تمرّد، استقلاليّة أو ظروف معيشيّة... عندما يعيش المرء خارج البيت الأبويّ!

دينا الأشقر شيبان 17 فبراير 2018

يمتاز مجتمعنا الشّرقي بالعلاقات العائليّة الوطيدة والتّقارب ما بين أفراد الأسرة الكبيرة والتّواصل المستمرّ مع الأصدقاء والجيران... حيث إنّنا أشبه بعائلة كبيرة! إلاّ  أننا نلحظ ظاهرة انتقال الشّبان والشّابات من بيوت أهلهم إلى مساكن خاصة بهم، قريبة من المدينة، من مكان العمل أو الدّراسة... لأسباب متفاوتة.
فهل يتقبّل المجتمع هذه الظاهرة؟ وما الأسباب الحقيقيّة للإقدام على هذه الخطوة؟


«القرية الكونيّة» مصطلح متداول بكثرة في أيّامنا هذه، بفعل التّقارب الحاصل من جرّاء وسائل التّواصل الاجتماعيّ وثورة الإنترنت والتّغيّرات الحاصلة في مختلف البلدان. فلن تقف المسافات الجغرافيّة بعد اليوم عائقاً أمام الإنسان وتحول دون تحقيقه طموحه بالعلم والمعرفة والتّحصيل والعمل. من جهة أخرى، شجّع هذا الانفتاح الكبير على الآخر الفرد على اختيار دربه، من دون التقيّد بسائر العراقيل التّي قد تواجهه. ولعلّ أهمّها عامل البُعد الجغرافيّ. إذ بات من الممكن أن يدرس الشّخص في بيئة مختلفة، أو مدينة مجاورة أو حتى بلد آخر. كما من الممكن أن يعمل في منطقة أخرى، ما يضطرّه إلى تغيير مكان إقامته والابتعاد عن بيته الأبويّ بكامل إرادته ولظروفه الخاصّة. فما هي الأسباب التي قد تحفّز الإنسان على العيش بمفرده، في بيت مستقلّ؟ وكيف يتقبّل الأهل أوّلاً والمجتمع ثانياً هذا الانتقال الجذريّ؟ وما فوائد انسلاخ «الإبن» عن أهله واعتماده على نفسه؟ وما عواقب ذلك؟

تتناول الاختصاصيّة في علم النّفس زينة نجيم ظاهرة الاستقلاليّة عن الأهل وما تبنيه في شخصيّة المرء. كما تتطرّق الاختصاصيّة في علم الاجتماع ساندرا جبّور إلى نظرة الأهل والمجتمع الى ذلك ويُدلي بعض الشبّان بشهاداتهم حول الموضوع، شارحين أسباب انتقالهم من بيت ذويهم.


خيارات مصيريّة

تشكّل فترة بلوغ سنّ الرّشد والانتهاء من المرحلة الدراسيّة مفصلاً أساسياً في حياة الإنسان، الذّي عليه اتّخاذ القرارات المصيريّة التي ستحدّد مسار مستقبله وحياته. فبعد التّنشئة العائليّة والإرشادات الاجتماعيّة التي اكتسبها وترعرع عليها، تأتي مرحلة الخيارات والحسم، من حيث اختيار الاختصاص الجامعيّ أو التوجّه المهنيّ الذّي سوف يلازمه في حياته.

تقول نجيم: «كلّ شخص يريد أن يبدأ حياته الرّاشدة بحرّيّة واستقلاليّة، خاصّة في ظلّ المعاناة المستمرّة لصراع الأجيال وتضارب الآراء واختلاف وجهات النّظر، بحيث قد لا يتفهّم كلّ الأهل رغبات أولادهم، لا بل ويتوقّعون منهم أن يكونوا نسخة طبق الأصل عنهم. بينما يرغب الشّباب في تقليد الغرب، أو ببساطة الانتفاض على واقعهم. لكن لا يمكن الجزم بأنّ يكون طرف واحد محقّاً تماماً والآخر مخطئاً، فلا بدّ من التّوصّل إلى حلّ يُرضي الطّرفين، بأقلّ ضرر ممكن. فمن البديهي أن تختلف تطلّعات الجيل الجديد عمّا يتمنّاه لهم ذووهم».

وتوضح نجيم: «تتعدّد الأسباب التّي قد تدفع بالإنسان إلى مغادرة بيت أهله والابتعاد عن محيطه. فقد يكون الدّافع نفسياً، ألا وهو الرّغبة في التخلّص من رقابة الأهل المستمرة وأوامرهم. كما قد تنبع من الرّغبة في إثبات الشّخصيّة والقدرة على الاعتماد على الذّات. من جهة أخرى، قد يُضطرّ بعض الأشخاص - وبخاصّة سكّان الجبال والقرى البعيدة - في بعض الأحيان إلى البحث عن سكن قريب من مكان دراستهم أو مقرّ عملهم، وغالباً ما يكون ذلك في المدن، توفيراً للوقت ومصاريف التّنقّل وصعوبة المواصلات. ولا يقتصر الأمر على الانتقال من منطقة إلى أخرى، بل قد يُضطرّ المرء أحياناً إلى السّفر خارج البلاد للتخصّص الجامعي ونيل الشّهادات العُليا، أو بحثاً عن لقمة عيش كريمة في بلدان تتوافر فيها وظائف ذات دخل محترم».

