من استراتيجية متكاملة لمواجهة الظاهرة وتطبيق مبدأ «الوقاية خير من العلاج»، وكذلك «سيف القانون يطبق على الجميع»، وبالتالي لا بد من أن يدفع من ظلم القاصر بتزويجها ثمن جريمته المرفوضة إنسانياً، قبل أن تكون مرفوضة دينياً، لأن ما من دين سماوي يرضى بالظلم، بإرغام طفلة على الزواج والإنجاب.
وتطالب الدكتورة وفاء وسائل الإعلام ومؤسسات التعليم والتثقيف والتربية، بالعمل المتكامل لتغيير نظرة المجتمع الخاطئة الى زواج البنت في سنّ مبكرة، لأنه يحرم البنت من استكمال مراحل نموها الطبيعي، ويقلّص فترة طفولتها وينقلها من دون مقدمات إلى مرحلة الزوجة المسؤولة بينما لا تزال بحاجة الى من يرعاها.
وتختتم الدكتورة وفاء كلامها مؤكدةً أن هذه النقلة غير المنطقية في حياة القاصر يترتب عنها الكثير من الأضرار البدنية والنفسية، الناجمة عن الفجوة بين قدراتها المحدودة كطفلة ما زالت بحاجة الى مزيد من الرعاية والعطف والحنان، ومتطلبات الحياة الزوجية من رعاية زوج وأسرة وأبناء، وهذه الضغوط تُحدث اضطرابات في الشخصية والعلاقات الزوجية، لعدم قدرة القاصر على تحمّل مسؤولياتها الزوجية، مما يُفاقم المشكلات ويؤدي الى الطلاق.

النجدة الطبية
تفاعلت وزارة الصحة مع القضية واستحدثت «خط النجدة»، لتلقي شكاوى القاصرات اللواتي يُرغمن على الزواج، وعلى الفور يتم إبلاغ السلطات عن ولي الأمر. وترى الدكتورة أماني وهبة، رئيس جمعية «طبيب الخير»، أن هذه الوسيلة ناجعة في محاصرة الظاهرة، ولا بد للأطباء عامة، وأطباء النساء والتوليد خاصة، من القيام بدور إيجابي للحدّ من هذه الظاهرة، بتقديم النصح والإرشاد، أو حتى الإبلاغ في حال لمس أحدهم في الحالة الماثلة أمامه ظلماً فادحاً.
وتشير الدكتورة أماني إلى أن الأطباء المتطوعين والأعضاء في جمعية «طبيب الخير»، سينظّمون حملات توعية بمخاطر الزواج المبكر، وما يترتب عليه من أمراض عضوية وضغوط نفسية، تتحول إلى سلوكيات عدوانية بسبب حدّة الخلافات الزوجية، التي تجعل القاصر عُرضة للعديد من الأمراض النفسية، كالفصام والاكتئاب والهستيريا، هذا فضلاً عن الأضرار الصحية الناجمة عن الحمل في سنّ صغيرة، كالقيء المستمر وفقر الدم والإجهاض والولادة القيصرية المبكرة والارتفاع الحاد في ضغط الدم والفشل الكلوي، وقد تموت الأم القاصر وأطفالها نتيجة مضاعفات الحمل.
وتنهي الدكتورة أماني وهبة حديثها موضحةً أن ما يحدث في زواج القاصرات جريمة مكتملة الأركان، ولا بد من التحرك للتصدّي لها والحفاظ على حياة الفتاة المجني عليها، التي تعجز عن تحمّل المسؤولية فتفكر في الانتحار والموت هرباً من المسؤولية إذا لم تمت بسبب الولادة، خاصة إذا علمنا أن غالبية عمليات الولادة تتم على يد «الداية» وليس في المستشفى تحت إشراف طبيب، وهذا بسبب تكاليف الولادة من جانب، والثقافة الخاطئة في تلك البيئات التي ترى أن المعيب أن يُعاين طبيبٌ المرأة.

تشديد وردع
تؤكد المستشارة هالة جاد، أنه ليس بالتشريعات القانونية وحدها يتم القضاء على زواج القاصرات، بل لا بد من وجود منظومة متكاملة يشارك فيها الجميع، بما في ذلك مؤسسات التشريع، التي عليها إنزال أشدّ العقوبات القانونية في حق كل من شارك في هذه الجريمة غير الإنسانية، حيث يتم «الوأد» المعنوي باسم الزواج.
وتشير المستشارة هالة إلى أن جريمة زواج القاصرات مركّبة، وبالتالي يجب أن تشمل العقوبات كل من سهّل وقوعها أو ساعد في ارتكابها، حتى لو كان ولي أمرها، الذي من واجبه أن يوفّر الحماية القانونية لابنته ويجنّبها الوقوع فريسة لهذا النوع من الزواج، ويكون ذلك بأن نفتح للقاصر قنوات التواصل مع مختلف مؤسسات الدولة، ومنها الشرطة ووزارة العدل والمنظمات النسائية، لأن المستفيدين من زواج القاصرات كثر ولا بد من أن تطالعهم عصا الردع القانوني.
وتنبّه المستشارة هالة جاد إلى نقطة خطرة، وهي أن غالبية القاصرات يضيع مستقبلهن التعليمي بمجرد زواجهن أو قتلهن باسم الزواج؛ إذا جاز لنا التعبير، والقوانين الحالية في حاجة إلى مزيد من التفعيل، حتى يتم التشدّد فيها من خلال مؤسسات التشريع، وهذا يستغرق وقتاً.
وتختتم المستشارة هالة جاد كلامها، مؤكدةً أن القضاء على هذه الظاهرة يتم من خلال التوعية المجتمعية، بدءاً من الأسرة ومؤسسات التعليم والتثقيف والإعلام، وانتهاء بساحات المحاكم، ليتم سجن وتغريم كل من يسهل زواج قاصر أو يتستر على هذا الزواج أو يخفيه، أو يعلم به ولا يبلّغ عنه، فلا بد لكل مسؤول من أن يقوم بدوره؛ حتى وإن كان عُمدة أو شيخ القرية والمأذون والأقارب المقرّبين جداً من الضحية، فنحن أمام جريمة قتل معنوي لا تقل خطورةً عن القتل الحقيقي، بل إنها قد تؤدي إلى وقوعها في ظل انتحار بعض هؤلاء البنات الصغيرات اللواتي تم حبسهن في سجن الزواج المبكر.