وتجدر الإشارة إلى أنّ الاستقلاليّة أوّلاً حالة ذهنيّة ونفسيّة، وليست مجرّد فكرة العيش منفردين. فذلك يساهم لا محالة في بناء جزء من شخصيّة الإنسان، من غير الممكن أن يُبنى لو عاش في ظروف عاديّة مع عائلته وفي محيطه.


إيجابيّات الاستقلاليّة

تؤكّد نجيم أنّ «العيش باستقلاليّة من أبرز التّجارب الحياتيّة الإيجابيّة التي تصقل شخصيّة الإنسان وتفرض عليه الاعتماد على نفسه وتمنحه حسّاً بالثّقة وتحمّل المسؤوليّة وتخلق مناخاً ملائماً لتحقيق الطّموحات. ذلك أنّ الاهتمام بمختلف التّفاصيل الرّوتينيّة اليوميّة من طبخ وكيّ وجلي وتنظيف وسواها... بالإضافة إلى الشّقّ العمليّ والمهنيّ تُكسب المرء دراية في التّعامل مع الآخرين وتمنحه طاقةً لمواجهة شتّى العقبات التّي قد تعترض طريقه».

وتنوّه نجيم موضحةً أنّ «كلّ إنسان عُرضة للخطأ كي يتعلّم منه درساً مهماً، ولا يمكن نكران أنّ تجربة العيش باستقلاليّة لا تخلو من الصّعوبات أو من المشاكل والإنجرار إلى الخطأ أحياناً، حسب تربية الشّخص وشخصيّته والمحن التي قد يمرّ بها والأزمات التّي قد يصادفها». ويبقى الأهمّ أن يتعلّم من أخطائه لمواجهة الحياة في ما بعد. فالعيش مطلقة كما قد يصفه البعض، يفرض قيوداً ذاتيّة ورقابة من الشّخص نفسه على ذاته، إذ يصبح إنساناً واعياً، يميّز الصحّ من الخطأ، ويرسم لنفسه الخطوط الحمر ويحاول قدر المستطاع عدم تخطّيها احتراماً لمبادئه وإرضاءً لصورته الذّاتية، فيمارس، من حيث يدري أو لا يدري، ما تعلّمه من أهله وما تلقّفه من عادات وقيم وأصول».


نظرة المجتمع

في مجتمعاتنا الشّرقيّة، لا تزال العقليّة التّقليديّة مهيمنة في بعض القرى وبين بعض أفراد العائلات. فرغم الانفتاح والتطوّر ومزاعم تقبّل رأي الآخر واحترام الحريّة الفرديّة، لا تزال بعض العائلات ترفض رفضاً قاطعاً انشقاق أحد أفرادها عن البيت الأبويّ، وخصوصاً إذا تعلّق الأمر بالفتاة!

ترى جبّور أنّ «المجتمع العربيّ يرفض بشدّة استقلاليّة الفتاة وإن بهدف التّحصيل العلميّ أو العمل، معتبرين أنّ لا بدّ لها من البقاء مع أهلها ريثما تنتقل لاحقاً إلى بيتها الزّوجيّ. وهذه النّظرة مردّها الى إرثٌ من العادات والتّقاليد والمفاهيم الاجتماعيّة المتراكمة منذ زمن طويل. وينبع إحساس الأهل من عدم وجود وعي كافٍ عندهم، يُتيح لهم التّمييز ما بين الطّموح والفلتان!».

تقول جبّور: «قد يتقبّل الأهل، وإن على مضض، فكرة ابتعاد ابنهم عنهم، في سبيل العلم أو العمل، مُعزّين أنفسهم بأنّه يؤسّس لمستقبله. لكن عندما يحين دور الفتاة لتقوم بالأمر نفسه، تلقى معارضةً ورفضاً قاطعاً، خوفاً من الصّيت العاطل الذّي سوف يلازمها والعار الذّي قد تجلبه لأهلها.

فنحن نعيش في مجتمع يزعم تقبّل الأفكار الحديثة علناً، لكنّنا ضمناً عالقون في شرنقة الأقاويل وفكرة الحفاظ على السّمعة والشّرف. بينما استقلاليّة الفرد في الغرب تتزامن مع بلوغه سنّ الثّامنة عشرة، فيغادر بيت ذويه لتأسيس مستقبله الخاص، وهو أمر عاديّ ومن أبسط المسلّمات.

من جهة أخرى، تؤكّد جبّور أنّ «على الرّغم من العادات السّائدة، فإنّ ظاهرة إستقلاليّة الأولاد عن ذويهم في تكاثر في أيّامنا هذه. وقد بات الأهل والمجتمع معاً، أكثر تقبّلاً لهذا الأمر، بفعل ثقافة المدن التّي بدأت تجتاح القرى ، من خلال شاشات التلفزيون والإنترنت ووسائل التّواصل الاجتماعيّ التّي تلقي الضّوء على أهميّة تشجيع الولد على تحقيق طموحاته وعدم الوقوف عقبة في طريق نجاحه ومستقبله».


شهادات حيّة

حبيب شعيا شاب من قرية في شمال لبنان، بعيدة عن العاصمة. أنهى تعليمه المدرسيّ وتسجّل في جامعة في بيروت، ما حتّم عليه الانتقال من بيت أهله ليسكن في مهجع Foyer خاص بالطلاب، بالقرب من جامعته. يقول حبيب إنّه لا يملك سيّارة خاصّة، ولا يستطيع التّنقّل ما بين بيته وجامعته بشكل يوميّ، لذا فضّل تقريب المسافات واغتنام الفرصة واختصار الوقت. كما وجد عملاً بدوام جزئيّ في مطعم ليتمكّن من مساعدة أهله في مصروفه الخاص. وهو يؤكّد أنّ تجربة العيش بعيداً عن أهله حلوة ومرّة في آن واحد. فهي خبرة جديدة أتاحت له فرصة التعرّف إلى أصدقاء جدد وشركاء في السّكن، وعلّمته الاتّكال على نفسه، لكنّها من جهة أخرى صعبة لأنّه بعيد عن محيطه الذّي اعتاد عليه، وهو بالطّبع يشتاق إلى أهله وبيته، لكنه يزورهم في عطلة الأسبوع. يؤكّد أنّ عائلته تدعمه بشكل تام وهم فخورون بإنجازاته ويتحرّقون شوقاً لرؤيته كلّ أسبوع، كما تتولّى والدته مهمّة الطّبخ، فتزوّدة بمأكولات تكفيه أسبوعاً كاملاً. ويقول إنه بفضل «الواتساب» يستطيع التكلّم مع أهله ورؤيتهم بشكل يوميّ، ما يسهّل عليه الانسلاخ عنهم بعض الشيء، إذ يبقون على تواصل مستمرّ.

سارة نصر فتاة لبنانيّة قرّرت السّفر إلى الولايات المتّحدة لإكمال دراستها الجامعيّة، بعدما نالت منحة دراسيّة في جامعة أميركيّة مرموقة. تقول سارة إنّ الأمر كان صعباً في البداية، إذ اضطرّت إلى إقناع أهلها بالسّماح لها بمغادرة البيت أوّلاً، ولبنان ثانياً! وبعد تخطّي هذه العقبة، كان الانتقال صعباً عليها، إذ أُجبرت على تعلّم قضاء حاجاتها اليوميّة والإتّكال على نفسها. تقول: «تعلّمت الطّبخ والجلي والكي والتّنظيف في الغربة، وكنت أتّصل بأمّي لآخذ منها وصفات الطّعام، وهذا أمر متعب، بالإضافة إلى الجامعة والحياة الاجتماعيّة التّي كوّنتها. من ناحية أخرى، كانت تجربة مفيدة للغاية، إذ أكملت دراستي أوّلاً، وتعرّفت إلى حضارة مختلفة وأشخاص كثر من بلدان مختلفة، وانخرطّت في جوّ جديد وأحسست بالاستقلاليّة وزادت ثقتي في نفسي وأحسست بشعور أهلي والتّعب الذّي يعانونه بشكل يوميّ لتأمين عيش كريم لي ولإخوتي».

أنيس خيرالله تلميذ جامعيّ ومتطوّع في الدّفاع المدنيّ اللّبناني. في الفترة الأولى، كان يتنقّل ما بين بيته في جرود منطقة كسروان، مقرّ خدمته في قلب جونيه، وجامعته في الفنار. لكنّه تعب بعدها وأحسّ بأنّه يومياً يهدر وقته على الطّريق وفي زحمة السّير الخانقة، فقرّر أن يغيّر مكان إقامته وينتقل للعيش على مقربة من عمله وجامعته. يقول أنيس إنّه اتّخذ القرار المناسب في الوقت المناسب إذ وفّر على نفسه العناء والمشقّة وهو سعيد بخياره هذا. يؤكّد أنّ الاستقلاليّة في المنزل تولّد الرّاحة النفسيّة وتعطيه الثّقة في النّفس كما تمنحه الرّاحة بعيداً عن الضجيج. لكنّه ما زال بالطبع مواظباً على زيارة أهله ويهاتفهم بشكل دائم ويؤكّد أنّ لا شيء يُغني عن العائلة أو يحلّ مكانها. لكنّها مرحلة من عمره، ولا بدّ له من الاستفادة من كلّ الفرص في سنّه هذه.